Sunday 10th October, 1999 G No. 9873جريدة الجزيرة الأحد 1 ,رجب 1420 العدد 9873


كتاب هزائم المنتصرين (2)
السينما والرواية في (الهامس للحصان)
إبراهيم نصرالله

ولعل ما يشير إليه الفيلم من طرف بعيد ويغاير بعض نوايا رسالته التي وجد من أجلها، ذلك الميل الذي تبديه النفس لما هو خارج قناعاتها دائما، بمعنى أو بآخر ذلك الشك الذي يربض في عمق كل اختيار، فبوكر يبدو رجلا غير قابل للمساومة في البداية (رفضه الذهاب الى المدينة) لكنه غير محصن الى ما لا نهاية حين تصل المدينة اليه، رغم ان وصولها يتم وفق شروطه هو لا شروطها, ورحيل آن المفاجىء في نهاية الفيلم بعد ان يكون قد جهز لها حصانا لجولة مثل تلك التي شاركها إياها قبل ذلك، دليل على ان ثمة شيئا قد كُسر في تلك العلاقة الصوفية بين بوكر والطبيعة لصالح إمكانية الحب والخروج من العزلة, وفي ذلك إشارة اضا الى ان الخيار، ومهما كانت الحرية التي توافرت من أجل ان يتحقق لا يمكن ان تكون حرية مطلقة، وبالتالي فليس ثمة خيار مطلق.
يحمل بوكر ابنة المدينة آن على ظهر حصان، ويمضي معها النهار كله، يريها عظمة عالمه، ولا يمكن ان يكون الأمر مجردا هنا، لأنه في الحقيقة محاولة إقناع لها بهذا العالم، وهذا الإقناع يمكن ان نعيده الى سببين، لكنهما في النهاية يصبان في بعضهما: الأول هو رغبته في إقناع ذاته بشهادة من آن، او باعجابها ان خياره يستحق وحدته التي يعيش، اي انه بحاجة لمن يؤكد له انه لم يكن على خطأ، أما الثاني فهو دعوة دفينة ل آن لكي تتورط في حب طريقة عيشة و(حاضنتها) الحميمة الهادئة، لكيلا يكون وحيدا في النهاية, وكما يقال عندنا (الجنة دون ناس ما بتنداس) أي لا تُسكن, وما يجعلنا نذهب الى هذا الحد، ان ليس في مشروع بوكر: وحدته وحلوله بما حوله، أي خروج لإقناع الآخر (أي آخر) لجذبه نحو عالمه، وبعبارة أخرى: إنه لا يلعب دور المبشر، بقدر ما يلعب دور الناسك.
ما يدور من أحداث بعد ذلك، على طريق العلاج الطويل، الذي يلامس حدود الفشل احيانا، يوحد الحالات، لتغدو صورة لعلاقة بوكر بالحصان المصاب، الذي عاد بريا، ينتفض لمجرد اقتراب اي إنسان منه حتى الطفلة، وهوحصانها.
والحقيقة أننا نشعر هنا، ان علاقة بوكر بالخيول أوهَى بكثير مما كنا نتوقعها، فثمة مسحة من السحر مفقودة، الى حد ان بوكر يتحول في كثير من الأحيان الى مجرد مروِّض للخيول: يمكن ملاحظة العنف الذي يمارسه على الحصان، الى تلك الدرجة التي تدفع الأم لأن تشيح بوجهها مرة، وتدفع الإبنة كي تركض مبتعدة مرة اخرى، وتدفع الأب الذي يصل المزرعة بعد ذلك بصورة مفاجئة للاطمئنان على زوجته وابنته، ان يُخفي وجهه بسبب قساوة أحد المشاهد، ويمكن مشاهدة ذلك أيضا في إجبار الحصان على السير في النهر وهو موثق بحبلين يمتدان الى الضفتين، والطريقة التي يحدُ فيها من هياج الحصان حين يقوم بربط إحدى أرجله برقبته، ولعل ذلك أصعب مشهد على الفتاة التي ترى نفسها في الحصان وهو يعرج، ثم الكيفية التي يتمكن فيها أخيرا من إنهاكه، بل وكسر إرادته، مما يجعل الحصان يخر شبه محطم على الأرض قبل ان يقوم بوكر بدعوة الفتاة لامتطائه وهو ملقى كجثة علىالأرض, كما ان حالات الاقتراب من الحصان، تفتقد لحميمية ما، الى درجة أننا لا نحس بذلك الخيط الواصل بين أحاسيس بوكر والكائن الذي يقف أمامه، ولعل المشهد الأكثر أهمية، والمرفوع على أكف الشعر، هو ذلك المشهد الذي يصورهما معا في الحقل الفسيح بعد فرار الحصان، بوكر في طرف الحقل والحصان في منتصفه، وكل منهما يحدق في الآخر من بعيد، يقصيهما عن بعضهما شكل ما بين الرغبة والخجل، او الحب والعتب، او النفور والرغبة في الاقتراب، وقد كانت تلك المحاولة الأخيرة، حتى ان آن تكون قد جاءت بسيارتها لوداعه، أو لإلقاء نظرة يأس، قبل ان تقفل عائدة من حيث أتت, لكن لحظة اقتراب الحصان من بوكر ولجوئه إليه، والتي قدمت هنا كما لو ان كل شيء انتهى على خير، هي في الحقيقة مقدمة المشاهد القاسية، مما يجعلها تفقد معناها الكبير أخيرا.
هل أراد ريدفورد (المخرج) هنا ان يصور الأمر صعبا الى هذا الحد، ليقول لنا ما الذي فعلته المدينة بهذاالمخلوق الجميل (ليست مصادفة هنا ان شاحنة هي التي تدهم الحصان)، الى ذلك الحد الذي أصبح فيه شفاؤه يتطلب معجزة؟ ربما ولكن الأمر المحير هنا يتعلق بشخصية بوكر نفسها، التي لم تستطع التواصل مع الحصان بالهمس وحده!
تذكرنا مداهمة الشاحنة للحصان هنا بفيلم كيرك دوغلاس الجميل (وحيدون هم الشجعان)، وتذكرناالعلاقة بين الحصان النافر وبوكر، بالعلاقة بين الطفل والحصان النافر الشبيه في الفيلم القصيدة (الفحل الأسود) لكن الطريقة التي يؤنسن فيها الطفل علاقته بالحصان وهو يبدد حذره شيئا فشيئا على ذلك الشاطىء المهجور، تسجل هنا بما لا يقاس ل(الفحل الأسود) ولعل لقاء الطفولة بما تعنيه من صفاء وطهر هناك يمتلك القدرة اكثر للاقتراب من كائن هو الأقرب لقلوب البشر وأحلامهم على الدوام، ونعني الحصان.
إن رحلة العلاج المتمثلة في العلاقة المفترضة بين بوكر والحصان، تسير في خطوط متوازية متقاطعة مع بقية حكايات الفيلم وتصبح مرآة لها: الأم تهمس في أذن ابنتها بعد موجة انهيار داهمت الفتاة، تقترب الكاميرا لترينا أذن البنت في مشهد طويل وقد انحسر عنها شعرها الطويل، وتعود الكاميرا الى شفاه الأم/ وجهها، ثم ذلك المشهد الذي تنهار فيه البنت ثانية لتبوح لبوكر بما لم تقله للأم، وهي تبكي مستعيدة الطريقة التي وقع فيها الحادث، هنا وفي المشهدين ثمة همس حقيقي، عميق لو تجلى في مشهد الهمس للحصان لارتفعت شاعرية الفيلم وعمق حالة التصوف فيه الى حد لا يوصف وليست الجملة التي يقولها بوكر للصغيرة بعد مشهد الهمس سوى جزء من تلك الرسالة التي كان يود ريدفورد قولها، وهو يسعى لإبراز نبل الطبيعة، يقول: لقد كان الحصان يواجه الشاحنة بجسده وهو واقف على قدميه محاولا حماية حياتك,, لماذا لا تفهمين الأمر على هذا النحو؟
لقد بسط ريدفورد في فيلمه هذا كمخرج، جانبا مهما من جوانب حياته الخاصة، هو الذي يعيش حياة لا تختلف عن حياة بوكر التي أبى إلا ان يجسدها هو، رغم ان ذلك كلفه الوقوف امام الكاميرا وخلفها للمرة الأولى، بعد ان كان يكتفي بالوقوف خلفها كلما دخل تجربة إخراجية جديدة, لقد بسط هنا حياة الريف وأخلاقياته التي تكاد تنبع من كل شيء فيه: أسرة أخيه، ممثلة بالأخ، وزوجته التي لا تحلم بشيء أكثر من حلمها بزيارة (مراكش) وليس نيويورك او شيكاغو او حتى باريس، ثم تلك الشخصية الجميلة النقية التي يؤديها الطفل ابنهما، الذي يحاول التقرب من ابنة آن، وتلك الدماثة المطلقة التي يتمتع بها كجنتلمان صغير، في اقترابه وفي محاولة اعتذراه بعد ان أحس انه ضايقها.
لقد غير ريدفورد في نهاية الرواية لتناسب ما يريد قوله، لكن النهاية تحمل في تفاصيلها نهايات اشياء كثيرة، لقد شفيت البنت، وتمكنت من امتطاء حصانها الذي شفي بدوره!! لكن بوكر نفسه وكذلك آن قد بدأ فصل (مرضهما) بعد ان (اصيب) كل منهما بالآخر، وإن كان التحدي الذي واجههما طوال الفيلم هو ان ينتصرا في معركتهما لعلاج الحصان وصاحبته الصغيرة.
تعود آن الى نيويورك، غير آن التي غادرتها، ويصبح بوكر الذي (مرت عبره) هذه التجربة وجرت، حسب فيلمه النهر يجري عبره غير بوكر الذي كان قبلها، إنه كما يبدو اكثر وحدة وأقل ثقة بمصيره الإنساني الذي اختاره, فالحكاية كلها هنا ليست أكثر من فصل في حكاية أكبر عنوانها (هزائم المنتصرين).
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved