Friday 26th November, 1999 G No. 9920جريدة الجزيرة الجمعة 18 ,شعبان 1420 العدد 9920


تنازع غير مبرر بين مبادرتين لحل الأزمة السودانية
د, وحيد عبدالمجيد

لم يكن ينقص الأزمة السودانية إلا التنازع الذي بدا في الأيام الماضية بين مبادرتين لحلها، وكأن المشكلة الوحيدة هي من الذي يرعى حلا صار ممكنا او اقترب أمده.
فقد تسارع فجأة السباق بين مبادرة الهيئة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف في شرق افريقيا (إيقاد) ومبادرة جديدة مصرية ليبية دون أن يكون لهذ السباق مبرر او مقتضى.
فالأزمة السودانية لم تتحرك الى الحد الذي يفسر سباقا من أجل رعاية حل نهائي لها, وما زال أطرافها المباشرون إن في الداخل أو في الخارج، بعيدين عن الحد الأدنى من الاستعداد اللازم للتقدم صوب حل وسط.
وهذا دليل جوهري على امكانات نجاح أي دور اقليمي, فأيا كانت أهمية وجدية الجهود الاقليمية الهادفة الى حل نزاع داخلي، يظل العامل الحاسم متعلقا بمواقف اطراف هذا النزاع ومدى استعدادهم للتقدم صوب حله.
فإذا لم يتوافر هذا الاستعداد يبقى الجهد الاقليمي دائراً في حلقة مفرغة، ولذلك يتوقف المقدار الأكبر من فرصة نجاح الوسيط الاقليمي على مدى ادراكه لواقع الأزمة التي يتحرك لحلها وذكائه في اختيار الوقت المناسب للتدخل.
وهذا هو ما يفسر لماذا نجحت جهود اقليمية وفشلت اخرى في معالجة نزاعات داخلية في بلاد عربية,
فقد نجحت جهود المملكة العربية السعودية لقيادة وساطة فعالة ولأنهاء أزمة الحرب الأهلية اللبنانية عبر مؤتمر الطائف المشهور في العام 1988 بينما اخفقت تحركات عربية وافريقية عدة في احراز أي تقدم على طريق حل الأزمة الصومالية, وأكثر من ذلك كان نجاح الدور السعودي في حل الأزمة اللبنانية تاليا لاخفاقات عربية منذ اندلاع تلك الأزمة في العام 1975م.
وهذا هو ما ينبغي أن يلاحظه المتنافسون الآن على رعاية حل لا يبدو قريبا للأزمة السودانية، وإذا كانت مبادرة إيقاد لم تحقق اختراقا على مدى سنوات، فلا يرجع ذلك الى اختلال جوهري فيها او في تحركات القائمين عليها وطريقة معالجتهم للأزمة، بمقدار ما يعود الى عوامل موضوعية ذات صلة بالهوة الواسعة بين طرفيها الرئيسيين وهما الحكم والمعارضة فضلا عن الانقسام الواضح في دوائر الحكم والخلافات التي يصعب اخفاؤها في أوساط المعارضة.
وما فشلت فيه مبادرة إيقاد ليس واردا ان تنجزه مبادرة اخرى، حتى اذا كان تحرك القائمين عليها وطريقة معالجتهم للأزمة أفضل حالا.
ويجوز القول حقا ان المبادرة المصرية الليبية تبدو للوهلة الأولى قائمة على رؤية اكثر شمولا للأزمة السودانية وهي رؤية تعتبر الأزمة أوسع نطاقا من نزاع عرقي، ديني بين شمال وجنوب، حتى إذا كان هذا النزاع هو مصدر الجانب الأكثر إيلاما في الأزمة، وهو الحرب الأهلية المسلحة التي تأكل الأخضر القليل وتكثر من اليابس الكثير في السودان.
فالمبادرة المصرية الليبية تهدف الى اجراء حوار ومفاوضات بين الحكومة السودانية وقوى المعارضة مجتمعة ممثلة في التجمع الوطني الديمقراطي، في حين تستبعد مبادرة إيقاد قوى المعارضة الشمالية وتحصر المفاوضات في الحكومة والقوة المعارضة الرئيسية في الجنوب وهي الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون جرنج.
كما تسعى المبادرة المصرية الليبية الى حل شامل للأزمة تكون مشكلة الجنوب جزءا منها، في حين تركز مبادرة إيقاد على حل هذه المشكلة تحديدا كمنطلق لتسوية الأزمة.
ومع ذلك فالفرق بين المبادرتين في طريقة معالجة الأزمة ليس جوهريا, ويجوز القول انهما تلتقيان في المحصلة النهائية، لأن احداهما (إيقاد) تسعى الى حل الأزمة كلها انطلاقا من تسوية جزء منها افتراضا أن الأهم او يمثل الحلقة المركزية فيها، وهو الجزء الخاص بمشكلة الجنوب، اما المبادرة الثانية فهي تنطلق من حل كلي للأزمة يتضمن في سياقه تسوية المشكلة الجنوبية.
غير ان الفرق الأهم يكمن في نوع ومضمون معالجة الأزمة، فالانطلاق نحو معالجة شاملة للأزمة في كليتها، كما في المبادرة المصرية الليبية ينطوي ضمنا على رفض احد أهم الأسس التي يقوم عليها الحل في إطار مبادرة (إيقاد) وهو حق سكان الجنوب في تقرير المصير.
ومعروف ان مصر لم تقبل أبدا ما سبق التفاهم عليه في المفاوضات التي ترعاها (إيقاد) وهو اجراء استفتاء مستقبلي لتقرير مصير جنوب السودان ويرجع ذلك الى كون السودان عمقا استراتيجيا لمصر التي ترى ان الحفاظ على وحدته ضروري لأمنها القومي عموما وأمنها المائي خصوصا في مصر.
أصبحت المياه فيه سلاحاً فعالا ومؤثرا في التفاعلات الاقليمية.
ويلقى هذا الموقف المصري قبولا عربيا واسعا يشمل ليبيا, وهنا يرتبط مضمون المبادرة المصرية الليبية بالطريقة التي يقترحها طرفاها لمعالجة الأزمة بدءا بالكل ووصولا الى الجزء، لأن السعي الى حل كلي يتضمن بالضرورة ادخال تعديلات على النظام السياسي تجعل فرص الحفاظ على وحدة السودان أكبر وتدعم امكانات الوصول الى حل يلقى قبولا في جنوب السودان ويغلق الباب ثانيا أمام خيار حق تقرير المصير او يضمن ان تكون نتيجته تأكيدا طوعيا لوحدة اراضي البلاد.
ولكن نجاح مثل هذه المعالجة المتضمنة في المبادرة المصرية الليبة يتوقف على تضييق الفجوة الواسعة بين حكومة لن تقبل حلا قد لا ينهي سلطتها فقط، وانما قد يهدد بعض رموزها بالملاحقة القانونية وبين معارضة لا يعوز بعض قادتها الاندفاع الى مثل هذا التهديد، في الوقت الذي صار نموذج بينوشيه منبها لأي حاكم مستبد وموحيا إليه بالبقاء في السلطة بأي وسيلة وايا كان الثمن.
ومن هنا فإن المبادرة المصرية الليبية تواجه بالعقبة الكبرى نفسها التي واجهت مبادرة (إيقاد) وما زالت وهي الفجوة الواسعة التي لا تضيق بين الحكم والمعارضة.
صحيح ان المذكرة التي بحث اطراف المعارضة السودانية في الداخل تقديمها الى الرئيس عمر البشير هذه الأيام تبدو أقل حدة وتخوينا من تلك التي سبق تسليمها في مطلع العام الجاري, فوفقاً للصياغة الأولية التي ظهرت الى العلن، في بداية الأسبوع الثاني من الشهر الجاري (تشرين الثاني نوفمبر) لا نجد مطالبة مباشرة بمحاكمة الذين تسببوا في تقويض الديمقراطية حسب الصياغة الاستفزازية التي وردت في المذكرة السابقة.
ولكن المذكرة الجديدة التي لم تحظ بقبول كل اطراف المعارضة الداخلية في كتابة هذه السطور تتضمن معنى الوعيد في صورة غير مباشرة او قل في صياغة مخففة عبر الإشارة الى اقامة آلية قضائية للتصدي لكافة المخالفات التي ارتكبت في حق الشعب السوداني منذ الاستقلال.
وهذا مطلب لا بد ان يفهمه بعض حكام السودان باعتباره تهديدا لهم قبل غيرهم، بما يعنيه ذلك من ان كل من سيخشى الوقوع تحت طائلة هذه الآلية سيعمل من أجل تجنب أي حل يتضمن تداولا على السلطة، الأمر الذي يقود الى افشال أي جهود لمعالجة الأزمة سواء بدءا من الكل ووصولا الى الجزء، او العكس.
ويعني ذلك أن المبادرة المصرية الليبية مثلها مثل مبادرة (إيغاد) لا تمتلك فرصة يعتد بها لتحقيق اختراق في معالجة الأزمة السودانية, ولذا يثير التنازع بين المبادرتين استغرابا في الوقت الذي تشتد الحاجة فيه الى تعاون وتكامل الجهود كلها.
وربما كان الأكثر إثارة للاستغراب هو التحفظ الامريكي المعلن على المبادرة المصرية الليبية ولكن الدلالة الأهم لهذا التحفظ هي انه يعبر عن سوء تقدير امريكي يتكرر كثيرا في التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط فقد انتشر تفسير لهذا التحفظ يدعم اعتقادا يسود أوساطا عربية وهو ان الولايات المتحدة تسعى الى تقسيم السودان وتستغل مبادرة (إيغاد) وتوجهها في هذا الإتجاه.
وينبغي التمييز هنا بين ما يمكن اعتباره هدفا سياسيا يدخل في إطار الاستراتيجية الامريكية وبين المواقف وردود الفعل التي تعبر عن تكتيك سياسي, والثابت حتى الآن على الأقل ان تقسيم السودان ليس هدفا امريكيا بل الأرجح ان هذا التقسيم لا ينسجم مع استراتيجية الولايات المتحدة.
فالمصلحة الامريكية في المنطقة ترتبط بوجود حد أدنى من الاستقرار, والأكيد أن تقسيم السودان لا يحقق أي استقرار اقليمي بل يفتح الباب واسعا أمام تداعيات ضارة بالاستقرار وتصعب السيطرة عليها.
كما ان التقسيم من شأنه ان يحرر حكومة السودان من عبء ثقيل ويتم لها فرض سيطرة نهائية على شمال البلاد, وليس خفيا ان هناك اتهاما في داخل النظام السوداني في ظل هذا الخيار لأنه يرى البقاء في السلطة أهم من الحفاظ على وحدة البلاد, وهذا هو الاتجاه الذي يضع العراقيل أمام حل الأزمة طالما أن هذ الحل سيؤدي الى تداول على الحكم.
والمفترض أن في امكان واشنطن ادراك ان تقسيم السودان يخدم الجناح الأكثر تشددا في النظام الحاكم, ومع ذلك فليست كل سياسات أمريكا مدروسة جيدا او عقلانية للغاية، وإلا لما ارتكبت الأخطاء الكثيرة التي وقعت فيها وسببت إرباكات لاستراتيجيتها في الشرق الأوسط من وقت الى آخر.
وليس أدل على ذلك من الخطأ المتمثل في إبداء تحفظ علني او حتى غير علني على المبادرة المصرية الليبية وبلغة غير ودية استدعت ردا من القاهرة على لسان وزير الخارجية السيد عمرو موسى, كما أتاح الموقف الامريكي فرصة لمسؤولين سودانيين لتحميل واشنطن المسؤولية الأولى عن عرقلة حل الأزمة، وكأن المبادرة المصرية الليبية تحمل هذا الحل على طبق من ذهب أو فضة.
والأرجح أن واشنطن لم تتمكن من اخفاء غضبها تجاه مشاركة ليبيا في مبادرة كهذه, فما زالت امريكيا ترفض إعادة تأهيل النظام الليبي وتصر على استمرار عقوباتها المفروضة عليه حتى بعد تعليق الحصار الدولي, ولذلك يمكن فهم رد الفعل الامريكي هذا من زاوية دور ليبيا أكثر مما يمكن تفسيره تأسيسا على سياستها تجاه السودان.
ولكن الدولة العظمى التي تترك ردود فعلها تنساب على غير هدى، والتي تخلط اعتبارات تكتيكية بأخرى استراتيجية يمكن ان ترتكب أخطاء كبيرة, وكذلك فليس مستبعدا كليا ان تدفع باتجاه تقسيم السودان دون ان يكون هذا هدفا لها، ثم تكتشف أنها أضرت مصالحها كما حدث بعد الثورة الإيرانية على سبيل المثال.
فالأكيد ان واشنطن لم تسع ابدا الى استبدال النظام الشاهنشاهي ولم تدعم اي تمرد عليه, ولكنها ارتكبت اخطاء عدة وأساءت تقدير الموقف مما قاد في النهاية الى توفير اجواء مواتية لنجاح ثاني أكبر ثورة مناوئة لها في هذا القرن بعد الثورة البلشفية الشيوعية.
ومن هنا الخطر الكامن في استمرار التنازع غير المبرر بين مبادرتين لحل الأزمة السودانية وخصوصا إذا أدى الى سباق بين أصحاب المبادرتين ودخلت واشنطن طرفا فيه.
وليس في مصلحة مصر ولا ليبيا أن تتأثر جهود حل الأزمة السودانية بخلافات ونزاعات وتكتلات لا صلة لها بهذه الأزمة فضلا عن تداعياتها السلبية عليها, ولذلك ربما يكون القول الأفضل لمصر هو السعي الى دمج او تكامل المبادرتين على نحو يتيح لها فرصة للتأثير على جهود حل الأزمة ويحجم خيار حق تقرير المصير للجنوب ولكن من خلال التفاهم وليس المواجهة ضد دول (ايغاد) ومبادرتهم.
وقد صدر عن المبعوث الامريكي الى السودان خلال زيارته للقاهرة في الأسبوع الأول من الشهر الجاري ما يعبر عن استعداد لخيار الدمج بين المبادرتين وليس واضحا ما اذا كان هذا الاستعداد يتضمن القبول بدور لليبيا من عدمه, ولكن الأرجح ان دورا لليبيا في إطار جهد اقليمي واسع النطاق قد لا يثير غضب واشنطن، بخلاف مشاركتها في مبادرة ثنائية.
فاذا تم دمج المبادرتين ستصبح ليبيا واحدة من سبعة اطراف الى جانب مصر ودول (الايقاد) وهي كينيا واثيوبيا واوغندا واريتريا وجيبوتي.
ولذلك تبقى مشكلة عدم حماس دول (ايقاد) لمشاركة مصر معهم في وقت كانت العلاقات بين القاهرة والخرطوم مأزومة ولكن هذا الوضع تغير بعد أن بدأ الدفء يسري بين البلدين، الأمر الذي ييسر غالبا امكانات التفاهم بين مصر ودول (إيقاد) على عمل مشترك هو أفضل يقينا من استمرار التنازع بين مبادرتين.

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

أفاق اسلامية

قمة مجلس التعاون

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

شرفات

العالم اليوم

تراث الجزيرة

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved