Sunday 10th October, 1999 G No. 9873جريدة الجزيرة الأحد 1 ,رجب 1420 العدد 9873


قصة قصيرة
العودة إلى المستقبل
صالح بن عبد العزيز

لم تمض أسابيع قليلة على انتهاء عساف المقبل من دورة تدريبية في مجال (الامن الوظيفي للموظف) وتفوقه على زملائه بحصوله على تقدير ممتاز على مجموعته ويكاد يفر قلبه من بين اضلاعه عندما تسلم اليوم خطاب شكر وتهنئة من رئيسه المباشر بهذه المناسبة.
وفي الطريق الى منزله توقف عساف امام أحد المحلات التجارية، واشترى بعض الاغراض للمنزل، وبعض الصحف والمجلات، وبينما هو يسير بسيارته على الطريق المؤدي لمح بعض العناوين الرئيسة في الصفحة الأولى من الجريدة الملقاة بجانبه على المقعد الامامي, أخبار متفرقة، أهم الاحداث العالمية، النظام العالمي الجديد ، دولة,, تنضم الى منظمة التجارة العالمية, اصطدمت عيناه فجأة بمجموعة من الاخبار عن الركود، الجمود الاقتصادي، الكساد في سوق العمل المحلي والعالمي، الشركة الفلانية تتبع سياسة الترشيد، الشركة العلانية تقلص من أعداد موظفيها، وتستغني عن بعضهم،، الشركة الفلنتانية اوقفت التوظيف،، الشركة ,,, النمور الآسيوية تتحول الى قطط بدون مخالب,, تدني اسعار النفط الى تحت سقف,,,,، اريد ان أؤمن مستقبلي، اريد أن ابني حياتي، اشيد ما لم يتح لغيري تشييده، أؤمن رزق أولادي، أليس من حقي كبقية البشر ان افعل ذلك؟ ألا يوجد لدي المؤهل، ولدي استعداد لاكتساب الخبرة؟ ألا تكفي هذه الاشياء لضمان قبولي في هذه الشركة الجديدة؟.
آمال متكررة يسطرها عساف المقبل في كل يوم منذ أن انخرط في العمل بهذه الشركة، ويأمل ان تتحقق له كلها او يتحقق له بعض منها, لم ينس او يأسف على ذلك القرار الذي يصفه، في كل مناسبة، بأنه شجاع وحكيم وذكي ، وذلك عندما قطع دراسته الجامعية وتأبط كامل أوراقه، متجها الى سوق العمل، كانت الحاجة اليه وقتها على اشدها، شاب في مقتبل العمر، مؤهل، نشط، ولديه طموح لا يحد، ومن حسن الحظ أن تزامن تفكيره بالعمل وترك الدراسة الجامعية مع ميلاد مجموعة هائلة من الشركات في منطقته، تعمل في مجال النفط والبتروكيماويات وتتسابق بطريقة محمومة الى استقطاب وتوظيف كل من يتقدم اليها لملء فراغات إدارتها وأقسامها بالمؤهلين من الشباب ومن لديهم استعداد للتدريب والعمل.
بعد عناء يوم طويل من العمل على اجراءات التوظيف انتصب عساف المقبل امام مبنى الشركة الجديدة واسند رأسه، المثقل بمفردات جديدة، الى احدى الأنابيب الممتدة كآماله العريضة وبدأ رحلة طويلة ومستغرقة في التفكير والحساب.
إنها فرصة كبيرة وثمينة لم احلم بها، أتدرب، أدرس، اجيد مجموعة من اللغات، (قود مورنينق،، كمن تلفو،، ال رايت،، بونسوار) اتدرج في مناصب متعددة، فرص الترقيات متوفرة، العلاوات، الحوافز، الحصول على منزل بطريقة التمليك المخفض، ميزات متعددة لم يحصل عليها احد قبلي من افراد العائلة، من قدك يا ولد،، فرصة,, فرصة لا تعوض,, قالوا لك دراسة,, وين,, وبالجامعة,, يا خال أبوي,.
أخي الاكبر سافر الى العاصمة لمواصلة دراسته الجامعية وعندما يتخرج سوف لن يحصل ولو تسلق السماء بيديه ورجليه, على ما وعدت به من الشركة بعد ان اعود من فترة التدريب والدراسة القصيرة في امريكا,, سوف أكون مؤهلا لسوق العمل افضل منه، وربما سأتمكن من الزواج قبله، اعرف ان ذلك يضايقه، ولكن لا يهم ما دام هذا الامر سيفرح والدتي ويفرحني، ويرضي والدي الذي لم يوافق على انقطاعي عن الدراسة في الجامعة، والذي قال لي بعدما جاهدت كثيرا في اقناعه (شف يا وليدي: كل الشركات سجل بهن، إلا اللي يزينون - وانت بكرامه - العبس (السماد) واللي يدبغون الجلود، لا تقربهم، افطن،، ترن اجيك وافصلك لو انك ريسهم، والباقي توكل على الله، الله يوفقك,.
لم يتمكن عساف المقبل من استكمال التفكير بمستقلبه وتسطير آماله العريضة إذ قاطعه احد زملائه الذي تتزامن إجراءات توظيفهما معا:
اللي واخذ عقلك يتهنا به .
الشركة ، العمل، السفر للتدريب والدراسة هي التي تشغلني الآن، ألا تفكر بها انت، ايضا؟ نعم افكر بها، ولكني مهتم الآن باستكمال اجراءاتها، وبعدها سوف أفرغ هذا الصندوق الذي يعتلي جثتي من كل تفكير بغيرها.
إذا لا تلمني يا صديقي فانا الآن سافرت وتدربت ودرست وعدت وتزوجت وعملت وتقاعدت وانا ملتصق بهذا الانبوب العريض.
كانت ليلة حالكة السواد عندما تلقى عساف المقبل من زميله مكالمة هاتفية تخبره عن ظهور قائمة بأسماء مجموعة كبيرة من الموظفين تنوي الشركة الاستغناء عنهم بحجة ان رواتبهم ترهلت ككروشهم ,! وان انتاجيتهم قلت ويكلفون الشركة اكثر مما ينتجون لها,, وان افراد عوائلهم زادوا وبزيادتهم زادت تكاليف علاجهم والخدمات التي تقدم لهم, وان هناك دماء شابة سوف تحل محلهم، وان الشركة تنوي مكافأتهم بإراحتهم والاستغناء عن خدماتهم، او منحهم تقاعدا مبكرا، وان,,, وأن,.
مبررات متعددة صيغت لتقنعهم بالقبول، واختيار افضل الخيارات، واغتنامهم هذه الفرصة التي ربما لن يحصلوا عليها - لا هم ولا غيرهم - في المستقبل.
ابتسامة باهتة اعتلت شفتيه، هزة عنيفة أحس دويها في معدته وامعائه، او ان قلبه سقط كعصفور صغير بين كفيه، اجال نظره في الجالسين تحسس مؤخرة رأسه ، نهض مسرعا من مكانه، جلس مرة اخرى، فضاء الكون كله لا يتسع لهذا الشعور الغريب، امتعض الحاضرون واولاده من حركاته الغريبة المفاجئة، لم يحتج أي منهم الى مزيد من التركيز لملاحظة سلوكه المفاجئ.
لم ينم تلك الليلة، وبقي وحيدا يصارع ما يجول في رأسه من افكار,, هل سأكون ضمن هذه المجمعة؟ هل حان الوقت لي للتقاعد والراحة,؟ هل يكفي ما سأحصل عليه من راتب تقاعدي للعيش,؟ ما الأشياء التي سأحصل عليها؟ وماذا سيؤخذ مني؟ وماذا سيبقى لي؟ ماذا عن المنزل,؟ هل احصل على عمل جديد؟, وما هو؟ في أي مجال؟
شف يا وليدي,, إلا اللي يزينون - وانت بكرامه - العبس (السماد) واللي يدبغون الجلود، لا تقربهم، افطن، ترن اجيك وافصلك لو انك ريسهم، افطن، لا تقربهم،، سامع .
اقتحم عساف المقبل بوابة حسابات جديدة لا تقل ضراوة عن حساباته السابقة عندما كان يعمل على إنهاء اجراءات توظيفه, ولكنه الآن يفكر بطريقة مختلفة، ويحسب الاشياء بدقة ممزوجة بقلق وخوف على مستقبل ومصير أولاده وبناته وبقية أفراد اسرته، مصاريف البيت، مصاريف الأولاد، البنات، العلاج السفر، الاستراحة، السواق، الخادمة,,
قلق دائم، وتفكير سوداوي عميق اطبق على خلايا دماغه شعور بالاحباط، العجز، ابتسامات حزينة متلاحقة تفرد شفتيه.
لم يكن عساف المقبل في حياته متشائما، فقد كان يستبعد كل ما يعتقد غيره انه قريب لا مناص منه، كان دائم التفكير بعقلانية ومنطق، ولكنه في هذه المرة لم يستوعب هذا الخبر الذي داهم تفكيره بين ليلة وضحاها، وخلط جميع اوراقه، ولم تسبقه مقدمات (تسخين) وتهيئة للتفكير، ولم يعط الوقت الكافي للتفكير ببدائل، مخارج - على الاقل - يستطيع ان يتحمل معها ما سيحصل له من شركته الأم الذي يرتدي - وهو المشغل البسيط في احد أقسامها - قبعتها، وينافح عنها في كل مناسبة تتعرض فيها للنقد والتجريح، لا يفتأ ان يذكر كل من يعرفه ولا يعرفه بأنها بيته الثاني، ولا يتذكر في كل سنة ومدة خدماته في الشركة ان احدا اشعره بضعف انتاجيته، وتخاذله، او تأخره او غيابه من العمل.
لم يكن متميزا ولا سيئا، ولكنه يعتقد في دخيلته انه راض عن ادائه في الوقت الحاضر ويكفيه فخرا انه يعد من الذين قامت الشركة في بداياتها على اكتافهم، ويعتقد ان فضلا كبيرا له على الشركة في بدايتها على اكتافهم,, ويعتقد ان فضلا كبيرا له على الشركة, ولا يستحق منها هذه المكافأة المرعبة التي تحدث عنها صاحبه على الهاتف.
ولكن ما جدوى هذه التبريرات اذا كانت القائمة طبعت وتم اعتمادها من رئيس الشركة؟ مسكين، هل تعتقد انه بإمكانك التأثير عليه للعدول عن قراره؟ هل بإمكاني التأكد من وجود اسمي مع هؤلاء المبعدين,؟ لماذا لم اهيأ من الشركة لهذا الخبر؟ من وراء هذا القرار الجائر يا ترى؟ اين الضمانات التي وعدنا بها عند توظيفنا,؟ اين الامن الوظيفي الذي يتشدق به د, حسام الجمل ,, لشهر كامل في الدورة الاخيرة؟ ماذا سيكون موقف مكتب العمل؟ اسئلة احتشد بها رأسه في تلك الليلة وتتدافع للخروج والبحث عن اجابة أفلت النوم من عينيه كطائر يفلت من قبضة طفل،, لم يستقر له حال، اعتدل في جلسته مرارا، لم تكن الامور تسير كيفما خطط لها.
شهر واحد فقط هو عمر خطاب الشكر الذي حصل عليه مع مجموعة من زملائه من رئيس الشركة نظير تفانيه وجديته في العمل, وها هو اليوم، يحصل على خطاب مماثل من المشرف حسين، رئيسه المباشر.
قبل يومين فقط كنت مع المشرف/ حسين نتباحث في تجديد موعد لبدء برنامج التدريب الجديد الذي استحدثته مع مجموعة من زملائي ولقي استحسانا وتشجيعا من جميع المسؤولين الذين اطلعوا على تفاصيله وجزئياته، والاهداف التي سيحققها، ولكن لماذا لم يخبرني بخبر هذه القائمة؟
نهض من مجلسه بتثاقل محاولا التخلص من شعور النكد والهم الذي سيطر على حواسه مع بداية مساء تلك الليلة،,, تمنى ان ينكشف له صبح جديد يكذب كل ما دار في جمجمته من تخمينات وتوقعات,, لم يستطع التغلب على إمكانية استبعاده، الحياة تحولت الى جحيم لا يطاق، عمله طموحاته، آماله، كلها تجسدت امامه كبقايا احلام مزعجة في ليلة شتوية قارسة، ورقة تاهت في منتصف الطريق، وحطت في دهاليز مجهولة، مظلمة,, ايام جميلة حلوة خلت، واخرى غيرها في حقائب النسيان، ذكريات مرة حفرت في الذاكرة وذكريات حلوة لم يتسع لبعضها المكان.
سحب من الدخان تتراكم في سماء مجلسه، وتبحث لها عن مخرج,,, ارتال من اعقاب السجائر هنا وهناك، رماد، اشياء كثيرة متناثرة في ارضية الغرفة,, شماغه,, طاقيته عقاله، حذاؤه الشتوي، مفاتيح سيارته، صحف،، مجلات, علب سجائر فارغة.
في فجر تلك الليلة السوداء التي جافى النوم فيها عينيه افاقت زوجته ووجدته ملتفا ككرة مطاطية في إحدى زوايا مجلسه الخاص، رأسه تدلى بين ركبتيه وشعره متناثر بغير نظام، يداه تطوقان قدميه، جفاف وتشققات في شفتيه، عيناه كهوف يتدلى منهما اللهب، خطوط وتعرجات اعتلت جبينه,, اقتربت منه، تحسست اطرافه، وبنبرة قلقة وحادة امطرته بوابل من الاسئلة.
وش فيك؟,, عسى ماشر؟ وش اللي حصل؟ ليش ما نمت؟.
اجابها بلهجة سريعة تثير الشفقة:
خرجت قائمة لمجموعة من الموظفين تنوي الشركة إقالتهم.
,,خير ياطير,, وش يعني لك هذا؟ اسمك موجود معهم؟
لا أدري,, ربما وربما،، لا من يعلم؟
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved