Thursday 14th October, 1999 G No. 9877جريدة الجزيرة الخميس 5 ,رجب 1420 العدد 9877


حسماً لمعركة اليونسكو,,أمام اليابانيين والعرب فرصة توافق لا ينبغي أن تضيع,.
د. محمد جابر الانصاري

من الصدف غير الطبيعية ان يكون التنافس الاساسي على قيادة اليونسكو بين مرشح ياباني ومرشح عربي، وذلك لعدة اعتبارات اهمها:
اولاً: ان نقاط التماس بين دائرة الثقافة اليابانية ودائرة الثقافة العربية الاسلامية في فضاء الشرق الكبير، لا تعود الى التنافس او التضاد بينهما بأي وجه، وانما تقوم على التفاعل الايجابي الخلاق بين الثقافتين والامتين في الماضي والحاضر وذلك ما سنعرض له بشيء من التوضيح والتحليل في هذه المقالة .
ثانياً: ان الصداقة الوثيقة بين اليابان والعرب والتي تستند الى التعاون المتزايد بينهما في ميادين التنمية والتجارة واقتصاديات النفط، على الصعيدين الاقليمي والدولي، لا تسمح بالمواجهة بين القوتين الشرقيتين الكبيرتين في شرق آسيا وغربها، بل على العكس من ذلك ينبغي تحويل هذا التعامل الكمي الى تقارب كيفي ومعنوي، وليس كالفضاء الثقافي وما يحفل به من قيم روحية وانسانية وجمالية مجالاً لمثل هذا التطوير الكيفي لمسيرة الصداقة العربية- اليابانية,,.
ثالثاً: ان الثقافتين الشرقيتين بحكم دوريهما المتكاملين في الدائرة الشرقية الحضارية الكبرى عبر الامتداد الآسيوي- الافريقي الواسع، تمثلان - معاً- قوة توازن معنوي وقيمي، لا يجوز ان تهدر بالمنافسة غير المنضبطة امام قوة الثقافات الغربية في الدائرة الاطلسية، وعلى الاخص امام تحدي الثقافة الامريكية القادمة مع العولمة والهيمنة السياسية والعسكرية للولايات المتحدة, ومن هذا المنظور، فان الثقافتين العربية الاسلامية واليابانية -معاً- مضافةً اليهما الثقافة الصينية في الشرق، والثقافة الفرنسية في الغرب يمكن ان تؤلف مجتمعة قوة توازن ثقافية كبرى، رباعية الاضلاع، ترجح ايجاباً كفة الميزان الثقافي العالمي مع كفة الثقافة الامريكية المتعولمة والكاسحة التي صارت تتحدى جميع الثقافات الاخرى, وهو توازن ثقافي عالمي يمكن ان يقوم على الاحترام المتبادل والتفاعل الايجابي بين هذه الثقافات جميعاً، بما فيها الامريكية، دون ان ينجرف العالم بالضرورة الى حرب ثقافات وحضارات كما تنبأ صمويل هتنغتون، بل ان ينتقل الى حوار مخلص بينها، كما اوضح المرشح العربي الدكتور غازي القصيبي في محاضرته بالنمسا، وهي محاضرة نعتقد انها لم تنل حقها من الاهتمام في الوسط الفكري الدولي بحكم المنافسات ذات الافق الضيق بين المرشحين المتكاثرين، وعلى الرغم من كون المحاضرة قد تضمنت اهم نقض فكري يظهر حتى الآن لنظرية هنتغتون في صراع الحضارات.
ونعتقد ان هذه الموازنة الخماسية الايجابية بين الثقافات الاساسية الخمس الكبرى في العالم العربية الاسلامية- اليابانية- الصينية- الفرنسية- الامريكية التي نطرح فكرتها هنا بايجاز بالاضافة الى طروحات القصيبي الفكرية في محاضرته تلك حول حوار الثقافات يمكن ان تمثل منطلق الاستراتيجية الثقافية الدولية المتوافق عليها لمطلع الالفية الثالثة بين مختلف التجمعات الدولية في اليونسكو, وهي تصلح، في تقديرنا، لأن تكون فلسفة المدير العام المقبل لهذه المنظمة الثقافية الدولية للخروج بها من دائرة الصراعات المزمنة التي انهكتها الى افق جديد من التعاون الثقافي الدولي الشامل الذي علينا ان نجربه بشجاعة وفكر خلاق بدل هذا الهجاء العقيم الذي نسوقه ضد العولمة دون جدوى.
بناءً على هذه الاعتبارات مجتمعة ارى ان التنافس بين مرشح عربي وآخر ياباني، ضمن دائرة الشرق الكبرى، غير ذي موضوع، وقبل ان اطرح تصوري للخروج من هذا الوضع غير الطبيعي، اود ان اتوقف بشيء من الاسهاب امام نقاط التماس الايجابي بين دائرتي الثقافة اليابانية والثقافة العربية الاسلامية.
في مطلع القرن العشرين، عندما توالت انباء الانتصار الياباني المدهش على روسيا القيصرية 1904 ، كان من اول المحتفلين به المثقفون المسلمون والعرب في الاستانة عاصمة دولة الخلافة الاسلامية في اقصى الطرف الغربي من اسيا المتاخم للشاطىء الاوربي وشاركهم في ذلك مختلف المثقفين الشرقيين من الهند الى مصر الى البحرين,.
كان فرحاً عفوياً صادقاً لانتصار قوة جديدة من الشرق على امتداد الاف الاميال عبر اسيا، قارة الماضي و,, قارة المستقبل,, في زمن كانت فيه كل الانتصارات والانجازات غربية الطعم,, غربية الاتجاه.
وشاع في الخطاب العربي في تلك الحقبة المبكرة مصطلح ومفهوم الرابطة الشرقية التي تربط العرب والمسلمين بجيرانهم في الشرق الآسيوي، وما الشرق غير اسيا في نهاية المطاف,, جغرافياً,, وحضارياً,, ونفسياً؟
غير ان مفهوم الرابطة الشرقية اشاع نوعاً من الاعتزاز لدى مختلف الامم ذات الانتماء الشرقي سواء في اسيا او افريقيا في وجه الهجمة الغربية على المستويين الحضاري العلمي والسياسي العسكري,.
ولم يكن المحرك الملموس للاعتزاز بالرابطة الشرقية في تلك اللحظة من التاريخ بين اواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين سوى التفوق الياباني الذي بدأ مع عهد الميجي 1868 .
ففي تلك المرحلة الصعبة في حياة الامم الشرقية، كانت الصين، بحضارتها العريقة، مرتعاً للقوات الاوربية، وكانت الهند بما لها من اسهام في تراث العالم، مستعمرة انجليزية، وكان العالم العربي الاسلامي يقع حاضرة بعد اخرى في قبضة الامبراطوريات الاوربية الزاحفة من الرباط الى الجزائر الى القاهرة الى بغداد,, فقد اصبحنا: كلنا في الهم شرق ,, كما قال امير الشعراء/ احمد شوقي.
وبذلك استطاعت القوى الاوربية الغربية احتواء وترويض اهم ثلاث امبراطوريات سياسية شرقية في العالم، وهي: الامبراطورية الصينية، والامبراطورية العثمانية، والامبراطورية المغولية في الهند,.
في تلك اللحظة الصعبة من تاريخ آسيا والشرق، كانت النهضة اليابانية- ومعها القوة اليابانية- تسطع كالشمس المشرقة من اقصى الشرق,, لتؤشر- وحدها- الى امكانية واعدة اخرى في مستقبل العالم,, وهي ان الهيمنة الغربية ليست نهاية المطاف وليست قدراً مقدوراً على شعوب الشرق، وانه بالامكان غرس النهضة الحديثة والحضارة الحديثة والقوة الحديثة في اقصى بلدان الشرق,, ومنها الى مختلف انحاء الشرق الفسيح,.
وفي ظل هذه العاطفة المشوبة بالاعجاب نحو اليابان ونموذجها الشرقي الفريد- رغم اختلاف الجذور والدين واللغة- شهد الادب العربي عشرات القصائد والمقالات والكتب في الاشادة باليابان وقيادتها وشعبها وتقديرها للعمل المنتج والخدمة الوطنية، وهي ظاهرة في تاريخ النهضة العربية لم تنل بعد ما تستحقه من دراسة متأنية، ولعل التعاون المتزايد في مختلف الميادين بين اليابان والعرب في ايامنا هذه، يدفع الى الاهتمام بمثل هذه الجوانب في النهضة الشرقية وهي الجوانب التي حجبها الانبهار بالغرب والاقتداء به دون تمييز,.
في لحظة تاريخية اخرى- معاصرة هذه المرة- عندما وصل الوضع العربي الراهن مطلع الثمانينات الى الطريق المسدود، وانهار التضامن العربي وبدأت سحابة يأس تغمر النفوس العربية في كل مكان، لم يجد كاتب هذه السطور من نموذج امل، ونافذة تفاؤل في الافق المكفهر غير الاطلال على الظاهرة اليابانية من جديد!
واذا كانت نهضة الميجي في اليابان قبل قرن ونيف قد اشرت الى امكانية الامل في نهوض الشرق,, فان معجزة الانبعاث الياباني، بعد المحرقة النووية الامريكية لليابان عام 1945، قد اعطت الدليل الحي على هذه الامكانية الفعلية, وأياً كانت درجات التدمير التي الحقتها الاعتداءات العسكرية الاسرائيلية بالبلاد العربية، فان ما تعرضت له اليابان في المحرقة النووية كان اقسى من ذلك بكثير,, ومع هذا نهضت.
ورغم الارهاب الفكري الذي كانت تمارسه الاوساط الماركسية العربية حتى وقت قريب ضد كل من يتحدث عن نموذج اخر مختلف غير النموذج السوفياتي واشعاعه الاممي المزعوم، فان كاتب هذه السطور واصل اهتمامه بالنموذج الياباني واشعاعه الاسيوي في شرق اسيا الى ان انهار الاتحاد السوفياتي وصعدت اليابان- ومعها اقليمها كله- باعتبارها
القوة المواجهة لقوى الهيمنة الغربية على امتداد العالم يراجع كتابه العالم والعرب سنة 2000 ومازال امامنا- كمثقفين عرب- الكثير لاستيعاب عناصر ومقومات النهوض الياباني، ان كنا نريد لمجتمعاتنا قدوة نهضوية ملموسة على الارض غير وعود الايدولوجيا الخيالية التي ادمنا تعاطيها فقطعت روابطنا مع جذور الواقع الحي.
***
وعليه، فان كان لعالمنا الجديد، عالم المستقبل القريب، ان يتأسس على تعايش الحضارات وتجاور الثقافات وتحاورها، رغم تأثيرات العولمة والمد الثقافي الامريكي الكاسح - كما اوضحنا في البداية- فان الثقافتين الشرقيتين الكبيرتين، وهما الثقافة اليابانية والثقافة العربية الاسلامية تمثلان اثنتين من اهم الثقافات في اسيا والشرق الى جانب الثقافة الصينية الوسيطة بينهما، والتي تنتسب بنسب جغرافي وتاريخي وحضاري الى كل منهما، وان يكن بوشائج وتفاعلات تختلف في كل حالة عن الحالة الاخرى .
من منطلق وحدة الحال الثقافية هذه في عالمنا بين اليابانيين من جهة، وبين العرب والمسلمين من جهة اخرى، فإنا ندعو بقوة وحرارة الى تفاهم وتوافق بين المرشح الياباني الصديق السفير ماتسورو وبين مرشح المجموعة العربية الاسلامية الافريقية الدكتور غازي القصيبي.
فقد ادى التنافس المؤسف في الدورة السابقة لليونسكو بين المرشح الافريقي احمد امبو وبين المرشح الآسيوي يعقوب خان الى خسارة الاثنين معا، وفقدان العالم الاسيوي الافريقي لدفة القيادة في منظمة الثقافة العالمية لصالح مرشح آخر من طرف ثالث, وهي سابقة غير عقلانية وغير عملية، نرجو الا تتكرر, واذا كان استمرار الاصرار على ترشيح الدكتور اسماعيل سراج الدين من جانب بعض الاجهزة الدولية يمثل محذورا ليس بالنسبة للكتلة العربية الاسلامية وحدها، وانما بالنسبة للكتلة الاسيوية الشرقية التي يأتي منها السفير الياباني ماتسورو، فانه من دواعي الحكمة السعي الحثيث لفتح القنوات والشروع في صيغة توافق وتفاهم بين المرشحين الياباني والعربي، لتقييم الموقف يوما بعد آخر، وموازنة الاصوات وفرص النجاح، بعد كل دورة انتخابية، وذلك بحيث يكون احد المرشحين مستعدا للانسحاب لصالح الاخر، اذا اتضح ان المرشح الاخر، سواء كان العربي او الياباني، يملك امكانات افضل للفوز، وذلك لتفويت الفرصة على اي مرشح متطفل يطمح الى استغلال التنافس بين الجانبين على حساب الرابطة الثقافية الشرقية.
ان ابرز ما يميز سياسة اليابان الصديقة هو الواقعية البناءة في مختلف مجالات العمل والتعاون الدولي، واذا ما امكن التوصل الى مثل هذه الصيغة البناءة بين المرشحين الصديقين، الياباني والعربي، من اجل احياء الرابطة الشرقية العتيدة والعريقة,, ومن اجل ارساء المزيد من اساس التعاون والتفاعل الثقافي البناء بين اليابان من جهة، وبين جيرانها المسلمين وشركائها العرب من ناحية اخرى، في سبيل تفاعل افضل بين اكبر ثقافتين في اسيا والشرق، فان ذلك سيفتح الباب واسعاً لان تواصل اليابان احتلال مكانتها المتميزة في نفوس الشرقيين عامة واكثرهم من اولئك الجيران المسلمين، والشركاء العرب.
وسواء تسلم قيادة المنظمة العالمية للثقافة في مطلع الالفية الثالثة ياباني او عربي، نتيجة لهذا التوافق المنشود، فان ذلك سيكون لصالح التعددية الثقافية في العالم ولصالح حوار الحضارات بدل تصارعها.
ان المؤشرات تشير الان الى تفوق المرشح العربي، واذا ابدت اليابان المرونة الكافية بشأن سحب مرشحها - وذلك ما نتوقعه من منطلق حرص اليابان المشهود على كرامتها- فإنى على ثقة انها ستجد في المرشح العربي الاسلامي الدكتور غازي القصيبي خير من يمثل الثقافات الشرقية في مشروع تحقيق المصالحة الثقافية الكبرى التي نتطلع اليها في عالمنا الكبير بين مختلف الثقافات بلا استثناء، ودون رهاب او عصاب تجاه اي منها.
ولتحقيق هذا الهدف الكبير، فلابد من مثقف قيادي ينتمي لاحدى ثقافات الشرق الكبرى، ويستطيع التحاور مع الغرب في الوقت ذاته، لان المحاولات الغربية في هذا الاتجاه تثير في العادة شكوك الاخرين وتوقظ في نفوسهم مخاوف الهيمنة، فلا تحقق ما ترمي اليه من توافق ثقافي متوازن وعادل بين الشرق والغرب.
وهذا يعني، في نهاية المطاف، ان خريطة الترشيحات الراهنة لقيادة اليونسكو تضع مسؤولية كبرى على عاتق كل من المرشحين الرئيسيين، العربي والياباني، من اجل المحافظة اولاً على حق الثقافات الشرقية في تداول القيادة الثقافية للعالم مع غيرها، وعدم تضييع الفرصة على احداها في الفوز، بالتوافق بين الجانبين حسبما تمليه طبيعة الموقف ونتائجه، ثم العمل بعد ذلك يداً بيد من أجل التقريب بين الثقافات الانسانية قاطبة، في يونسكو حديدة قادرة على مواجهة رياح الالفية الثالثة,.
* مفكر بحريني، عميد الدراسات العليا بجامعة الخليج, وهو يتوجه بهذا الخطاب الى الاصدقاء اليابانيين بصفته دارساً عربياً للشؤون اليابانية وداعياً الى تعميق الحوار الثقافي بين اليابان والعرب.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved