Thursday 14th October, 1999 G No. 9877جريدة الجزيرة الخميس 5 ,رجب 1420 العدد 9877


الفنان منير إسماعيل لـ التشكيلية
أشعر أن مفرداتي وخبراتي تفوقني في كشف الحقيقة الجمالية والموضوعية في أعمالي
لدي حالة بحث إبداعي لا أدري أين ستنتهي ولا أستطيع أن أضع خاتمة أو عنواناً لها

* دمشق: أحمد صبحي
قادما من تلافيق الذاكرة,, الفنان التشكيلي منير اسماعيل,.
في أعماله تجسيد حي ووجداني للمعاناة الانسانية وبحث دائم عن الحنين والنقاء عند الآخر,, في مرسمه المكتظ بالأشياء,, منحوتات مختلفة الأحجام والأفكار,, لوحات معلقة ذات طابع سريالي وأخرى كاريكاتورية تبحث في مضامين انسانية ووجدانية,, ماكيتات ومجسمات تمثل مواقع من المدنية وأخرى لأماكن مهمة وأثرية من هذا الوطن الكبير.
فنان,, نحات,, مسكون بحالة انسانية يتوجها هاجس البحث الدؤوب والمستمر في واحد من أهم الفنون التي تعبر عما يعتلج بداخله من أفكار ورؤى.
منير اسماعيل,, القادم من تلافيف الذاكرة، محملا بعبق الأماكن التي ارتادتها قدماه، فجاء موشحا بالصمت أمينا لذاكرته البصرية حيث كل الأماكن,, والبشر,, والطقوس الغير معلنة لفضاء الروح كل ذلك يتجلى في المنحوتة التي يشتغل عليها.
في مرسمه المكتظ بالحنين للانسان كان اللقاء,.
* دائما للبدايات طعمها الخاص، ويبقى لأول عمل في الذاكرة رصيد جيد من الجمالية،ماذا عن تلك البدايات وأين أنت منها الآن؟.
- بهذا السؤال تضطرني لأن أعود للصندوق الأسود الذي يضعونه في الطائرات، ولا يكون عادة له أية قيمة إلا عندما تقع الكارثة وتتحطم الطائرة حينها يصبح هذا الصندوق الشغل الشاغل للشركة الصانعة للطائرة,, خوفا على اسمها واسهمها؟!
سأفتح هذا الصندوق وأنا واقف على قدمي ولم اسقط بعد,, وان عدت للبدايات فهي عفوية المنشأ ولا يمكن وضع سهم في القوس لأنه لم يكن هناك هدف بالمعنى الدقيق,, مثل كل الأطفال يعشقون الرسم لماذا لا يعرفون,؟! يفكرون بالسفر لماذا والى أين لا يدرون؟! وكل ما أذكره عدة حالات مازالت مستقرة في قاع الذاكرة.
الأولى في الصف الثالث الابتدائي,, كم تمنيت ان احمل ميدالية كما يفعل الكبار، على الرغم من ان الميداليات متوفرة في السوق ولكن من اين ثمنها؟!.
احضرت غصن شجرة،وعالجت قطعة منه بالسكين وقطع الزجاج المكسر محاولا صنع ميدالية منه,, وكم كانت فرحتي كبيرة عندما أنجزت الميدالية.
احضرت السلسلة الصدئة وعلقت الميدالية بها,, وكم ضحكت عندما اكتملت ولم أجد شيئا اعلقه فيها,, ليس لدي مفتاح، ونحن نسكن بيت جدي، ومفتاح البيت الوحيد مع جدتي وعندما طلبت منها ان تريني المفتاح وجدته يكبر الميدالية بعدة مرات.
أما الثانية,, ففي الخامس الابتدائي طلب منا أستاذ الرسم ان نرسم في الصف الكرسي والطاولة,, رسمتها,, رآها زميل لي فقال إني أحسدك,, قلت لماذا؟!, قال: إنك بدون ان تتابع الدراسة تستطيع ان تعيش.
سألته كيف,, قال: من الرسم فرسمك جميل,, فخرت بنفسي يومها فأنا استطيع ان أعيش ان فشلت في المدرسة,, وفي الظهيرة حين انصرفت الى البيت,, كانت وجبة الغذاء خبزا وشايا,, ماذا يهم فزميلي بشرني بالمستقبل، ويوما ما سآكل ما أريد.
الثالثة كانت في الثاني الاعدادي الصف الثامن بمدرسة الثورة في دير الزور فقد طلب منا أستاذ مادة العلوم رسم وظيفة تشريح الأرنب أنجزت الوظيفة على كرتونة كبيرة بالحبر الصيني , الوظيفة أدهشت الصف لكن المعلم أعطاني علامة الصفر,, لأنه اتهمني بأني لست منفذها وهناك من رسمها لي، حاولت الدفاع عن نفسي,, لكنه لم يصدقني، وكم بكيت يومها,, أما أين أنا عن تلك البدايات الآن,, فأنا مازلت كما كنت في البدايات.
* الانسان هو الحاضر أبدا في أعمالك وبمستويات اجتماعية متعددة ومختلفة, هل هي حالة البحث عن انسانية الانسان وعلاقته بالانتماء الى الأرض,, أم هناك هواجس أخرى تؤرقك؟!.
- الانسانية واحدة ولا تتجزأ منذ وجدت الحياة، وكانت الهم الشاغل للفلاسفة المثاليين والوجوديين والرسالات السماوية كلها حاولت الارتقاء بالانسان الى الانسانية, ولا اتصور انه يوجد انسان لا انساني,, الصفة يجب ان تتفق مع الجوهر لتكتمل الصورة والمضمون فهو إما انساني,, وإما حالة إنسانية، وفي الثانية الحالة الانسانية يحصل التباس وخلط في انسانيته ليبدأ الصراع بين الخير والشر,, بين الأنا العميقة والأنا الظاهرية وال هو الآخر.
إذن أبحث عن الحالة الانسانية,, ولا أبحث عن انسانية الانسان، فالأولى يتم البحث عنها عبر الحياة التي نعيشها، وفي الأعماق الدفينة للانسان المعاصر,, محاولين الارتقاء بها لنترك مفاتيحها للأجيال القادمة، والثانية يتم البحث عنها في الكتب عند اسلافنا,, ونحن بحاجة للإنسان الذي يحمل في طياته صراعا حيا ومستمرا,, يحرر أخاه الانسان من الانغلاق داخل حدود عالمه وعصره الضيق.
أما عن علاقة الانسان بالأرض,, منها واليها نعود,, ولا أريد التحدث عن جغرافية الانسان لكي لا نحصر الموضوع في زاوية ضيقة فلابد إذن من هواجس أخرى.
أمنيتي ان التقي أخي في الانسانية,, أجلس معه في حالة تسمى باليونانية سيمبوزيوم وبعدها إن مت فلا مشكلة عندي.
* كيف تنظر الى علاقة الفنان وحريته بحالة الابداع، والى أي مدى تساعد حريته على طرح ابداعاته؟.
- المعنى الكبير للفن يرتبط بمقياس صدق الفنان وانفعاله،وحريته في التعبير,, الصدق، الانفعال، الحرية، يوازيها، العقل- الغريزة- الارادة .
الفكرة- الابداع الفني- الواقع يرافقها المطلق- المجرد- النسبي وأي خلل في المعادلات المثلثية السابقة يضعنا أمام عمل فني قاصر,, وبالتالي أمام مثلث غير متساو الاضلاع.
ولو قرأنا التاريخ بتمعن لوجدنا ان تطور أساليب الفن يؤكد أن حرية الفنان كانت دوما تسبق الحدث التاريخي والتطور الاجتماعي,, وحسب مقولة هيدجر الارادة المتأججة للفردية المميزة المبدعة واذا اعتمدنا على كل ما سبق نجد ان حرية الفنان ليست ترخيصا يمنح من جهة أو دائرة معينة,, انها روح الفنان، ولا يمكن فصلها أو تحديد اطار لها, أو قياس مدى ردة الفعل الناتجة عنها,, فكم من شاعر وفنان ومفكر وعالم مارس حريته وهو داخل السجن,, حريته في العطاء والدفاع عن الانسان والفكرة، وعن حالة الرقي التي ينشدها وعن الحقيقة.
فالصراع هنا داخل الفنان بين نقيضين ما يبوح به، وما يكتمه وليس وراء القضبان أو خارجها فيعبر بابداعه الفني في حالة الذبذبة هذه فيتجسد عذابه في نسيج عمله الفني صراعا متكاملا دون وجود زمني أو مكاني.
حينما يصارع عن قيم جديدة وأهداف سامية لا خوف عليه، فصراعه سيبينه كانسان، وفنان هذا ما حصل مع الفنان الفرنسي دي ستيل وفان جوخ ولؤي كيالي وسقراط وغاليلو وغيرهم.
* أنت تشتغل على المنحوتة والعمل الكاريكاتوري والتصوير الرسم أي أنك تتعامل مع منجز ثقافي وتشكيلي مختلف ومتعدد،هل ترى في ذلك حالة صحية تدفع الفنان من خلالها للتعبير عما يعتلج في داخله من أفكار ورؤى؟!.
- أرى في ذلك حالة صحية لي كفرد,, ولا أطالب بتعميم هذه الحالة,, أو رفضها.
لكل فنان رموزه ومصطلحاته وثقافته وتطلعاته، ولكل فنان اسلوب معين وهوية معينة تتغير مع الزمن والبيئة والحالة الاجتماعية واحيانا يؤثر عليها المكان.
والفنان بحكم تكوينه السيكولوجي دائم الشعور بأن مفرداته وخبراته تعوقه في كشف الحقيقة كاملة قلقه وصراعه الدائم في البحث عن ذاته وعن ذات الآخرين يجعلانه لا ينال علامة الرضا عن أي عمل يقدمه ظنا منه ان العمل القادم هو الحقيقة.
وبالنسبة لي لا استطيع الاعتماد على اسلوب واحد في الفن، أي ان التزم النحت أو الكاريكاتور أو التصوير, أنا لست موظفا في دائرة ما ليطلب مني مدير الدائرة ان اختار واحدة من الثلاثة وأترك الباقي للآخرين.
أكون جالسا فتمر أمامي لقطة كاريكاتورية,, اشعر ان مسؤوليتي كفنان عليّ تسجيلها وبالمعنى الدقيق تمحيص اللقطة,, ليراها المشاهد في معرض قادم، هذه اللقطة أحيانا يكون لها وقع في روح المشاهد أكثر من العمل النحتي,, ليس لأنها افضل,, بل لأنها آنية وسريعة وتعالج قضية نعيشها الآن.
العمل النحتي يختلف في رسالته,, انه لا يعالج شيئا آنيا، ولا استطيع ربطه بزمن معين أو مكان معين انه نتاج تاريخ طويل، لا ادري من أي حقبة يبدأ، ولا أي حقبة في المستقبل سينتمي.
ولأوضح الأمر أكثر لي بعض المحاولات في القصة القصيرة,, وقصيدة النثر,, هذا ليس تعديا على زملائنا الكتاب والشعراء,, ولكن لا شيء يمنع ان اسجل انفعالاتي وتفاعلاتي بالوسيلة التي اشاء والتي أراها تفي بالغرض أو تحقق نوعا من التوازن، والتماسك الداخلي على الأقل لي.
* تخرج بأعمالك من إطار أو صيغة البيئة - المكان- بالمفهوم المحدد لنراها مرتبطة أكثر بصيغة أكثر شمولية لها علاقة بالانسان بشكل عام، كيف تنظر الى علاقة الفنان بالبيئة - المكان- أو الظرف الاجتماعي الذي يحيط به.
- إن علاقة الفنان بالبيئة والمكان، والظرف الاجتماعي هي علاقة فعل ورد فعل,, الفنان من جهة والبيئة والمكان والظرف الاجتماعي من جهة ثانية والفعل ورد الفعل في تبادل مستمر للأدوار,, وليس ضروريا ان يكون هذا التبادل ايجابيا وهذا نادر جدا جدا فغالبا ما يحصل العكس فيكون الفعل من الفنان ولا يكون للجهة الثانية أي رد فعل وبمعنى أوضح يتم تجاهل الفعل والغاء دوره والطاقة الكبرى ان كان الموقف سلبيا عندها ترى بأم عينك ان الجميع متفقون على ذلك رغم أنهم لم يعقدوا اتفاقا مسبقا ولو رجعنا لبداية العلاقة فهي تبدأ محدودة مرورا بحياة الفنان منذ طفولته منذ لحظة الولادة,, وبالتالي الأسرة ثم الشارع فالمدرسة فالمدينة فالوطن ثم العالم.
أي تبدأ خاصة ثم عائلية ثم عشائرية ثم وطنية لتصل الى أوجها وهي الانسانية جمعاء,, ولا ترتبط بزمان أو مكان,, ولكي نبتعد عن قضية العولمة الضيقة والمغرضة,, من أجل الوصول الى حالة انسانية لا نخجل منها أمام اسلافنا عندما نرحل اليهم، ولا نخجل منها امام أنفسنا ولا نخجل منها امام الامم الأخرى ولا نخجل منها امام الأجيال القادمة على مر العصور.
وهنا أود ان أورد آخر كلمات تفوه بها فان جوخ وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة,, أخي ليتني استطيع ان آخذ الشقاء معي ولكنني سأرحل ويبقى بينكم .
وهذه كانت غاية العالم باستور في تخفيف الآلام عن البشرية، وكانت غاية مايكوفسكي عندما نظر من نافذة متحف اللوفر وصرخ وهو ينظر الى الناس في الشارع هؤلاء أعظم عمل فني في العالم.
* الصرخة,, المخاض,, والولادة- الواقع الراهن للمثقف وللثقافة هي من موضوعات ابتدأت بها مرحلة جديدة من مراحلك الفنية، الى أين تمضي بمشروعك التشكيلي؟!.
- الانسان منذ صرخة الولادة وانتقاله من عالم الرحم الداخلي الى العالم الخارجي تبدأ معاناته مع الحياة ويبدأ بتخزين الصور والأحجيات والمكنونات الاجتماعية والثقافية والمثيولوجية والتاريخية ووو,, هذه التراكمات الكثيرة والمتشعبة والمتغلغلة جذورها عميقا في تاريخ البشرية والمتعلقة ببراعمها في نفس اللحظة الى الامام، مضافا اليها ارهاصات الفنان ومعاناته وما يدور في داخله وحوله تجعل منه في حالة ولادة متجددة، وفي حالة بحث دؤوب ومستمر عن غد افضل ، وعن انسان يفيض بالحيوية والانسانية لتخطي الخطأ الأول وهو التفاحة,, والخطأ الثاني ما فعله قابيل بأخيه هابيل,, وما تلا ذلك من أخطاء في تاريخ البشرية مرورا بهيروشيما وصولا الى كوسوفا.
مشروعي التشكيلي والنصوص التي ابحث عنها,, ليس لدي مشروع ولا أحبذ هذا المصطلح,, لدي حالة بحث,, وكما قال بيكاسو ليس من حقنا ان نبحث فقط بل علينا ان نجد .
إذا حالة بحثي هذه لا ادري أين ستنتهي ولا استطيع ان أضع خاتمة أو عنوانا لها,, هناك رؤية,, وهي متجددة مع كل شروق.
ابتدأت بالصرخة,, المخاض والولادة,, السقوط من السكون,, السقوط من الحركة,, الانكسار,, الانحناء,, الالتفاف,, التلاشي,, ثم الأمومة,, الصرخة,, المخاض والولادة وهكذا دواليك هوتاريخ البشرية، ومرة ثانية لا أدري أين ستنتهي تجربتي، ربما لحظة رحيلي عن هذا الكوكب,, ولكنها في حالة متجددة، رغم كل التناقضات والتساؤلات التي تعصف بهذا العصر.
وان اعتمدت على مقولة ماتيس الفن ليس مهنة بل قدر ,فأنا راض بقدري، ولكني لست راضيا عما قدمته للحركة التشكيلية واللانسانية وللحضارة وبالتأكيد فإنه لا يزال يلزمني الكثير.
السيرة الذاتية للفنان التشكيلي منير إسماعيل
- عضو نقابة الفنون الجميلة بسوريا.
- مواليد دير الزور 1958م.
- له ستة معارض فردية في دير الزور - اللاذقية- جبلة- بانياس الساحل.
- خمسة معارض سنوية للادارة السياسية بدمشق في المتحف الحربي.
- معارض جماعية مع فناني محافظة دير الزور- طرطوس- بانياس الساحل - دمشق.
- المعرض الجماعي للفن السوري الحديث في دار الخطيب للفنون بتدمر- صالة ابيلا للفنون بحلب والقريتين.
- المعرض الفني في مهرجان البادية السياحي السابع في تدمر.
- المعرض المشترك في المستشارية الثقافية الايرانية بدمشق بعنوان يوم القدس العالمي 1999
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved