Thursday 30th September, 1999 G No. 9863جريدة الجزيرة الخميس 20 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9863


قضية للنقاش
الخلل الاستراتيجي في الشرق الأوسط
رضا محمد لاري

ترفض إسرائيل بصورة قاطعة الوساطة الفرنسية في المباحثات السلمية الدائرة بينها وبين الفلسطينيين لانها لا تلتقي مع الشروط الاسرائيلية للسلام التي تريد قلب حقائق الاوضاع الاقليمية القائمة حتى تحقق صلحا يعطيها ولا يأخذ منها ويترتب عليه سلام يحقق امنها ويتجاهل الامن الاقليمي لغيرها من الدول التي تشاركها الحياة فوق ارض الاقليم.
تشارك واشنطون تل ابيب في هذا الرفض لوساطة فرنسا لانها تريد سلاما في الشرق الاوسط يحمل بصمات الولايات المتحدة الامريكية باعتبارها القوة الفريدة علىالارض التي لاتقبل الحوار مع غيرها وتسعى الى فرض ارادتها على اقليم الشرق الاوسط تحت مظلة قناعتها بأن الارادة الامريكية يجب ان تسود في كل اقاليم الدنيا بما في ذلك الاقليم الاوروبي حليف الامس والمتمرد عليها اليوم، والمتطلع الى منافستها على الزعامة العالمية في الغد.
سارعت امريكا إلى اغلاق الابواب في وجه اوروبا، وصفعت مؤخراً الباب في وجه فرنسا التي تطاولت عليها بالتدخل في شؤون الشرق الأوسط تارة من بوابة دمشق وبيروت، وتارة اخرى من بوابة اريحة بعد ان زار رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية باريس في طريق عودته من واشنطون، واطلع الرئيس الفرنسي جاك شيراك على ما دار مع الرئيس الامريكي بل كلينتون وعلى ما يدور داخل اقليم الشرق الأوسط من مسلك صهيوني يستهدف المساس بالاماكن المقدسة الاسلامية والنصرانية بمدينة القدس التي تخطط إسرائيل لاتخاذها عاصمة لها بدعم وتأييد من امريكا تارة تعلنه، وتارة اخرى تخفيه يحكمها في كلتا الحالتين تخطيط يرمي إلى جعل القدس عاصمة اسرائيل.
هذا الموقف الامريكي المؤازر لرغبات اسرائيل في القدس دفع الرئيس الفرنسي جاك شيراك الى القول امام الصحافيين بعد لقائه بياسر عرفات في قصر الاليزيه ان للقدس خصوصية مؤثرة على العالم كله تخرجها من اطر المفاوضات السلمية بالتوجه الاسرائيلي والرغبة الامريكية لانها ارض مقدسة عند الديانات السماوية الثلاثة، وترتبط الحضارة الانسانية المعاصرة بتاريخ هذه المدينة المقدسة الامر الذي يتطلب تحديد معالمها المستقبلية بما يتفق مع ما بها من مقدسات دينية، وتمشيا مع وقعها التاريخي على الحضارة الانسانية المعاصرة التي تنعم بعطائها كل الدنيا اليوم.
الفكر الفرنسي تجاه القدس الذي عبر عنه بوضوح الرئيس جاك شيراك يتطلب التفاف العرب حول فرنسا لدعم موقفها من القدس، ومواصلة اللجوء إلى باريس لتضع ثقلها على المفاوضات السلمية من خلال الاصرار العربي على وساطتها حتى ولو كرهت تل أبيب ومن ورائها واشنطون، لانه بدون هذا الدور الفرنسي في المفاوضات حول الوضع النهائي للقدس ستنفذ أمريكا رغبة إسرائيل بجعل القدس عاصمة اسرائيل دون ان تعبأ بالمقدسات الدينية القائمة بها.
ليس من العدل في شيء ان تختار اسرائيل أمريكا لتكون وسيطا في مباحثاتها السلمية مع العرب، ولا يعطى العرب حقا مماثلا في اختيار فرنسا لتكون وسيطا لهم في مباحثاتهم السلمية مع إسرائيل خصوصا وان احكام القانون الدولي العام تنظم الوساطة باختيار كل طرف في النزاع للوسيط الذي يثق فيه ليمارسا بصورة مشتركة الوساطة في النزاع القائم او يختارا وسيطا ثالثا يشاركهما في الوساطة بين الطرفين او الاطراف المتفاوضة على السلام.
اردت ان اقول بأن اختيار العرب لفرنسا لتكون وسيطا في مباحثات السلام مع اسرائيل يستند الى القانون الدولي العام، واصرار إسرائيل على ان تكون امريكا المنفردة بالوساطة يفتقد المنطق القانوني خصوصا في ظل الشكوك العربية في نزاهة أمريكا التي اصدر برلمانها الكونجرس قرارا يقضي بأن القدس عاصمة اسرائيل ويواصل مطالبته بنقل السفارة الامريكية في اسرائيل من تل أبيب العاصمة المؤقتة إلى القدس العاصمة الابدية لاسرائيل.
ان خضوع واشنطون لنفوذ الدهلزة الصهيونية التي تواجه قراراتها السياسية لخدمة اسرائيل اكثر من خدمة الوطن الامريكي يجعلها غير مؤهلة للقيام بدور الوساطة بين اسرائيل والعرب في قضية المباحثات السلمية بمنطقة الشرق الاوسط.
لا نقول ذلك استنادا لما يحدث في داخل امريكا من انصياع للنفوذ الصهيوني على اهميته في قضية السلام وإنما نؤكد عدم اهلية واشنطون للقيام بدور الوسيط بين العرب وإسرائيل بعد اختيارها حليفا استراتيجيا للولايات المتحدة الامريكية في منطقة الشرق الاوسط مما يجعل رفضنا لوساطتها يستند إلى ما يحدث هنا في اقليمنا من ميل امريكي لاسرائيل يتعارض مع المصالح العربية ويخل بموازين الامن الاقليمي خصوصا بعد ان ربطت بين انقرة العضو في حلف شمال الاطلنطي الناتو وبين تل أبيب الحليف الاستراتيجي لامريكا في الاقليم بالحلف العسكري الذي يربط البلدين ضد دول الاقليم كلهم من العرب يضاف اليهم إيران التي تشاركهم في الاسلام ولا تنتمي معهم إلى العروبة.
هذا الخلل الاقليمي الناتج عن زرع حلف عسكري بين دولتين علمانيتين تركيا بعسكرها الجاحدين للدين وإسرائيل بصهيونيتها الملحدة بنكران البعث والنشور ليفرضا ارادتهما على المجتمعات المؤمنة بالله في الشرق الاوسط، التي تجلت بالعمل على نزع كل المقدسات الدينية عن القدس بما فيها المقدسات اليهودية لاتخاذها عاصمة حضارية بعيدة عن القيادات الخارجية لدولة الصهاينة إسرائيل التي اصبحت ارضاً ملحدة لا علاقة لها بارض الميعاد كما يقول المؤمنون اليهود في داخل إسرائيل وخارجها.
معالجة هذا الخلل الاستراتيجي في داخل اقليم الشرق الاوسط يجب ان يسبق تحديد الوضع النهائي الذي يتطلع إليه الفلسطينيون، والبدء في المفاوضات السلمية على المسار السوري اللبناني المشترك، وهو ما تعجز عن تحقيقه امريكا لانها ساهمت بأدوارها المباشرة وغير المباشرة في بناء هذا الخلل الاستراتيجي ومن المستحيل ان تقوم اليوم بهدم ما قامت ببنائه في الامس.
مظاهر هذا الخلل الاستراتيجي في اقليم الشرق الاوسط مباركة امريكا لامتلاك اسرائيل اسلحة الدمار الشامل بما فيها القنابل النووية، ومحاربتها في نفس الوقت لامتلاك غيرها من دول الاقليم أسلحة الدمار الشامل بما فيها القنابل النووية واصرارها بدون منطق على ان توقع هذه الدول وثيقة تحريم امتلاكها لهذه النوعية من الاسلحة في الوقت الذي تغض فيه الطرف عن ما لدى اسرائيل من هذه الاسلحة المحرمة على غيرها من دول الاقليم.
هذا الخلل الاقليمي الذي يعطي التفوق لاسرائيل على جيرانها العرب دفع رئيس الوزارة الاسرائيلية يهودا باراك إلى تجزئة العمل السلمي ليس بغرض تحجيمه فقط وانما بهدف تحويله ايضا إلى صفقة بالحصول على المزيد من التنازلات العربية بالضغط الامريكي لتحصل اسرائيل على انتصار سلمي يحقق لها الهيمنة الاقتصادية والتفوق العلمي لتضمن فرض سيطرتها على الاقليم دون اللجوء الى السلاح الذي يقلق الانسان الاسرائيلي لما يسببه من دمار للارض وقتل للشباب بصورة جعلت الناس في داخل اسرائيل يعارضون سيطرتها على الاقاليم العربية بالتكلفة الباهظة التي تمثلت في ثكل الامهات وترمل النساء ويتم الاطفال.
يمارس رئيس الوزارة الاسرائيلية يهودا باراك في سبيل الوصول الى هذا الانتصار السلمي كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة ابتداء من القتال في لبنان والمطالبة بالتطبيع الكامل للعلاقات العربية الاسرائيلية وتفتيت المسار المشترك بين سوريا ولبنان، وسرقة الارض من الفلسطينيين وصهينة القدس ورفض الوساطة غير الامريكية وعدم الالتزام بالمعاهدات السلمية المبرمة مع الفلسطينيين والخروج على اتفاقيات التنفيذ لتلك المعاهدات بما فيها الاتفاق الاخير المبرم في شرم الشيخ، ورفض مطلق لقرارات مجلس الامن حتى لا تكون مرجعية للتفاوض مع سوريا حول مرتفعات الجولان لتفرض على دمشق ما تريده اسرائيل من اخذ الارض والسلام منها عنوة من مواطن احساس اسرائيل بالتفوق على كل جيرانها العرب بالحلف العسكري المبرم بينها وبين تركيا.
من العبث السياسي الدخول في مفاوضات سلمية مع اسرائيل في ظل هذا المناخ الاقليمي المسموم بالادوار الامريكية التي تعمل على تنفيذ الارادة الاسرائيلية دون ان تعبأ بالحق العربي في الارض او تضع في حساباتها المصالح العربية لانها تدفعها الى الدوران في افلاك المصالح الاسرائيلية ذات الحظوة عند امريكا التي تخطط لربط كل المصالح الاقليمية بالكيان الاسرائيلي بعد تحويله إلى دولة عظمى داخل اطار اقليم الشرق الاوسط.
التحرك العربي المضاد لهذا التوجه الامريكي الرامي الى فرض سيطرة اسرائيل على كل الاقليم تحت مظلة سلمية زائفة، يتطلب الاتفاق على استراتيجية عربية مشتركة تقوم دعائمها على رفض الوساطة الامريكية المنفردة وتطالب بإلحاح وقوة بوساطة غيرها من الدول الاوروبية وأكثر هذه الدول تأهيلا لمثل هذه الوساطة هي فرنسا ذات المواقف المستقلة عن امريكا منذ بداية الجمهورية الخامسة في سنة 1958م بموقف الجنرال شارل ديجول الرئيس الفرنسي الصارم في وجه الرئيس الامريكي دوايت ايزنهاور، وبالموقف الحالي للرئيس الفرنسي جاك شيراك من قضية القدس.
على العرب التحرك بحذر شديد فوق المسارات السلمية ولا يتم ذلك إلا بمشاركة فرنسا لتحديد معالم الطريق السلمي وقيامها بدور الدليل حتى لا يضل العرب الطريق فيصلوا إلى الاستسلام بدلا من السلام بكل ما يترتب على ذلك من ضياع لكل الحقوق بالخضوع اللا ارادي لنفوذ اسرائيل بعد انتصارها السلمي عليهم.
دعوني اقول لكم بأن الخيار الوحيد للعرب هو ايجاد دولة محايدة فرنسا او غيرها لتشرف على المفاوضات السلمية العربية الاسرائيلية حتى يتحقق السلام الفعلي في داخل الاقليم الذي يلغي الخلل ويعيد التوازن له.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved