Thursday 2nd December, 1999 G No. 9926جريدة الجزيرة الخميس 24 ,شعبان 1420 العدد 9926


بدون ضجيج
سيدة تشبه الوطن!!
جارالله الحميد

توّاً فرغت من مشاهدة (فيلم) يمكن ترجمة اسمه هكذا (سيدة مثل الوطن) وهو إنتاج ايطالي/ فرنسي مشترك، أجمل ما في هذا الفيلم بساطته الرائعة, وحواره المدهش، بعيداً عن الوجع الذي يحدثه أي عمل عظيم في أعماقنا (هذا عندما نكون بشراً أسوياء!), لأن الوجع صنو الحياة, بطلا الفيلم يعملان في الكتابة, البطل كاتب كبير ويعمل لصالح صحيفة منافسة للصحيفة التي تتعاون معها بطلة الفيلم, وذات مرة تعمدت ان تعمل ريبورتاجاً حول الرواية واختارت البطل ضمن مجموعة من الأسماء التي رغم اعتراضه عليها وشعوره بأنها أقل منه (عملياً) فقد شارك بأجوبة تكاد تكون هزلية!!, لم يكن يعرف عن الكاتبة اي شيء له قيمة فعلية, غير انها من الصحيفة المنافسة.
بعد أيام بدأت رسائلها إليه!.
كان واسع القلب, فلم يشأ أن يقول إنه أكبر من هذه المصائد, لقد عرف (هدفها) بمنتهى السهولة، وشاء أن يضمها الى سائر علاقاته المتشابكة التي فرضها عليه موقعه, كان جدياً, عميقاً, لا يعرف الفرق بين الحياة والكتابة!! وكان مر بتجارب يفرضها الواقع السياسي في بلده, مُنع من الكتابة, ودخل المعتقل, لكنه ظل وفياً لاختياره, تزوج, وأنجب, وهاجر مرة تحت ضغوط الحاجة للتعبير والعيش,, وما لبث ان عاد، كان يعرف ان قضيته في وطنه!! كانت (ايطاليا) بالنسبة اليه هي: الأم، والمعنى، والعشق.
وظل يرد على رسائل هذه الكاتبة، حتى جاء يوم صدقها فيه, ارسلت له بالبريد كتاباً قديماً لها, سيء الطباعة مثلما هو سيء في كل شيء, وحين قرأ مكان الطبع وجده في (اليونان) عام 1968، تذكر لكنتها ونطقها لبعض الحروف، وقرر ان يحاورها حول ذلك, حدثها بالهاتف، قالت ان امها هي اليونانية أما أبوها فهو إيطالي اصيل, بدأ شيء من الميل تجاهها, رغم سنيه الأربعين كان بحاجة الى عشق يؤجج فيه كتابته, ومبادئه, هنا حدث خطؤه الكبير، وهناك شيء يشبه الاعتقاد في وطنه بأن النساء اليونانيات لا يمنحن شيئاً بدون ثمن, فقرر أن يثبت بمبادئه ان هذا مجرد هراء! وأن المرأة هي المرأة, وكلما تذكر كتابتها التي أحس انها مقبولة ازداد افتتاناً بها, صارت عادة يومية له أن يهاتفها، وأن يتلقى رسائلها المتأججة, وخلال حديث هاتفي قرر الزواج!,, هكذا, لم يزل ذلك المناضل المندفع, أقنع زوجته وأولاده, قال (أنتم تعرفون أن ما نحن فيه من مستوى معيشي جيد يعود للكتابة, أعطوني فرصة لأكتب, زواجي سيفعل ذلك!), زوجته قالت بدهاء النساء (لست أول ضحايا اليونانيات!) وأضافت (هؤلاء لا يعرفن غير لغة النقود, ستفعل ذلك وتكتشف صدق كلامي, ما الذي يدفع بنتاً الى الارتباط برجل متزوج وله بيت وأولاد؟, قل لي(، أجاب بموضوعية (لأنها يا عزيزتي في الخامسة والثلاثين!).
ضحكت زوجته بهيستيريا, كان ذلك أجمل مشاهد الفيلم, السماء الزرقاء تشكل خلفية لمشهد الضحك الذي هو (بكاء) في الحقيقة! وثمة شجرة ريحان تتأرجح، وقطرات من المطر تشبه الدموع.
لا أستطيع أن أروي كل قصة الفيلم (رغم ما رويته!) ما يهمني كان الليلة الأخيرة التي انتهى بها الفيلم, كان صياحاً قد حذرها من دخيل على الكتابة بحكم خبرته النضالية, هذا الدخيل أنيق رغم أنه قزم! يتحدث مع العاملات في الجريدة ب(حنكة) أي رجل لا يهمه سوى جمع النساء حوله ضمن وضع يظنه يدعم موقفه للترقي لدرجة (مدير عام)! باختصار: هو رجل تافه كما يليق بلص!, وجد أنها متعاطفة مع القزم, حدثه بشجاعة عبر هاتفه النقال وقال له أن يترك (ميريللا) بعيداً عن شباكه, قال لها ذلك, فوجىء بأنها تغلق الهاتف, فامتلأ بالمرارة.
قبل لوحة النهاية كان يدير أزرار هاتفها, لاحظ أنها تغلقه عمداً, وفي مشهد مليء بالفن والإبداع: رمى السماعة بعيداً, قام ونظف أسنانه!! وبصق بقية المعجون باتجاه الهاتف, عدة مرات, وفي الخلفية كان صوت زوجته يتردد متشفياً:
قلت لك, إنهن آخر من يوثق بهن.
وتقهقه, وينتهي الفيلم.
إن فيلم (سيدة مثل المدينة أو الوطن ) لم يسقط في فخ الكلام السياسي الذي يميز الفيلم الإيطالي عموماً، بل كان فيلماً إنسانياً طازجاً ولذيذاً وليس من السهل أن ينسى!.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved