الرجال العظماء هم الذين يترك لهم التاريخ بصمات في جبين الامة، وأعمالاً تنبىء عن حملهم هموم الاجيال والسعي لتذليل العقبات في سبيل توفير ما يحتاجه الفرد، بدءاً بالأهم فالمهم,, حتى تتسع الأعمال كالدوائر المائية، عندما يرمى الحجر في اليم,, وبرعاية الفرد تحصل الفائدة للمجتمع.
والملك عبد العزيز رحمه الله عندما وصل الرياض صبيحة يوم 5 شوال 1319ه كان يحمل في رأسه: الصغير بعدد سني عمره، الكبير بطموحاته، هموماً كثيرة لأمته سواء كانت هموماً اجتماعية، او معيشية، او تعليمية واستقراراً أو اقتصادية وإراحة للأسرة,, أو غيرها من الأمور التي كانت تشغل باله، وتحرك الاحاسيس في وجدانه.
تحمّل عبد العزيز الجوع والعطش هو ورجاله في سبيل تحيّن الفرصة، لتوفير الغذاء لأبناء الأمة: طعاماً وشراباً وكابد الحروب وسرى الليل، لينعم المواطن، وقاصدو الأماكن المقدسة: حجاجاً وعماراً، بالأمن والراحة، في البر والبحر، وفي مقر الإقامة أينما كانوا,, وطوى البلاد طولاً وعرضاً، حتى يؤلف القلوب، ويوحد الشمل، ويقضي على النزاعات المختلفة.
أمور كثيرة، كانت تدور في مخيلة عبد العزيز، فصار يسعى لتحقيقها، بكل ما يستطيع وينفق كل ما يصل الى كفيه، بعطاء سخي وكرم متناهٍ لافراد شعبه، لأنه شعب لا موارد له، وثلاثة أرباعه بادية رحّل، يتابعون مواضع سقوط المطر، حتى تعيش مواشيهم فإن اخلف ساءت حالتهم وهلكت مواشيهم التي يعتمدون عليها بعد الله في المعيشة حيث طعامهم وكساؤهم وجميع شؤونهم منها,.
يعرف عبد العزيز عن الصحراء ومنابعها، وقساوتها وندرة محاصيلها الغذائية وما يعترض ابناءها من مشكلات لأنه قد نبت فيها وعرف ما يؤرق الفرد فيها، حتى كان المثل الدارج فيها: بلاد تلد ولا تغذي أولادها.
فكان من الأوليات عنده: الأمن الغذائي لهذا الشعب,, والأمن الغذائي في ناحيتين: الماء الذي لا غنى عنه للبشر خاصة ولكل كائن حي، خاصة وان البلاد لا يتوفر فيها أنهار، والعيون والينابيع في أماكن محدودة، والناحية الثانية هي الطعام وتنويعه حيث بتوفره تتحسن الصحة، وتستقيم الأجسام,, والمثل الشعبي يقول: من ضمّ قوته ضمّ عقله.
في حديثنا السابق عن الملك عبد العزيز والأمن الغذائي، تحدثنا عن هاجس الملك عبد العزيز، وحرصه على اطعام شعبه، ونماذج من الأمور التي بدأها في هذا العمل، كحل عاجل، وذلك بإطعام البطون الجائعة، وتأمين الغذاء مجاناً او بارخص الاسعار ايام الحرب العالمية الثانية، حيث كان لجهوده رحمه الله، وحسن تدبيره للأمور دور كبير في تخطي مشكلة مرت بغالبية الأمم وبعضها غني بمصادره الزراعية وأنهاره الجارية,.
وحيث وعدنا القارىء الكريم، بالحديث عن الملك عبد العزيز والزراعة، باعتبار ان الزراعة، وتشجيعها، مصدر مهم من مصادر الأمن الغذائي من داخل البلاد,, فإن الحديث هذا لا يعتبر استقصاء لأعمال الملك عبد العزيز رحمه الله في هذا المجال، والذي وسّع نطاقه جهداً وعملاً، أبناؤه من بعده حيث توالت الأعمال مدّاً وتشجيعاً، وتخطيطاً وفرصاً متاحة، في عهد كل من تولى القيادة بعد وفاته رحمه الله: سعود وفيصل وخالد رحمهم الله، ثم ازداد الأمر بما برز من أعمال في المجال الزراعي، وفي الصناعة الغذائية، منذ تولى خادم الحرمين الشريفين دفّة القيادة، وبمؤازرة سمو ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء,, ومن يعاضدهم من مسؤولين مخلصين,,
إن الملك عبد العزيز، بنظرته الثاقبة، قد جابه نقص المياه في مكة وجدة أولاً، منذ دخل مكة معتمراً عام 1343ه فقد كانت العين الوحيدة التي تسقي أهل مكة والوافدين اليها عين زبيدة شحيحة فضاعف الملك عبد العزيز مواردها، ثم في عام 1365ه جلب المياه من وادي فاطمة الى انحاء من مكة والى جدة بالعين العزيزية، وازداد الاهتمام بهاتين المدينتين عاماً بعد عام في توفير المياه بعد ذلك التاريخ، وفي المدينة المنورة استسقى الناس من العين الزرقاء التي اهتم بها الملك عبد العزيز، وفي الرياض اجري الماء بأمر الملك عبد العزيز بعد تكاثر الناس واتساع المدينة من عدة مصادر جوفية: وادي الباطن والسويدي والحائر ونمار وفي سائر انحاء البلاد اعان الملك عبد العزيز على الإكثار من حفر الآبار الارتوازية وجلب المكائن لها، وقسط اثمانها على الفلاحين ليزرعوا وذلك قبل ظهور النفط، بل كان يسامح الفلاحين في القيمة ويعفيهم من اداء ما عليهم.
ولما كان الملك عبد العزيز قد عاش في واحة يبرين جنوب الأحساء في منطقة الربع الخالي فترة من الزمن في عامي 1318 1319ه فإنه قد ادرك من هذه التجربة اهمية استقرار البادية وتوطينهم وتشجيعهم على الاستقرار بالبناء والزراعة وساعدهم في توفير الماء، وما يعين على الارتباط بالارض، وترك حياة البداوة والترحال، فكانت خطة عظيمة في تحضيرهم وتوفير من يعلمهم، فباعوا الإبل، وأهملوا أمرها كما يقول الزركلي وشرعوا في دراسة الدين فغصت بهم المساجد، واصدر العلماء فتوى شرعية بضرورة العمل للكسب من التجارة والزراعة، فكانت أول هجرة في عام 1330ه وهي الارطاوية حيث بلغ عددها عام 1369ه مائة واثنتين وخمسين هجرة (152) أورد أسماءها الزركلي في كتابه: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز ]1:263 268[.
وكانت ركائز هذا البرنامج التي استقر على اساسها عدد كبير من الهجر التي تحولت فيما بعد الى مدن عامرة بكل متطلبات الحياة تهدف الى توفير مقومات الحياة المستقرة ومن ذلك:
حفر الآبار لتوفير المياه الصالحة للشرب والزراعة.
إقامة المساكن للأسر.
إيجاد المرافق الصحية.
تشييد المساجد وتزويدها بالمرشدين مشايخ لتعليم أمور الدين.
فتح الطرق بين الهجر والمدن والقرى.
التشجيع على العمل في مجال الزراعة لانتاج حاجتهم من المحاصيل الغذائية الى جانب التوسع في تربية المواشي.
وقد تحقق من هذا البرنامج نتائج عديدة انعكست ايجابياً على الحياة: اقتصادياً واجتماعياً وروحياً وعلمياً وصحياً وسياسياً.
ولم يكن الملك عبد العزيز رحمه الله بافقه الواسع ونظرته البعيدة ليقصر الاتجاه نحو الأمن الغذائي في بلاده بطريق واحد بل وسع دائرة العمل بعد ان استقرت البلاد في وحدة شاملة، وتوفر في ربوعها الأمن فاتجه الى مواطن المياه في البلاد حيث تتوفر العيون، والاراضي الخصبة، حيث شجع على استصلاحها، وسعى جاهداً في استقدام خبرات فنية خارجية من العراق ومصر والولايات المتحدة الامريكية وفرنسا وسوريا وفلسطين وكان مشروع الخرج الزراعي في السهباء ثم في خفس دغرة الذي تم انشاؤه عام 1358ه بأمر من الملك عبد العزيز رحمه الله يعتبر أول وأضخم مشروع زراعي من نوعه ينشأ في حينه في ارض شبه الجزيرة العربية ولا يزال قائماً، بل توسعت المنطقة في المشاريع الزراعية وتربية الدواجن والمواشي وصناعة الالبان.
وقد صدرت احصائية من وزارة الزراعة عن المحصول السنوي لثلاثة أعوام هي 1366، 1367، 1368ه وهي المراحل الاولى من عمر هذا المشروع في كتاب عن الزراعة والمياه في المملكة عبر مائة عام:
وقد بلغ مجموع العاملين في هذا المشروع عام 1365ه 1452 عاملاً وفنياً.
ولاهتمام الملك عبد العزيز بهذا الجانب فإنه حرص على الاستفادة من علم وخبرات الآخرين في مجال الجيولوجيا لمعرفة مكامن المياه، والمجال الزراعي لتقدير المساحات المزروعة وما يصلح للزراعة,, وخرج عن ذلك دراسات عديدة تتمثل في:
1 دراسات كارل يوتشا التي بدأت في أواخر عام 1349ه.
2 البعثة الامريكية الزراعية التي وصلت الرياض عام 1362ه.
3 فريق الري الامريكي الذي وصل عام 1364 ه للعمل في مشروع الخرج وخفس دغرة الزراعي وقد قام بإنشاءات عديدة وعلى احدث الطرق من مجار للصرف والري وادخال احسن الاساليب في الزراعة بأنواعها، وزار فيما بعد الطائف.
4 فريق المهندسين الأمريكي في عام 1366ه وقدم تقريراً عن السدود التي يمكن انشاؤها في المملكة وما يرى اصلاحه.
5 دراسات شركة الزيت العربية الامريكية أرامكو التي وضعت تقارير وخرائط جيولوجية وقدمت خدمات فنية للمزارعين في الاحساء والقطيف لتنويع زراعاتهم وادخال انواع عديدة من الخضراوات والفاكهة.
6 البعثة الفنية الزراعية العراقية في اعمال المساحة والري في عام 1353ه وكانت اعمالها كلها في مشروع الخرج.
7 البعثة الفنية الزراعية المصرية في عام 1361ه وقامت عامين نظمت الري بمشروع الخرج حيث امكن زراعة مساحة بالحبوب، وزراعة بعض المحاصيل والخضراوات الجديدة كالبرتقال والمشمش والكمثرى وبعض الخضر، وتربية المواشي .
8 البعثة الفنية السورية في عام 1368ه اعان الفنيون في مجال زراعة اشجار الفاكهة والحدائق واشجار الزينة وانشاء المشاتل لتشجيع زيادة الرقعة الخضراء داخل المدن وتنويع انتاج الفواكه وأنواع الزهور.
9 بعثة المساحة الجيولوجية الامريكية في عام 1368ه حيث اجرت مسحا جوياً لعدة اقاليم بالمملكة لمعرفة مكامن المياه.
10 بعثات فنية اخرى منها في عام 1354ه منها احدى الشركات الفرنسية للتحري عن المياه في نطاق جدة 40 كم من كل جهة وفي عام 1367ه قامت شركة جلاتلي هنكي المحدودة مع بعض الشركات السعودية والانجليزية والمصرية بايصال المياه لجدة من وادي فاطمة وفي عام 1369ه قامت شركة ميتشل كوفي الامريكية بدراسة تركيب عدد من المضخات الرافعة في الرياض والخرج والافلاج والاحساء.
وقد ترتب على هذه الاعمال: اهتمام الملك عبد العزيز في عام 1361ه فأصدر اوامره الكريمة بالعمل على ابتعاث بعض الطلاب للدراسة والتخصص في مختلف المجالات الزراعية والمائية ليكونوا نواة للخبرة الفنية الحديثة الوطنية.
ومع اهتمام الملك عبد العزيز رحمه الله بالزراعة حيث يتوفر الغذاء للمواطن ومع الجهود السابقة باستقدام خبرات اجنبية من كل مكان، فقد رأى في عام 1367ه انشاء مديرية للزراعة قامت منذ عام 1368ه بأعمال منها:
1 جلبت مكائن للري باعت منها للمزارعين 634 مكينة بالتقسيط ولآجال طويلة، ثم امر باعفائهم من القيمة.
2 جلبت حفارتين ارتوازيتين احداهما لمنطقة الطائف والثانية لتجارب المديرية.
3 استوردت نحو 30,000 شجرة كافور وكازورنيا لصد الرياح ولتشجير الطريق بين مكة وجدة ولمنطقة العاقول.
4 استوردت 6252 من اشجار البرتقال واليوسفي والمانجو والعنب والخوخ والمشمش والتفاح وغيرها ووزعتها على الفلاحين مجاناً.
5 استحضرت سبعة جرارات للحرث، ثم جلبت عشرة أخرى وزعتها في بعض الجهات لاصلاح الاراضي الزراعية وحرثها.
6 اعلنت بأمر الملك عبد العزيز عرض الأراضي الحكومية على الراغبين في استئجارها بأجر زهيد وصارت فروعها عشرة.
7 اقرضت في عام 1369ه المزارعين 1,116,000 ريالاً لشراء الآلات الحديثة واصلاح قنوات الينابيع.
وجهود الملك عبد العزيز رحمه الله واهتماماته بالزراعة كثيرة جداً بحيث اصدرت تنظيمات ادارية وتنظيمات فنية ويمكن إجمال هذه التنظيمات فيما يلي:
أولاً: الادارية:
مثل:
1 التنظيم الاداري للتجارة وأعمال الزراعة الذي صدر بالأمر السامي رقم 47 في 24/7/1344ه.
2 إنشاء مأمورية نيابة لحل القضايا والمنازعات بين المزارعين صدر بالأمر السامي رقم 17 تاريخ 26/3/1346ه.
3 التعليمات الخاصة بالمنتجات الزراعية: هيئة تتولى دراسة امور التنمية الزراعية واستصلاح الأراضي بالقرار 686/21 وتاريخ 19/11/1350ه ويشمل ايضاً تشجيع الزراع على الأخذ بالوسائل الحديثة لتطويرها, وغيرها وهي ستة أمور بينها القرار.
ثانياً: الفنية,, وهي ستة ايضاً منها:
1 اعفاء الآلات الزراعية من الرسوم الجمركية بالموافقة السامية 17 تاريخ 26/3/1346ه.
2 مكافحة الجراد والاضرار الناجمة عنه بموجب الأمر رقم 85 تاريخ 8/5/1358ه.
3 دراسة تقديم مساعدات عينية ونقدية للمزارعين الصغار بالأمر السامي رقم 222 وتاريخ 9/9/1357ه.
4 الاهتمام بطرق وحفظ وتعبئة التمور بالقرار رقم 628 تاريخ 27/11/1357ه.
5 الموافقة على إنشاء شركات زراعية في بعض مناطق المملكة منها:
أ شركة زراعية مساهمة في الوجه بالمرسوم الملكي رقم 2659/20 تاريخ 12/8/1350ه.
ب شركة زراعية بالبكيرية بموجب القرار رقم 17 تاريخ 1369ه وشركة اخرى في اشيقر بالوشم.
ج شركة زراعية بالطائف بالأمر السامي رقم 369 تاريخ 4/12/1347ه.
د مشروع زراعي بمنطقة جازان مع اعفاء الآلات والتجهيزات له من الرسوم الجمركية بالمرسوم الملكي رقم 20 هذا الى جانب قيام هيئات زراعية وتكوين هيئة للنظر في التنمية الزراعية وغير ذلك من التنظيمات العديدة.
كتاب في الحجاز:أورد الزركلي شيئاً مما قاله محيي الدين رضا في كتابه الذي سماه بهذا العنوان ولم يوضح تاريخه لكنه مطبوع قديماً في القاهرة ومن ذلك قوله لما استقر الأمر للملك عبد العزيز سار في بلاده سيرة الحزم، وشرع يعمل لتوطيد اركان عرشه والسير بأمته في مضمار النهوض والرقي ومن أظهر ما عمله تحضير قبائل نجد ونقلها من حياة الجهل والخصومات الى حياة العلم والتدين مما جعلهم يقسمون طرفي حياتهم الى حياة الجاهلية وحياة الإيمان.
وحسب القارىء ان يعلم ان البدوي النجدي كان يفتخر بالسطو على القوافل، ولما ذاق نور الهداية التي بثها فيه الملك عبد العزيز بلغ فيه الأمر أن احدهم وجد في اثناء معركة حربية كيساً من نقود الأعداء فجاء يستشير شيخه في أمر هذا الكيس فقال له: هذا ليس من حقك كله والواجب عليك ان تعطيه الى ولي الأمر ليقسم على المحاربين وينالك قسم منه حسب الشريعة، فانظر كيف انقلب ذلك العربي الذي كان يستحل قتل المارة والسطو على مالهم الى رجل أمين لا يستحل مالاً وجده في معركة وكيف ينزل على حكم الشرع، فيسلمه الى ولي الأمر ليناله منه قسم هو أقل من القليل.
ومن جليل فضل الله على الملك عبد العزيز ان الله جعل النصر حليفه في كل عمل نهض به، منذ أن تحرك لاسترجاع ملكه، فقد فتح الرياض في 15 يناير 1902م وضم الخرج والمحمل والشعيب والوشم في سنتي 1902م و1903م وانتصر على آل رشيد والترك في استخلاص القصيم سنة 1903 1906م وقضى على الثورات الأهلية سنة 1909م وفتح الأحساء سنة 1913م ووسع مملكته الى تربة والخرمة سنة 1919م وضم عسيراً وفتح حائل والجوف في سنة 1921م ودخل الحجاز في 1924 1925م وانشأ العلاقات السياسية مع الدول الأجنبية وبسط حمايته على تهامة سنة 1926م واعلن توحيد الممالك الخاضعة له باسم المملكة العربية السعودية في 22 سبتمبر 1932م وحسبه فخراً انه أمّن البلاد لدرجة صارت فيها الغادة الحسناء تستطيع ان تسير من اقصى مملكته الواسعة الى اقصاها وهي متحلية بحليها فلا تخشى سطو ساقط، او نهب ناهب ]شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز ص 1377[.