Friday 10th December, 1999 G No. 9934جريدة الجزيرة الجمعة 2 ,رمضان 1420 العدد 9934


كتابات الحاج عبدالله فيلبي
المصدر المنسي في كتابة تاريخنا الوطني
د, محمد بن عبدالله آل زلفة*

سعدت كثيرا بدعوة رئيس النادي وزملائه أعضاء مجلس الادارة لي، بإلقاء هذه المحاضرة وهي دعوة كريمة من ناد عريق يمثل احدى منارات الثقافة في عاصمتنا الحبيبة، والتي بها نفخر أن تلقب بعاصمة العرب, يضاف الى هذا الفخر فخر آخر أن تكون عاصمة الثقافة العربية لعام ألفين، والذي سنحتفل بدخوله بعد شهر من الآن (تقريبا).
فكرت كثيرا عن أي موضوع أتحدث لجمهور يمثلون رموز الفكر والثقافة في هذه المدينة المتميزة بكثرة عدد مثقفيها وعلمائها ومبدعيها، وماذا عساني استطيع تقديمه لجمهور هذه مواصفاته؟.
وبعد جهد من التفكير وصلت الى قرار بأن يكون موضوع محاضرتي أو حديثي اليكم في موضوع يجمع بين التاريخ، وقصة مدينة، وسيرة رجل.
فالتاريخ يمثل وعاء هذه المحاضرة، ومركز الحديث مدينة الرياض، والحاج عبدالله فيلبي مصدر وراوي قصة تطور تاريخ هذه المدينة.
أبلغت سعادة رئيس النادي الشيخ عبدالله بن إدريس بأن هذا ما استقر عليه اختياري لهذا الموضوع عنوانا لهذه المحاضرة، وله ان يوافق، وله ان يقترح البحث عن موضوع آخر, فما كان منه إلا أن أقر ما استقر الرأي عليه, ولكي يطمئن قلبه وهو عامر إن شاء الله بالطمأنينة دائما أوضحت له أن هذا الموضوع بأبعاده الثلاثة يجمع بين الحديث عن عاصمة التوحيد في مناسبة احتفالنا بالمئوية لأن الرياض تمثل الركيزة الأولى لهذه الاحتفالية، والحديث عن جوانب من تاريخ الرياض عاصمة الثقافة العربية لعام ألفين، وعن رجل أحب الرياض أكثر مما أحب عاصمة موطنه الأصلي مدينة لندن.
أيها الأخوة
أعرف وربما تعرفون أيضا ان الحديث عن الحاج عبدالله فيلبى في محاضرة عامة، وفي مدينة الرياض ربما تكون هذه المحاضرة هي الأولى اذا استثنينا ما كان شيخنا حمد الجاسر ينوي الحديث عنه في محاضرة في جامعة الملك سعود ابان بداية نشأتها ضمن سلسلة محاضرات عن مؤرخي نجد والسيد فيلبى أحدهم 1 ، وفي محاضرة الدكتور الأمريكي جورج زنتز في ندوة مصادر تاريخ الجزيرة العربية التي عقدت في جامعة الملك سعود عام 1399 تحت عنوان فيلبى مؤرخا للمملكة العربية السعودية 2 وديرك هوبوود (أوراق تتعلق بالجزيرة العربية في أرشيفات مركز دراسات الشرق الأوسط، بكلية سانت أنتوني، أكسفورد) محاضرة القيت في نفس المؤتمر السابق.
أيها الأخوة
لم يحظ السيد فيلبى من قبل مؤرخي هذه البلاد ولا بدراسة واحدة على حد علمي، حتى إبان احتفال بلادنا بعيدها المئوي والمؤتمر التاريخي الدولي المصاحب لهذه المناسبة، والتي قدمت فيها العديد من الأبحاث والدراسات شملت جوانب كثيرة مختلفة، عن تاريخ هذه البلاد خلال مائة عام، إلا أن السيد أو الحاج عبدالله فيلبى الذي يعد شاهد عيان على بناء هذا الكيان منذ بداية مراحله الأولى وليس شاهدا عاديا فما أكثر الشهود ولكنهم عاديون هذا العلم كان غائبا أو مغيبا في هذه المناسبة، فلم يلق عنه بحث ولم يترجم له كتاب ضمن كثير مما ترجم بعضها لا علاقة له بالمناسبة فلقد سجل السيد فيلبى عن تاريخ الدولة السعودية المعاصرة مالم يسجله غيره، ونشر له من الكتب والبحوث والمقالات عن هذه البلاد ما يشكل مكتبة متكاملة دعك عما زال مخطوطا، أو على شكل وثائق ومراسلات وملاحظات تشكل بدورها ارشيفا متكاملا، يضاف اليه أكثر من عشرة آلاف صورة فوتوغرافية تغطي كل أنحاء المملكة على مدى أكثر من أربعين سنة.
وظلت كتب فيلبى التي نشرت على فترات متباعدة يعود اقدمها الى عام 1918م وآخرها طبع عام 1964م بعد وفاته بأربع سنوات في عداد الكتب النادرة التي اصبحت تشكل غنيمة لصائدي وتجار الكتب النادرة، وتشكل في الوقت نفسه المصدر الأول لكل من كتب عن تاريخ بلادنا من المؤرخين عدا المؤرخين السعوديين والكثير من المؤرخين العرب، وخير شاهد على هذا ان مؤرخ المملكة الدكتور عبدالله العثيمين لم يشر ولا اشارة واحدة في هوامش كتابه عن تاريخ الملك عبدالعزيز الى فيلبى، وهو أمر في غاية الغرابة، فهل بامكان أي مؤرخ يؤرخ لفترة الملك عبدالعزيز خاصة دون الرجوع الى كتب فيلبى أو بعضها، عدا أولئك المؤرخين التقليديين الذين لا يعرفون لغة أجنبية فلهم عذرهم.
وأحدث كتاب صدر عن مدينة الرياض بعنوان دراسة تاريخية وجغرافية واجتماعية، منطقة الرياض خلال التاريخ الحديث والمعاصر ، صدر بمناسبة الاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة يقع في 432 ص لم يشر مؤلفوه وهم مجموعة من المؤرخين من جامعة الامام سوى اشارتين فقط الى فيلبى مع أن مؤلفاته تعد أوسع الدراسات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية عن منطقة الرياض, ان الأمر ليدعو حقا الى الاستغراب.
منذ عدة سنوات، وبالتحديد 1414ه صدر عن دار مدبولي في القاهرة ترجمة لأحد كتب فيلبى بعنوان تاريخ نجد ودعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية وهذا العنوان من عند مدبلولي, وأهديت منه نسخة لشيخنا حمد الجاسر، وهو على سابق معرفة بهذه الترجمة منذ طبعتها الأولى في بيروت، وكانت الطبعة الثانية طبعة مدبولي مليئة بالأخطاء مثلها مثل سابقتها طبعة دار العلم للملايين، وهي من ترجمة عمر الديراوي, واشار شيخنا الجاسر الى عدم رضاه عنها ليس فقط لما حملته من اخطاء في اسماء الأشخاص والمواقع وانما في النهج غير الأمين في الترجمة, فأثارت في الشيخ الرغبة في الحديث عن فيلبى، اضافة الى أنه حديث عهد بالاطلاع على ترجمة مبدئية لواحد من كتب فيلبى وهو النجود العربية Arabian Highlands قام بترجمتها نادي أبها للاستئناس برأيه حول الترجمة، او صلاحية الموضوع أو كليهما, وهذه المحاولة على حد علمي هي الأولى التي تقوم بها مؤسسة شبه علمية في بلادنا تأخذ المبادرة بترجمة عمل ضخم من اعمال فيلبى.
إلا ان هذه المحاولة مع أهميتها لم تر النور الى الآن، ولا اعرف السبب وربما أجهضت لسبب أو لآخر ومما يبدو أن كلا من هذين العملين من مؤلفات فيلبى التي اطلع عليها الشيخ الجاسر أخرجته عن صمته وجعلته يدلي برأيه في فيلبى كمؤرخ ومؤلفاته كمصادر لا غنى عنها لكل من أراد ان يكتب عن تاريخ بلادنا اذ قال: انه من أعرق الباحثين الغربيين صلة ببلادنا، ومن أوسعهم اطلاعا، ومعرفة بأحوالها في العهد الأخير، ومن أكثرهم مؤلفات تناول فيها كثيرا عن تلك الأحوال بالبحث والدراسة بعمق وتقص, ولهذا كان كثير من الأخوة يسألونني عن فيلبى وعن مؤلفاته .
وقد قام الشيخ حمد الجاسر بنشر ما كتبه عن فيبلى في ثلاث حلقات في جريدة الحياة, الأولى نشرت بتاريخ 14 شعبان 1417ه تحت عنوان سيرة الانجليزي الذي عرف السعودية، وأقام فيها وكتب عنها ، والثانية نشرت في اليوم الثاني بعنوان أعمال فيبلى مصدر للدارسين معلن وغير معلن وقليلها مترجم الى العربية , أما الحلقة الثالثة والأخيرة فنشرت بتاريخ 17 شعبان 1417ه بعنوان أرض مدين والنجود العربية بعض سوء الفهم , وقد اعتبر البعض حتى من المثقفين ان فيبلى لم يكتشف إلا على ضوء ما كتبه شيخنا الجاسر في هذه الحلقات.
ومما أثير فيما كتبه الشيخ جاسر موضوع مكتبة الحاج عبدالله فيبلى بما تحتويه من كتب نادرة ومن وثائق نادرة ايضا والى أين آل مصيرها؟ أورد الشيخ حمد بأنها نقلت الى الديوان الملكي في الناصرية في عهد الملك سعود يرحمه الله وظلت في بعض داهليزه فترة طويلة وهذا آخر العهد بها 3 .
وتعليقا على هذا كتب الأستاذ محمد رضا نصر الله في جريدة الرياض في العدد 10412 وتاريخ 17/8/1417ه نقلا مما كتبته فيوليت ديكسون التي زارت الرياض، وقامت بزيارة لزوجة فيبلى بعد وفاته بشهور قليلة حول مصير مكتبة فيبلى ما نصه في غضون ذلك (أي أثناء زيارتها لزوجة فيبلى) كان (جورج رنتز) 4 وهومر 5 من شركة (أرامكو) يتباحثان مع عبده العنزي 6 صديق العائلة للمفاوضة على ثمن شراء المكتبة كلها، فتم الاتفاق على عشرة آلاف دولار ثمنا لهذه المكتبة، لقد ملأت الكتب والوثائق ثمانية وثلاثين صندوقا كبيرا، تم شحنها الى مكتبة أرامكو بالظهران 7 .
ما أورده الأستاذ نصر الله نقلا عن السيدة ديكسون هو أقرب الى الحقيقة، إذ تشير كل الدلائل الى أن وصول محتويات مكتبة فيلبى الى كلية سانت أنتوني في اكسفورد تم عن طريق أرامكو، وربما ليس عن طريق أرامكو كشركة وانما بجهود ذاتية من قبل الدكتور رنتز الصديق الشخصي للسيد فيلبى، وربما تنفيذا لوصية كتبها فيلبى قبل وفاته المفاجئة في بيروت عام 1960م, والغريب ان كلية سانت انتوني ومركز دراسات الشرق الأوسط بها، والذي يضم الأوراق الخاصة لمعظم السياسيين البريطانيين الذين عملوا في المنطقة، وخاصة في الجزيرة العربية والمقام بدعم من حكومة دولة الكويت لم يذكر الدكتور ديرك هوبورد وهو المتخصص في دراسات الشرق الأوسط والمشرف على المركز، والذي أعد قوائم ببليوجرافية لمحتوياته عن الكيفية التي وصلت فيها أوراق فيلبى الى ذلك المركز، وما اذا كانت بالشراء، أو تنفيذا لوصية مسبقة أعدها السيد فيليى، أم هي رغبة أسرته أم رغبة صديقه الدكتور رنتز.
أما ما ذكره الشيخ حمد الجاسر من أن أوراق فيبلى نقلت الى الديوان الملكي للأسباب التي أشار اليها وعدم تيقنه من الكيفية التي عادت مرة أخرى الى بيت السيد فيلبى في الرياض، فانها تحتاج الى مزيد من البحث لاجلاء الغموض الذي لن يزيله إلا البحث بين أوراق فيلبى نفسه التي أكد الدكتور ديرك هوبوود بأنها نقلت كلها الى اكسفورد ، وأنه لم تتبق أية أوراق له في المملكة 8 وأوراق فيلبى الخاصة في مركز دراسات الشرق الأوسط حسب ما ورد في محاضرة الدكتور هوبوود في ندوة مصادر الجزيرة العربية تعتبر الأكبر في حجمها والأكثر تميزا في نوعيتها حيث تشمل كل ما كتبه عن المملكة منذ عام 1917م الى حين وفاته وتشكل ارشيفا متكاملا (9) .
اما الذي أريد ان أؤكده وانا مطمئن فهو ان اوراق فيلبي جميعها ما كان منها في جدة والرياض وما احضره معه الى الرياض في رحلته ما قبل الاخيرة الى لندن بعد وفاة زوجته (دورا) من اوراقه الخاصة هناك وتشمل كافة رسائله الى زوجته ورسائل اسرته اليه منذ ان كان طالبا صغيرا في مدرسته بلندن بأنها كانت جميعها بحوزته وفي منزله وهي ما شاهدها الشيخ حمد اثناء زيارته له في عام 1959م قبل سفر فيلبى لحضور مؤتمر المستشرقين في موسكو.
وما يتعلق بتوتر العلاقات بين مستشاري الملك سعود يرحمه الله والسيدفيلبي وتأثيرهم على موقف الملك منه، فانها حدثت قبل هذه السنة بعدة سنوات وبالتحديد في عام 1955م على اثر محاضرة القاها في الظهران اعتقد انها كانت تحمل نقدا للحكومة (10) , وعلى اثرها طلب منه مغادرة المملكة وكان الذي ابلغه بأمر الرحيل السيد جمال الحسيني ورشدي ملحس ولم يعط مهلة لشحن كتبه واوراقه القيمة التي يحتفظ بها في كل من مكة وجدة مما جعله يبرق وهو في بيروت الى السفارة البريطانية في جدة يطلب التدخل لحماية مكتبته ومحتوياتها وذلك حينما رفضت السلطات السعودية خروجها قبل مرورها على لجنة مراقبة شكلت لهذا الغرض, وقد تلقى من السفارة ما يفيد بأنها اصبحت محفوظة في مبنى السفارة في جدة (11) .
في نهاية شهر مايو من عام 1956م عاد فيلبي الى الرياض على اثر مصالحة قام بها السيد حسين العويني بينه وبين جلالة الملك سعود يرحمه الله وعادت المياه الى مجاريها بينه وبين السلطات السعودية.
وفي عام 1958م شحن كل مكتبته الموجودة في بيروت حيث كان خلال سنتي 1957 58 يقوم بالقاء بعض المحاضرات في الجامعة الامريكية والتي احضرها من لندن الى الرياض حيث قرر ان تكون مكان اقامته الدائمة لما تبقى من حياته.
ودخل ولداه خالد وفارس مدرسة الانجال تحت ادارة الشيخ عثمان الصالح وتفرغ للعمل الاكاديمي واعتزل السياسة تماما، وكان يقوم بزيارات منتظمة لسمو الامير عبدالله بن عبدالرحمن يرحمه الله حيث كان يجد متعة في الحديث معه حول مختلف القضايا خصوصا التاريخية والدينية (12) .
وفي عام 1959م اخذ عائلته وأدى معهم فريضة حج ذلك العام وقضى معهم الصيف في مدينة الطائف.
في شهر ابريل 1960 كتب الى صديقه وزميل رحلته الواسعة والاخيرة في الجزيرة العربية فيليب ليبنز رسالة ربما هي الاخيرة التي كتبها في الرياض يخبره بأنه يحتفل بعيد ميلاده الخامس والسبعين وهو يشاهد (البلدوزر) يهدم اجزاء من ملحقات بيته من اجل فتح طريق جديد داخل المدينة وشمل الهدم كل الحوش وغرف الضيوف والكراج وملحق الخدم، ومع ذلك ورغم الغبار الذي غطى كل اجزاء البيت فانني لن ابرحه (13) .
غادر الرياض الى اوروبا في طريقه الى موسكو لحضور مؤتمر المستشرقين الخامس والعشرين، ومن موسكو عاد بعد انتهاء المؤتمر الى لندن ومنها الى (لوفانا) في بلجيكا حيث وضع مع رفاقه في رحلته الشهيرة الى كافة انحاء المملكة عام 1950 1952م وهم العلماء ال ريكمنز وصديقه لوبنز خطة العشرة مجلدات الخاصة بنتائج تلك الرحلة العلمية الرائعة التي جمعوا خلالها 13 الف نقش من اراضي المملكة تشمل نقوش كافة العصور وبانجاز هذا المشروع الحضاري كان فيلبى يأمل ان يتوج به اعماله الخالدة لكتابةتاريخ وآثار هذه البلاد التي منحها ما لم يمنحها اياه احد من قبله ولا من بعده الى الآن.
اما هل خرجت تلك النقوش منشورة كما كان يتمنى فيلبى فهذا علمه عند علماء الاثار في بلادنا وكان فيلبي اثناء الشهور الاخيرة من اقامته في الرياض عاكفا على وضع مجلد عن جغرافية تلك الرحلة التي قطع خلالها مع زملائه آل ريكمنز ولوبنز ثلاثة الاف ميل غطوا فيها كل انحاء المملكة ايضا ذلك الاطلس الجغرافي لا ندري اذا كان قد بعث به الى النشر ام ما زال ضمن اعماله المحفوظة التي تنتظر استفادة الباحثين السعوديين من جغرافيين وآثاريين وتاريخيين اذ انهم مازالوا الاقل حظا في الاطلاع على محتويات ارشيف فيلبي الضخم في كلية سانت انتوني بجامعة أكسفورد.
عاد السيد فيلبي من بلجيكا الى بيروت في طريقه الى الرياض وهناك قابل ابنه كيم فيلبي المشهور حيث مكث معه اياما شعر خلالها بضيق تنفس ونقل الى المستشفى واكتشف انه يشكو من مشكلة في القلب ودخل في غيبوبة ثم صحا قليلا ليقول لمن حوله آخر كلمة نطق بها (خلاص انا زهقت) ثم اسلم روحه لبارئها، وذلك في 30 ديسمبر 1960م.
وصلى عليه في مسجد (باشورة) ودفن في مقبرة المسلمين في منطقة البسطة ووضع ابنه على قبره لوحة حجرية نقش عليها هنا يرقد اعظم المكتشفين لجزيرة العرب (14) .
ما كتبه فيلبي عن الرياض
لم يكتب كاتب عربي او اوروبي او حتى سعودي عن الرياض المدينة مثل ما كتبه السياسي والرحالة والمؤرخ سانت جون فيلبى (عبدالله فيلبي فيما بعد) ولم يكن فيلبي اول أوروبي تسحره الرياض فتغريه بالكتابة عنها بالشكل المكثف الذي نجده مجسدا فيما سنقدمه للقارىء من نصوص مترجمة لما كتبه فيلبى عن الرياض.
وإنما سبقه الى ذلك مواطنه الرحالة وليام بلجريف الذي كان اول اوروبي ترى عيناه الرياض واول اوروبي يجعل الاوربيين يرون الرياض بعيني بلجراف ويرسم صورة ذهنية لهذه المدينة العربية الساحرة رسخت في ذهن كل أوروبي زارها فيما بعد (1) , لقد كانت الفترة الزمنية الفاصلة بين زيارة بلجريف لمدينة الرياض في عام 1862م وزيارة فيلبي لها ولاول مرة عام 1917 تقارب الخمسة والخمسين عاما.
زار الرياض خلال هذه الفترة عدد من الاوربيين اولهم لويس بلي المقيم البريطاني في الخليج وذلك في عام 1865م وتعد زيارته اول زيارة يقوم بها مسؤول بريطاني الى عاصمة مملكة نجد.
وقام بعده مغامر شاب من الدنمارك لم يتجاز عمره حين زيارته لها عام 1912م الحادية والعشرين من عمره ثم السياسي البريطاني ليتشمان في مهمة استخبارية والتقط لها صورا ربما تكون الاقدم عام 1912م وقدم وصفا للعاصمة لكنه يظل مقتضبا ثم زارها بعد ذلك الكابتن وليم شكسبير، وهو اول سياسي بريطاني يزور الرياض بعد عودة الملك عبدالعزيز اليها، وذلك في شهر مارس عام 1914م.
ثم زارها سياسي بريطاني آخر يدعي هاملتون في عام 1917م قبل شهور قليلة من زيارة فيلبي لها من العام نفسه.
بيد ان ايا من هؤلاء الزوار الاجانب بين بلجريف وفيلبى لم يكتبوا عن الرياض الا اشارات وملاحظات بعضها يكاد يكون عابرا فالسياسيون البريطانيون قبل فيلبى لم تكن رغبة الاكتشاف من اولويات اهتمامهم ولذا فلم يولوا هذا الجانب اهتماما يذكر.
ام المغامر الدنماركي الشاب، فلم يمكث في الرياض أكثر من ثمان واربعين ساعة، وكانت قصته الى المأساوية اكثر من قدرة شاب في مثل سنه على التحمل، مع انه كان يأمل ان يكون في مصاف الرواد الاوائل المكتشفين لجزيرة العرب وفي مقدمتهم الرحالة الشهير كارستن نيبور الذي زار الجزيرة العربية في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي بتكليف من ملك الدنمارك, لعل باركلي رونكيير الذي كان متأثرا برحلة كاريستن نيبور قد حاول ان يكون اول دنماركي بل اوروبي يكتشف المناطق الكائنة الى الجنوب من مدينة الرياض، لكن حملة لم يتحقق لظروف منها ما تعلق بصحته التي اخذت في التدهور منذ بداية الرحلة التي اجبرته على العودة الى ساحل الخليج العربي عن طريق الاحساء، بعد ان زوده الامام عبدالرحمن ال فيصل والد الملك عبدالعزيز براحلة، وكلف بعض رجال قافلة كانت في طريقها من الرياض الى الاحساء بتقديم كل عون وحماية له (1) .
كان هذا الشاب متشوقا الى مقابلة الملك عبدالعزيز الذي كانت اخباره تملأ الجزيرة العربية وانتصاراته على خصومه حديث كل الناس، لكن ذلك الحلم لم يتحقق اذ كان الملك عبدالعزيز غائبا عن عاصمة بلاده، للقضاء على بعض خصومه (2) , اثناء وصول هذا الرحالة اليها.
اما فيلبي الذي زار الرياض لاول مرة في مهمة سياسية، وذلك في يوم 30 نوفمبر 1917م ومكث بها سبعين يوما (3) وهي اطول مدة يمكثها سياسي بريطاني واطول مدة يمكثها اجنبي اوروبي في الرياض على وجه العموم، فما اعتقد انه كان يدور في خلده ان تنشأ بينه وبين هذه العاصمة هذه العلاقة التي امتدت طوال ثلاثة واربعين عاما, لم يكن شغف فيلبي بالرياض اكثر من التأثير السحري الذي تركه في نفسه صاحب الرياض الملك عبدالعزيز، وظل ذلك التأثير متوهجا في نفسه منذ ان عرف الملك عبدالعزيز لاول مرة، وظل الى حين وفاة الملك عبدالعزيز في عام 1953م انعكس اعجاب فيلبي غير المحدود بشخصية الملك عبدالعزيز على مستقبل حياته السياسي، فضحى بمستقبله بوصفه واحدا من اذكى الساسة البريطانيين وامهرهم في المنطقة على الاطلاق، وذلك في سبيل اخلاصه واعجابه وحبه للملك عبدالعزيز، وبالتالي انعكست على توظيف قدراته الابداعية في الكتابة وجسارته في تجشم المشاق وتحمل الصعاب في رحلات استكشافية شملت كل نقطة من ارجاء البلاد التي بسط عليها الملك عبدالعزيز سلطته، خلف على اثرها فيلبى مكتبة متكاملة عن الجزيرة العربية في التاريخ والجغرافيا والآثار والجيولوجيا وعلم النبات والحيوان والادارة والاقتصاد والسياسة.
اصبحت هذه المؤلفات المعين لكل باحث في اي حقل من حقول المعرفة المتعلقة بالجزيرة العربية ان الحديث عن اعمال فيلبى يطول ويطول فمنها ما هو مطبوع ومنها مازال مخطوطا ومنها ما هو معلوم ومنها ما غيبه الاهمال او أيادي العبث، ولكن ما ترجم منها الى اللغة العربية يعد قليلا جدا, والتقصير في ترجمة اعماله الى اللغة العربية حرم كثيرا من الباحثين العرب الذين يجدون صعوبة في معرفة اللغة او صعوبة في الحصول على كتبه التي طبعت في اوقات مبكرة من هذا القرن، واصبحت في عداد الكتب النادرة، او اوراقه التي ذهب معظمها الى بعض المراكز البحثية في الجامعات البريطانية والامريكية من تنمية معرفتهم بدقائق الاوضاع في الجزيرة العربية، كما كتبها فيلبى الذي لا يضاهيه فيما كتب من حيث الكم والشمولية اي كاتب آخر.
ولذا سأقتصر في حديثي هذا المساء على ما كتبه عبدالله فيلبى عن مدينة الرياض عاصمة الدولة السعودية، او ملكة الصحراء كما يسميها فيلبي ومع انه لا يكاد يخلو كتاب او مقالة مما ألفه او كتبه فيلبي الا وللرياض فيه ذكر لكنه خص هذه المدينة التي احبها بوصف خاص في كتابين من كتبه، وبمقالة مستقلة وجاءت على فترات تاريخية مختلفة كأنه بذلك قد عمد إلى رصد تطور المدينة التاريخي والعمراني والحضاري حسب التطور السياسي والاقتصادي للبلاد التي هي عاصمتها وانعكاسات هذه التطورات الاخيرة على تطور المدينة العاصمة.
اما هذه المقالات الثلاث والتي تغطي فترات تاريخية مهمة من تطور تاريخ البلاد والعاصمة فانها تأتي كما يلي:
المقالة الاولىوهي بعنوان (عاصمة الوهابيين Wahhabi Capital نشرت ضمن كتابه المعنون قلب جزيرة العرب The Heart of Arabia والمنشور في لندن عام 1922م وهو من اوائل ما كتبه عن الجزيرة العربية وهي اول مقالة يكتبها فيلبى عن مدينة الرياض خلال زيارته الاولى لها في شهر نوفمبر 1917م وقد مكنه الوقت الكافي من اقامته في المدينة الذي استمر لمدة سبعين يوما من ان يقوم بمسح شامل للمدينة شمل مساحتها واسوارها ومبانيها ومساجدها وبساتينها وطرقاتها، وهي دراسة وصفية امتازت بالدقة اذ استخدم الآلات الحديثة في القياسات وقياسات الاتجاهات مثل البوصلة وغيرها، مع انه لم يستغن عن استخدام الوسائل التقليدية لقياس المسافات احيانا مثل الخطوات والباع وغير ذلك.
اضافة الى ذلك قام فيلبى بوضع خرائط جديدة لمدينة الرياض، وهي احدث خرائط لها منذ اقدم خريطة وضعت لها من قبل الرحالة بلجريف الذي يعد اول من وضع خارطة لمدينة الرياض وخارطة لقصر الحكم فيها مع توضيح بعض التفاصيل الدقيقة للمدينة وللقصر والمسجد الجامع الذي كان اول من قدم وصفا متكاملا له من حيث البناء وسعة استيعابه للمصلين.
وفيلبى بعمله المتميز هذا عن مدينة الرياض لم يكن رائدا اذ تظل الريادة لوليام بلجريف وربما هذا مما جعل فيلبى يقوم بشن هجومه على بلجريف والتشكيك في رحلته الى عاصمة نجد وقد ظل على هذا الموقف مع ما يشوب كتابات فيلبي نفسه من تناقض حول بلجريف واستمر على موقفه ذلك لآخر مقالة كتبها عن الرياض، وهي المقالة الاخيرة والتي سنأتي الى ذكرها في هذه المحاضرة.
لكن فيلبي بقي وحده المشكك في رحلة بلجريف إذ أثبتت الدراسات عدم صحة تطرف آراء فيلبي المشككة في حقيقة وصول بلجريف الى مدينة الرياض في عهد الامام فيصل بن تركي, وسبق ان اشرت إلى ان تشكيك فيلبي هذا ربما كان بدافع الغيرة، ولرغبته في ان يكون صاحب الريادة في اول دراسة مفصلة عن عاصمة نجد.
وأيا كان الامر فإن فيلبي يعد رائد الكتابات المفصلة عن مدينة الرياض والمتابع بشكل دقيق ومفصل مراحل تطورها ونموها منذ السنوات الاولى لعهد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه الذي اعاد للرياض مجدها وعزها، وإلى السنوات الاخيرة من عهد الملك سعود رحمه الله الذي شهدت الرياض في عهده دخولها عالم العصر الحديث.
أما المقالة الثانية لفيلبي عن مدينة الرياض فهي بعنوان الرياض ملكة الصحراء The Queen of the Desert Riyadh نشرت ضمن كتاب فيلبي المعنون "حاج في بلاد العرب" apilgrim in Arbia طبع في لندن الطبعة الثانية عام 1946م.
كتبت هذه المقالة او الدراسة المطولة في عام 1931م, ولم يقتصر الحديث فيها على مدينة الرياض بل افرد به فصولا لكل من مدينة مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف تعد هذه الفصول من اوسع ما كتب عن هذه المدن في النصف الاول من القرن العشرين، وكان ما كتبه عن مدينة الرياض الذي افرد له فصلا مطولا في هذا الكتاب حديثا شاملا عن تطور مجريات الاحداث في المملكة، وعن شخصية الملك وعن الاوضاع الاقتصادية الصعبة التي مرت بها البلاد خلال تلك الفترة وانعكاساتها على ما سواها من الاحداث, وتحدث عن الحكومة وجهازها الاداري، وعدم رضا الملك عن اداء ذلك الجهاز في ظل التطورات السياسية المحلية والعربية والدولية التي اصبحت المملكة ممثلة في شخص قائدها جزءا فاعلا في التفاعل مع تلك التطورات المتسارعة، في الوقت الذي ظل الجهاز الاداري وبقيادته التنفيذية على وضعه التقليدي في تسيير الامور، وعدم التفاعل مع المستجدات بما يتناسب مع ظروف المرحلة، وترك كل الامور على كاهل الملك في اتخاذ كل القرارات تجاه كل القضايا، ولم يكن ذلك الجهاز يملك القدرة في ابداء الرأي والمشورة بالشكل الذي يخفف عن كاهل الملك كثيرا من همومه المرتبطة بهموم امته ووطنه, وقد قدم فيلبي لاولئك المحيطين بالملك صورة حية تعكس طبيعة كل من اولئك المستشارين وسلوكهم.
قدم فيلبي وصفا كاملا لحياة الملك الخاصة في عاصمة ملكه، وجدولا يوميا دقيقا لعمل الملك منذ ساعات الفجر الاولى، وإلى حين ذهابه للنوم, وهذه الجزئية من حياة الملك عبدالعزيز التي قدمها فيلبى تعد من اندر ما كتب عن هذا الجانب في حياة الملك رحمه الله.
كما قدم وصفا شيقا لحياة القصر، والحياة الاسرية للملك عبدالعزيز اضافة إلى ما قدمه عن المدينة وضواحيها وبساتينها ومساجدها وقصورها ومقابرها، وحياة الناس الخاصة والعامة فيها.
أما المقالة الثالثة والاخيرة التي كتبها عبدالله فيلبى عن مدينة الرياض فهي مقالة شيقة نشرها في مجلة الشرق الاوسط المجلد الثالث عشر ربيع 1959م بعنوان (الرياض بين الحاضر والماضي).
وهي آخر مقالة او دراسة كتبها فيلبى عن هذه المدينة التي احبها، وقضى بها سنوات طويلة من حياته، شهدها وهي تخرج من اسوارها، وتتوسع في مساحتها، وتدخل اليها الوسائل العصرية، وتتبنى انماطا معمارية مختلفة غير ما ألفتها على مدى تاريخها, ويزحف البناء على حساب المزارع والبساتين لمواجهة النمو المتزايد في عدد سكانها، وتشهد تطوراً عمرانيا حديثا لاستيعاب المباني الحكومية الضخمة، وذلك بعد ان تطورت الادارة، وتحولت من ادارات تقليدية في شكلها وفي ادائها قبل استحداث مجلس الوزراء وتشكيل الوزارات الحديثة، ،نقلها الى العاصمة الرياض، ورغبة القيادة السياسية في ان تكون الرياض عاصمة عصرية بها كل مقومات المدينة الحديثة, ساعد على قيام كل هذا عوامل عدة: اولها عقلية الملك عبدالعزيز المتفتحة المتمثلة في رغبته ان يخرج عاصمة بلاده من العزلة التي عاشتها عقودا طويلة، ففي عهده تم ربطها بما حولها من المدن والعواصم بوسائل الاتصالات الحديثة مثل الهاتف ثم بناء مطار في عاصمة الصحراء لاول مرة، ثم توج انفتاحها على الخليج العربي بواسطة سكة حديد هل الاولى والوحيدة في المملكة بفضل عقلية هذه الشخصية الفذة الذي سبق زمانه في قوة التحدي والتغلب على الصعاب والطموح الذي لا حدود له، وهي صفات لا يملكها الا القادة المؤسسون الكبار، وعبدالعزيز هو طراز من (نسيج وحده) وضع الاسس وأنار بنور عقليته المتفتحة الطريق لمن خلفه من اولاده.
أما العامل الثاني فهو تدفق عوائد البترول في السنوات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية ومساهمتها في بناء العاصمة وتحديثها.
أما العامل الثالث فهو رغبة القيادة السعودية الجديدة بزعامة الملك سعود الذي كان لأسفاره الى كثير من بلدان العالم التأثير الكبير على تطلعاته بأن يرى عاصمة بلاده وقد بلغت مصاف العواصم الحديثة، فقاد مسيرة التطوير بشكل مذهل وتغيرت خارطة المدينة الحضارية وانتقل سكانها من حياة الجماعة Community إلى حياة المجتمع Society ، واصبحت عاصمة تستقطب فئات سكانية مختلفة تنتمي الى خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة ايضا، وأصبحت عاصمة بكل مواصفات المدينة العصرية، فأسست بها مدينة طبية كبيرة هي مجمع مستشفى الشميسي ليحل محل المستوصف الوحيد القديم, وخرجت من إطار التعليم التقليدي الى عصر التعليم الجامعي إذ أسست بها جامعة الملك سعود عام 1377ه/ 1957م أول جامعة في المملكة وكلية الملك عبدالعزيز الحربية فأصبحت مدينة استقطاب يؤمها كل طالب علم او رزق او طالب استشفاء, وتوسع اطار نطاقها العمراني بشكل لا يضاهيه إلا ما شهدته مع بداية منتصف السبعينيات الميلادية.
ولكن رغم كل ما شهدته المدينة من توسع في العمران ومن تطور في البناء الحضاري وتنوع وتغير في النسيج الاجتماعي، فقد ظلت محافظة على الثوابت التي قامت عليها متمسكة بالقيم الاجتماعية المتوارثة والاخلاق العربية والاسلامية المتأصلة في نفوس سكانها.
إن هذه المقالات الثلاث التي كتبها عبدالله فيلبي عن مدينة الرياض وفي فترات ثلاث مختلفة من تاريخ هذه المدينة، قبل عصر انفتاحها الكبير الذي شهدته في منتصف السبعينيات الميلادية من هذا القرن تعد من اوفى ما كتب عنها، ولهذا فقد تم اختيارها من بين العديد من المشاهدات والملاحظات التي كتبها عدد من الرحالة والزوار الاجانب, ويأتي في الاهمية من بين هؤلاء المعاصرين لعبدالله فيلبي الرحالة والكاتب العربي الكبير امين الريحاني الذي خص مدينة الرياض بفصلين ممتعين ضمنهما كتابه عن تاريخ نجد الحديث وباني الدولة السعودية الحديثة في طبعته الانجليزية الاولى عام 1928م, ولما يمثله هذان الفصلان من الاهمية في تاريخ الرياض فقد قمت بترجمتهما وسيريان النور قريباً بإذن الله.
عن عبدالله فيلبي (1) :
نظراً لما احتله السيد فيلبي من معرفة واسعة من قبل كل الدارسين الذين اهتموا بدراسات الجزيرة العربية الحديثة، والمملكة العربية السعودية منها بشكل خاص منذ قيامها على يد معيد بنائها ومؤسس كيانها الحديث الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه فما كنت سأعرف بفيلبى وهو الشخصية المعروفة ولكن ضرورات الحال تقضي ان آتي ولو بشكل موجز عن حياة هذا الرحالة والسياسي والاديب والمكتشف والمستعرب.
ولد فيلبي في سيلان (سيرلانكا حاليا) عام 1885م، واسمه الكامل هاري سانت فيلبي جون بريدجر فيلبي, وينتمي إلى اسرة انجليزية مشهورة برز منها عدد من القيادات التي ساهمت بصورة او بأخرى في تقوية التاج البريطاني ونفوذه, وبرز منهم في الوقت نفسه عدد ممن يملكون رأيا مستقلا بلغ في ارتفاع صوته درجة التضاد مع مصلحة التاج البريطاني، مثل موقف احد اجداده لأمه الذي وقف مناديا بحق امريكا الشمالية في التحرر من هيمنة التاج البريطاني، ونرى هذه المواقف تنسحب بالوراثة على مواقف فيلبي من سياسة بلاده تجاه العرب في اعقاب الحرب العالمية الاولى.
عاد فيلبي مع والدته الى انجلترا، حيث دخل مدرسة وستمنستر الخاصة بأبناء علية القوم, في هذه المدرسة وفي هذا السن المبكر لفيلبي بدت عليه علامات النبوغ والتفوق والاعتزاز بالشخصية والقدرة الجدلية والتفرد بالرأي.
في عام 1904م التحق بكلية ترينتي Trinity بجامعة كمبريدج الشهيرة، حيث اصبح واحدا من ابرز طلابها وأكثرهم شهرة في الاعلان عن آرائه الليبرالية وتفوقه في التحصيل الاكاديمي، وقدرته الفائقة في تعلم اللغات الاوروبية والآسيوية مما جعله مؤهلا لان يحتل مكانا قياديا في خدمة التاج، وفي حكومة الهند البريطانية حيث تعلم في الجامعة نفسها ولمدة سنة كاملة اللغتين الفارسية والهندية لكي يكون مؤهلا للقيام بوظيفته على اتم وجه.
عمل في الهند مدة سبع سنوات اتقن خلالها اللغة البنجابية والاوردية وتعلم القرآن الكريم واللغة العربية بوصفها ضرورة من ضرورات عمله ورغبته في فهم حياة المجتمع الذي يعمل فيه, مكنته هذه الخبرة وما اكتسبه من ثقافة وما امتاز به من تفان واتقان في مجال كل الاعمال التي أوكلت اليه من ان يؤدي دوراً مهمافي مطلع الحرب العالمية الاولى، ولكن ليس على الساحة الهندية، بل في منطقة الخليج الذي هو امتداد للنفوذ الاداري لحكومة الهند, وذلك اثناء المواجهات الحاسمة بين بريطانيا والدولة العثمانية في منطقة الخليج والعراق إبان اندلاع الحرب العالمية الاولى حيث ادى فيلبي دورا حاسما خلال هذه الفترة اهله لهذا الدور معرفته باللغات العربية والفارسية ومهاراته الادارية وحدة ذكائه في التعامل مع المواقف وسعة ثقافته بأحوال المنطقة وتاريخها.
وصل إلى البصرة في شهر نوفمبر 1915م, وتولى عددا من المهام السياسية والادارية تحت قيادة بيرسي كوكس حتى وصل في منتصف عام 1917م إلى منصب مساعد شخصي لبرسي كوكس الذي اصبح حاكما لبغداد.
في شهر اكتوبر من عام 1917م كلف بأول مهمة من قبل حكومة بغداد البريطانية إلى الملك عبدالعزيز، ومن هنا بدأت العلاقة الوثيقة بين فيلبي وعبدالعزيز.
عاد فيلبي الى بغداد بعد أداء مهمته, حيث اعلن هناك موقفه الرافض للسياسة البريطانية الرامية الى احتلال العراق، وإقامة حكومة بريطانية بها عكس ما كانت قد وعدت به الشعب العراقي، وكان هذا الموقف سببا كافيا لان يترك بغداد ذاهبا إلى لندن تعبيرا عن موقفه الرافض لهذه السياسة.
في لندن اشرك السيد كيرزون وزير الخارجية البريطانية بالنيابة السيد فيلبي في لجنة لمناقشة تطورات الاوضاع في الجزيرة العربية وذلك في الوقت الذي بلغت فيه حالة التوتر مداها بين الملك عبدالعزيز والشريف الحسين حول واحتي تربة والخرمة عام 1918م وكان تطور هذه الاحداث مما يشغل بال الساسة البريطانيين في لندن المائلين بعواطفهم الى الشريف حسين، فسأل كيرزون فيلبى رأيه حيال هذه التطورات فكان جوابه، وهو الخبير بحقيقة الاوضاع والواضح والصريح في رأيه، بأنه في امكان ابن سعود ان يدخل مكة متى أراد, فنظر إلى رأي فيلبى بشيء من الاستهجان، بل السخرية، ولم يمض اكثر من شهرين حتى وقعت معركة تربة المشهورة وهزمت فيها قوات الحسين هزيمة ما حقه.
وما ان وصلت اخبارها الى لندن حتى سارع كيرزون إلى استدعاء فيلبي وكلفه بمهمة عاجلة إلى الجزيرة العربية في محاولة اقناع الملك عبدالعزيز واتباعه بعدم الاستيلاء على الحجاز, ولأهمية المهمة ارسل بالطائرة من لندن الى القاهرة, لكن الملك عبدالعزيز كان بدوره يملك من الحكمة والرؤية ما جعله يمنع اتباعه من الاقدام على مثل هذه الخطوة في هذا الظرف بالذات بعد ان اصبحت الرسالة من معركة تربة واضحة لكل الاطراف ذات الاهتمام.
عاد فيلبي أدراجه من القاهرة الى لندن حيث صادف في عام 1919م زيارة الامير فيصل بن عبدالعزيز لاول مرة وعين فيلبي مرافقا له اثناء تلك الزيارة.
في عام 1920م تأزم الموقف في العراق، واصبحت البلاد مقبلة على ثورة، فارسلت الحكومة البريطانية بيرسي كوكس ليحل محل ارنولد ولسون الذي تأزمت الظروف تحت ادارته، واختار كوكس فيلبي للذهاب معه للعراق، وتم تشكيل مجلس وزراء من العراقيين، وعين فيلبي مستشارا للسيد طالب النقيب الذي عين وزيرا للداخلية، ثم ما لبثت بريطانيا ان قررت تعيين فيصل بن الحسين ملكا على العراق.
أبدى فيلبي موقفا رافضا لتعيين فيصل ملكا للعراق بل نادى باجراء انتخابات حرة، واقامة نظام جمهوري في العراق، فأدى موقفه الليبرالي هذا الى ابعاده من العراق.
في عام 1921م عُين فيلبي مندوبا او ممثلا لبريطانيا لدى امير شرق الاردن الامير عبدالله الذي اسس بمساعدة بريطانيا امارة شرق الاردن, لكنه سرعان ما دخل فيلبي في خلاف مع السير هربورت صموئيل المندوب السامي البريطاني في فلسطين المعروف بتحيزه الكامل للصهيونية حول تنفيذ سياسته المنحازة ضد المصالح العربية, ادت هذه الخلافات الى استقالة فيلبي من عمله السياسي، وعاد إلى لندن، حيث اخذ يكتب المقالات ويلقي بالتصريحات يفضح فيها سياسة بلاده المنحازة ضد العرب، فذاعت شهرته وارتفع عدد خصومه في صفوف الساسة البريطانيين المعروفين بمواقفهم المنحازة ضد العرب والمتميزة لصالح اليهود.
في عام 1924 قدم الى جدة وذلك اثناء حصارها من قبل قوات الملك عبدالعزيز، وحاول ان يقوم بدور الوسيط بين اطراف النزاع، ولكن الامر حسم في النهاية لصالح الملك عبدالعزيز.
ومنذ ان اكمل الملك عبدالعزيز توحيد بلاده اختار فيلبي هذه البلاد له موطنا وفي عام 1930م أعلن اسلامه وظل في هذه البلاد بقية سنوات حياته يعمل في التجارة تارة وفي رحلات الاستكشاف تارات، وفي خدمة الملك عبدالعزيز احيانا، وظل كذلك محبا مخلصا لهذه البلاد الى ان وافاه الاجل المحتوم وهو في لبنان في اليوم الثلاثين من سبتمبر عام 1960م عن عمر يناهز الخامسة والسبعين، ودفن في مقبرة المسلمين هناك.
ألف عن هذه البلاد ما لم يؤلفه غيره، وله أسرة وأبناء مازالوا يقيمون في هذه البلاد ومن رعاياها.
بعد كل هذا لابد من القول ان فيلبي مثله مثل غيره من البشر يخطئ ويصيب ويسوق من الاراء ما يعبر فيها عن وجهة نظره ومنها مالانتفق معه فيها ولكنها تظل وجهات نظر من حقنا ان نختلف معه فيها ولكن ليس من حقنا ان نصادرها، لكونها لا تتفق مع وجهات نظرنا.
ثم إن فيلبي مهما كان صادقا ومحبا ومخلصا لهذه البلاد ولمؤسسها، فإنه وبحكم انتمائه الى ثقافة مختلفة تربى ونشأ عليها، فإنه ومن هذه المنطلقات قد يظهر في لغته الوضوح، وفي رأيه الصراحة، وفي نقده الموضوعية, وهي صفات لم يتعود عليها كثير من الكتاب العرب ان لم يكن اغلبهم الذين تغلب على كتاباتهم العاطفة البالغة في التطرف إما حبا ومدحا يصل بصاحبه الى السموات أو كرها يجرده من كل ميزة ولا شيء بينهما وفي مثل هذه الاجواء تضيع الموضوعية وتفتقد, ولهذا فإننا نلمس فيما كتبه فيلبى عن الرياض وما تطرق له من مواضيع اخرى لغة مختلفة وطرحا مختلفا كان يضيق ببعض طروحاته اولئك الذين لم يتعودوا على سماع لغة غير لغة انفسهم.
ولكن كان يكفي فيلبي فخراً أن الملك عبدالعزيز كان اكثر الناس فهما وتقديرا وقبولا لآرائه بما فيها من وضوح وصراحة، وكان الملك عبدالعزيز اكثر القوم جدلا ومناقشة لفيلبي ولآرائه وكثيرا ما تراجع فيلبي عن بعض مواقفه امام قوة الحجة والمنطق والفهم والادراك للقضايا التي كان يناقشها مع الملك عبدالعزيز.
ولم يكن الملك عبدالعزيز يتضايق من آراء فيلبي وطروحاته التي لا يتردد في طرحها بصراحة، بينما كان القوم يتميزون غيظا من جرأة فيلبي في حواراته ومناقشته مع جلالة الملك, ومواقف هؤلاء لا تعكس اطلاقا ما امتاز به الملك عبدالعزيز من ترحيب بكل رأي بناء يطرحه صاحب رأي وعلم ومعرفة، صادقا خاليا من الهوى.
ومما لا شك فيه ان الله قد هيأ للملك عبدالعزيز يرحمه الله الكثير والكثير من الرجال من ابناء هذه البلاد الذين صدقوه وصدقوه واخلصوا له وتفانوا في خدمته متناسين ذواتهم مضحين بكل غال ونفيس في سبيل قائد اعطى كل حياته لأمته وشعبه.
وإنني لعلى ثقة بأن ما تقدمه هذه الدراسة عن مدينة الرياض في ضوء ما كتبه الحاج عبدالله فيلبي ستضيف الى معرفتنا معرفة جوانب من تاريخ هذه المدينة وتاريخ فترة التأسيس ما نحن جميعا في امس الحاجة إلى معرفته، لكي نعرف كيف كان الذين من قبلنا وكيف كانت ظروف حياتهم، وكيف اصبحنا وكيف اصبحت ظروف حياتنا المعاصرة وان في التاريخ لعظة.
* محاضرة القيت في نادي الرياض الأدبي.
1 حمد الجاسر، رحلة غربيون في بلادنا، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض 1417ه، ص277.
2 نشرت هذه المحاضرة ضمن كتاب الندوة، وقام بترجمتها الدكتور حسين بن محمد الغامدي ونشرها في مجلة الدرعية العدد الثاني السنة الأولى 1419/1998م.
3 حمد الجاسر، رحالة غربيون في بلادنا ص282.
4 مؤرخ أمريكي ومستشرق مشهور.
5 من مساعدي رنتز.
6 وكيل فيلبى لقضاء أموره والمتعلقة باستلام مصاريفه وغيرها.
7 حمد الجاسر، المصدر السابق.
8 المصدر السابق.
9 Derek Hopwood, Papers riatinj to Arabia In the Archives of Middie East.
10 cantre, Sr Antony,s College, Oxfovd. Riyadh University press 1399\1979. P. 145
11 Elizabeth Monroc, Philby of Arabia, Faber and Faber, London, P. 285.
12 Ibid. 293.
13 Ibid. 293
14 Ibid. 295
(1) لمعرفة تفاصيل ما ذكره بلجريف عن الرياض انظر الرياض في عهد الامام فيصل بن تركي كما وصفها الرحالة بلجريف في عام 1863م ترجمة وتقديم الدكتور محمد بن عبدالله ال زلفة، مجلة التوباد، المجلد الاول، العدد الرابع شوال 1408ه يونيو 1988م.
(1) انظر تفاصيل رحلة هذا الشاب الدنمركي باركلي رونكير التي نقلها الى اللغة العربية منصور محمد الخريجي تحت عنوان (عبر الجزيرة العربية على ظهر جمل) مكتبة العبيكان 1419/1999م.
(2) المصدر السابق ص 173.
(3) عن تفاصيل مهمته انظر تقريره عن تلك المهمة بعنوان بعثة الى نجد 1336 1337/ 1917 1918م ترجمة الدكتور عبدالله العثيمين، مكتبة العبيكان، 1418/1997م.
(1) ولمعرفة المزيد عن حياة فيلبي انظر اليزابيث مونرو Elizabeth Monroe في كتابها Phliby Arabia المطبوع في لندن عام 1973م الذي يعد ادق وأوسع ما كتب عن حياة فيلبي بشكل علمي وأكاديمي رصين.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات

الاولــى

محليــات

مقـالات

الثقافية

الاقتصادية

أفاق اسلامية

محاضرة

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

شرفات

العالم اليوم

تراث الجزيرة

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved