Friday 12th November, 1999 G No. 9906جريدة الجزيرة الجمعة 4 ,شعبان 1420 العدد 9906


شخصيات قلقة
ميجل دي سرفانتس 1547 / 1616م
دون كيشوت بين الأصل والصورة

كان رود ريجو طفلا مدللا لمحام ثري من اسرة نبيلة انهارت فجأة لكن رودريجو استمر يعيش في برج النبالة الزائل وعندما صار رجلا يعول زوجة مريضة وسبعة افواه جائعة، تراكمت عليه الديون وبدلا من ان يسددها كان يصرخ محتجا بأنه هيدلجو اي سيد اسباني ابن اكابر وما دام شريف الارومة فلا ينبغي ان يسدد الديون! وقضى حياته بين غرف السجن وقاعات المحاكم تارة يطلقون سراحه لانه هيدلجو وتارة يقبضون عليه لانه لا يستطيع ان يثبت انه ابن اكابر.
وعن ابيه رود ريجو ورث سرفانتس البؤس والفقر ووهم النبالة وانتهى به المطاف خارما في بيت الكاردينال جيوليو وصديقا لابنه المناظر له في السن وذات يوم خرج الاثنان في احدى الغزوات الغرامية وصرعا شابين اخرين ثم هربا الى خارج اسبانيا في ثياب الرهبان وكان على سرفانتس ان يعيش عدة سنوات متخفيا بعيدا عن الوطن فعمل جنديا في حامية نابولي وضابطا تحت امرة ملك النمسا، واشترك في معركة ليبانتو بين الاسطولين الاسباني والتركي، وخرج من المعركة بجرح بالغ كاد ان يذهب بيده اليسرى كلها, وبعد بقائه فترة بالمصحة مل الخدمة العسكرية وسأل ملك النمسا ان يمنحه خطاب توصية الى فيليب الثاني ملك اسبانيا.
وكان هذا الخطاب سببا في غيابه عن اسبانيا خمس سنوات اخرى.
فقد وضع الخطاب في جيبه وركب على ناقلة جنود قادمة من نابولي وعلى شاطىء الريفيرا الفرنسي سطى القراصنة على السفينة واقنعهم خطاب التوصية بأن هذا الجندي المجازف المفلس صيد ثمين ومن ثم حددوا خمسمائة دوقية فدية له ونظرا لان اسرته المعدمة لا تملك هذا المبلغ قضى سرفانتس في الاسر خمس سنوات لكنها كانت فترة طيبة فالقرصان ينفق عليه ويغذيه ويسمح له بكتابة المسرحيات ولا يكلفه بأعمال شاقة املا وطمعا في الفدية الكبيرة حتى مرت السنوات وكاد صبره ينفد وقرر ان يرحل به الى القسطنطينية كي يبيعه في سوق الرقيق لولا ان جاء احد الرهبان لفداء بعض الاسرى فاعجب بسرفانتس وعمل على جمع التبرعات من اجل فك اسره.
اخيرا عاد الى ارض الوطن,, وبدلا من ان يستقبل بالترحاب كسائر الجنود العائدين المصابين، زج به في السجن بسبب الديون المتراكمة عليه والتي كانت جزءا من الفدية في تلك الاثناء قرر سرفانتس ان يتفرغ للكتابة فنظم القصائد والمسرحيات التي لم تزده الا افلاسا وراح يمدح معاصره الشهير لوبي دي فيجا بأسمى عبارات المديح عسى ان يصيب شيئا من المال او الشهرة لكن دون جدوى ولم يجد حلا لهذا العسر سوى ان يتزوج من ارملة ميسورة تمتلك ضيعة صغيرة, مع مرور الوقت لم تعد الضيعة تفي بمتطلبات الاسرة والابناء خاصة ان سرفانتس لا يمارس اي عمل ويكتفي بالكتابة التي لا تطعم دجاجة مما اضطره للعمل في قسم الامدادات بجيش الملك وكانت مهمته ان يتولى من الاهالي على ما يحتاج اليه الجيش من طعام ومنتجات وجياد ثم توزيع هذا كله على المعسكرات، وقد دلت الشواهد على ان هذا العمل كان اضخم مما يصلح له سرفانتس وكان الملك لا يشغله سوى تجهيز الاسطول الاسباني بما يلزمه كي يكتسح الاسطول الانجليزي من البحار السبعة لكن ما حدث ان هزم اسطول الملك وانهار وجاءوا بسرفانتس كي يسألوه عن حساباته المالية واتضح انه اودع اموال الحكومة عند مصرف برتغالي لم يلبث ان افلس بجانب ضياع الف دولار ومن ثم قبضوا عليه اربعة اشهر ولم يفرج عنه الا بكفالة وبعد ان تعهد بسداد المال الضائع وهو وعد لم يف به ابدا.
هكذا سارت حياة سرفانتس، خليط من السذاجة والتهور والكسل والاحساس بالنبالة والفشل الذريع لقد جرب ان يكتب قصص الريف والرعاة وغيرها من القصص الشائعة انذاك لكنه شعر انها جافة وغير طبيعية وليس لديه صبر على مكابدة الكتابة لهذه القصص, انه ينظر الى الاشياء في ضوء من الفكاهة الضاحكة، والاستهزاء والعبث، ولذلك عندما كتب رائعته الخالدة دون كيشوت لم يكن يهدف الى شيء جدي ولم تكن لديه اية خطة مجرد عجوز يوشك ان يبلغ الستين من العمر وسلوته الوحيدة ان يكتب بأسلوب هزلي يعارض به الاسلوب المتباهي المبرقش، وكان مؤمنا بأن البلاهة اذا صيغت في عبارة بليغة مزرقشة فأنها تنطلي على الجهلاء والادعياء.
ومن ذلك قوله ساخرا لقد كان السلام يعم العالم حينئذ، والجميع في ألفة ومحبة وود، والكل في وفاق واتحاد ووئام,, لقد كان سلاح المحراث حتى ذلك العهد لا يخطر بباله ان يشق احشاء الارض,,, في هذه الغلظة الوحشية وان يخوض فيها، ولماذا كان يفعل؟ وقد كانت تفيض بخيراتها,لقد اودع سرفانتس في شخصيتي قصته دون كيشوت وسانشو كل ما في نفسه وجميع مطامحه وتجاربه ساخرا من لهاث الانسان واوهامه فدون كيشوت فارس متجول يجوب اطراف العالم بجواده وسلاحه وراء المغامرات، ليمارس بنفسه كل ما قرأه من الوان البطولة، ينتقم لمن تنزل بهم اساءة ويبحث عن المخاطر كي يحقق المجد والشهرة يحمل في رحلته درعا صدئا وسيفا مكسور المقبض، وليس معه سوى حصان ضئيل اختار له اسما فخما يليق به روزيتانت كما اختار سرفانتس لبطله اسما رنانا ونسبه الى بلده جريا على عادة الفرسان آنذاك دون كيشوت دي لامنشا.
احيانا يمضي دون كيشوت يوما كاملا فلا يجد احدا يسيء الى احد ولا يجد منكرا يغيره او تنينا يقضي عليه, واحيانا يحل على احد الفنادق فيعامل معاملة النبلاء وعند دفع الحساب تكون المأساة بأنه مفلس لا يملك مالا كما لا يملك صاحب الفندق الا ان يضربه ويتمتم بعض الكلمات الفخمة المستعارة من احد المواقف التاريخية لملك انجلترا.
وسرعان ما ينعكس سوء فهم دون كيشوت لاحوال الدنيا على تصرفاته انعكاسا مؤلما ومع ذلك يستمر في رحلته رغم معارضة ربة البيت وابنة اخته والحلاق وغيرهم حيث ظنوه مخبولا لكنه جلب بعض المال من اجل الرحلة وفطن الى حاجة الفارس الى خادم يتبعه فجاء بسانشو الابله كي يرافقه بعدما اقنعه بما سيشن من حروب تجلب لهما مجدا اعظم من مجد الاسكندر,وفي طريقه يصادف فلاحا يضرب عبدا له فينهره دون كيشوت وبعد جدل شد وجذب يعرض عليه دون كيشوت المال كي يعتق العبد لوجه الله فيأخذ الفلاح المال ويترك العبد طليقا وبعد ما يمضي دون كيشوت بعيدا ويختفي عن الانظار يعاود الفلاح الكرة وينهال ضربا على عبده وهكذا كان يعالج دون كيشوت الاثام والشرور وهكذا يمضي في رحلته الخالدة يحارب طواحين الهواء.
وبعد اربعة قرون على رحيل سرفانتس لا يزال دون كيشوت يسكن بداخل الحالمين فرغم العجز وقلة الحيلة وفداحة الاثام والشرور لا يزال هناك من يركب حصانا ضامرا ويلوح في وجه الشر بسيفه الخشبي البتار ولا يزال دون كيشوت فوق جواده يعبر العصور والازمان بحثا عن الحق والعدل لجميع البشر.
شريف صالح
* المدخنة من الادوات الشعبية القديمة وقد صنفتها ضمن مجموعة ادوات القهوة المعروفة قديما حسب اللسان الدارج بالمعاميل وهي تعد من خشب الاثل الجيد, *
*تيمورلنك هو آخر المتشبهين بالاسكندر الاكبر ولاعجب أن عرف في كتب التاريخ بالغازي الكبير، إذ اخترق بجيوشه جوف آسيا واصلاً الى عمق اراضي الروسيا في اوربا بل والى دمشق ومنطقة الشام جنوبا بعدما اخضع على حد قول معاصريه العجم والعرب وأهل الهند والصين.
* تفسر اسطورة الزواج كالتالي: في مكان ما في العالم يوجد شريك ذو روح متكاملة تنسجم مبادئه بتلقائية مع مبادئ الشريك الآخر ثم يتحول هذا الانسجام الى واقع يربط الطرفين برابط الزواج ,*
رجوعأعلى الصفحة
الاولـــــــــــــــى
محليــــــــــــــات
مقـــــــــــــــالات
الثقافية
أفاق اسلامية
ملحق الميدان
محاضرة
لقاء
عزيزتـي الجزيرة
الريـــــــاضيــــة
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved