Friday 12th November, 1999 G No. 9906جريدة الجزيرة الجمعة 4 ,شعبان 1420 العدد 9906


لما هو آتٍٍ
ما يبقى
د, خيرية إبراهيم السقاف

تعودت أن أفرِّغ ذاكرتي من الأسماء,,,، ومن المواقع,,، تاركة لها الحرية في أمر ما تحتفظ به، وتحرص على ألّا يغادرها,,، وفيما لا تحتفظ به، ولا تعنى بالاحتفاظ به,,، ولي في هذا الموقف موقف؛
فالذاكرة بالنسبة لي ليست فقط مستودعا لكل ما يمر به، وليست فقط مخبأ لما لا تحتاجه اللحظة كي يخبئه، حتى إذا ما جاءت المناسبة أخرجه، هي ليست خزينة ملابس، أو أحذية، أو حتى أطقم طعام مذهبة ومفضضة إذا ماجاءت مناسبة فتحها أصحابها ليرتدوا من الملابس أجملها وأثمنها، ومن الأحذية أكثرها فخامة ووجاهة، ومن الأطقم أشدّها لفتاً للنظر عند استعمالها وتمثيلاً للمستوى المادي، أو الذوقي,,!
ولأنني لا أتعامل مع الخزائن إلا في حدود التنظيم والترتيب، فإنني بالتالي لا أتعامل مع ذاكرتي بالحشو، والتخزين حتى إذا ما استدعى الأمر أخرجت ما فيها، ولمّعته حسب مناسبته،,,, فالتلقائية، والحرية، اللتان أؤمن بهما وجهاً من أوجه العدالة، ونمطاً من أنماط السلوك أتعامل بهما مع ذاكرتي,,، ضابطهما التنظيم ,,، لذا فإنها تحتفظ بما تحب، وبما تثق، وترسل لي بهما,,.
أؤمن تماماً بتراكمية الخبرات، وبثقل وزن هذه الخبرات، بتراكم المراحل ، وبتعددية المحطات، لذلك أحترم جداً كلّ لحظة من لحظات الحياة التي تمرّ دون أن أتنصل منها، ودون أن أهرب، ودون أن أواريها خلف الذي عبر,,,، ولذلك أيضاً فإنني أقدّر كثيراً كلَّ ذي خبرة، وكلَّ ذي تجربة مع مراحل الحياة، لأن ذلك يمثل لي كميةً وكيفيةً، أي بمعنى آخر، يمثل لي مدىً ومساحةً ووزناً وعمقاً، ولكلّ مدى مساحته، وعمقه، ووزنه، ولكلّ مساحة مداها، وعمقها، ووزنها، ولكلّ وزن مساحته، ومداه، وعمقه، ولكلّ عمق مساحته، ومداه، أي بمعنى آخر: قيمة التجربة، أي محصلتها ونتيجتها.
لذا لا يعنيني من الكتب التي أقرأها أن أتذكر كتَّابها، ولا من التواريخ أن أحتفظ بأسماء لاعبي أدوارها، ولا من العابرين رموزهم، ذلك لأن الاسم الذي يُمنح لأي شيء إنسانا كان، أو جماداً، أو حيواناً، أو سواه، إنما هو رمزه الذي يميِّزه دون الخلائق، ولأن التعوّد على الشيء يمنح ثبوته، فإنّ ما أتذكره، وما لا أفرضه على ذاكرتي يأتي بالتعوّد، أو بالتأثير، أو بسطوة القوة فيه، لأن يترك أثره الذي لاينتهي، أثره العابر باستمرار، المارق في حياتنا على الدوام، الماثل رمزه معنا في كلّ المحطات، مثل هذا، تذكره ولا تغفله الألسنة،,.
فالذي يبقى دون فرض في الذاكرة، ولا يُمحى بالتأكيد، ذلك الذي يترك الأثر، ويحفر الموقع، فتتلقاه الذاكرة دون أن تَعبُرَهُ في أية لحظة،,, وتمارس معه طقوس حريتها، وعدالة التعامل معها من قبلي.
هناك أسماء لا تُنسى، وهناك رموز لا تمحى، وهناك شُخوص يَمثُلُونَ دوماً، وهناك أحداث تظل مرسومة كأنها بالريشة، والقلم، وهناك من يصل حدَّ الثبات ليس فقط في الذاكرة، حياً لا يبارح، وإنما مع النبض، والإحساس، والنظر، والسمع,,,، وأولئك ليسوا خاصة، بقدر ما هم أصحاب قدرات خاصة، لأن يكونوا، ولا يزولون,,,، هؤلاء وأولئك من تتعامل معهم ذاكرتي، بحرية مطلقة,,.
لذلك لا أتعامل مع الأسماء، أو الرموز، أو الأشكال، أو المواقع، حين أكتب أو أتحدث، ولا مع التواريخ,,، ولا مع الأرقام,, إلا في حدود الحاجة حين يستدعي الموقف التوثيق ، وإذا اقتضى الموقف كما تقول العرب: (لكل مجلس حديث)، و(لكل مقام مقال),,.
أترك لذاكرتي حريتها,.
ذكَّرني بذلك ما نجده من حرص عند كلّ من يتحدث شفاهةً، أو كتابةً على تدجين قوله بالأسماء، والتواريخ، والرموز، كأنه يؤكد (معرفته)، ويحرص على التعريف (بما في خزينته) ويرغب في استعراض ما في (مخبئه),,,، وكثيرون يقيسون الناس بالمتر عند طول قائمة ما يذكرون، ويحفظون، ويزنونهم بالحجم عند عدد الحروف التي تدوّن قوائم (معارفهم) و(مصطلحاتهم) حتى نجد أننا في دائرة طلاسم من الأسماء والأرقام والرموز!!
مثل هؤلاء نمر بهم كثيراً في أحداث طريفة,,, قد تصل إلى جهلهم بمن يذكرون، وبما يقولون!! وعلى الرغم من أنّ علماء النفس يذكرون أنّ أنماط الذاكرة عند الإنسان تنقسم إلى ذاكرة حفظية، وأخرى استيعابية، تتعامل الأولى مع الحفظ/ وتتعامل الأخرى مع الاستيعاب,,، أي أن الأولى كربونية، والثانية بوتقية,,,، فإن الأولى تفيد طلبة المدارس الذين يطالبهم معلموهم (الببغائيين)، بالحفظ عن ظهر غيب ، لكل ما يرد في محتوى كتاب المقرر، ولكل ما يكرر في الفصل، وتفيد الأخرى كل الطلبة الذين يمرون بأساتذة جامعيين، يحرصون على ذاتية التعبير عند الفرد، من غير أولئك (الببغائيين)، الذين يتسلّق بعضهم مدرجات الجامعات التي يفترض أن تكون ساحات لركض الفرد الذاتي في الكسب، والعطاء، والتعبير، والتعلّم,,,،
على الرغم من كل ذلك هناك جزء هام في الذاكرة، يستوعب ما يمر بصاحبه، بينما هناك جزء آخر يحتفظ بكل ما هو مؤثر لا يمكن أن يفلت بكل مؤثراته عن الحضور الدومي,,, لذلك لا تغيب عنّا أوجه نحبها، ولا أصوات نودّها، ولا أسماء نقدّرها، ولا أفكار نحترمها، ولا حقائق نثق فيها، لأنها قدرت أن تقتحم حرية الذاكرة فتفرض نفسها بما لديها من المؤثرات.
هؤلاء من تتعامل معهم ذاكرتي وهي في مطلق حريتها.

رجوعأعلى الصفحة
الاولـــــــــــــــى
محليــــــــــــــات
مقـــــــــــــــالات
الثقافية
أفاق اسلامية
ملحق الميدان
محاضرة
لقاء
عزيزتـي الجزيرة
الريـــــــاضيــــة
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved