Friday 31th December, 1999 G No. 9955جريدة الجزيرةالجمعة 23 ,رمضان 1420 العدد 9955


من المكتبة
الأخلاق وصلتها بالأدب ونقده

هناك معركة عنيفة حول العلاقة بين الأدب والأخلاق، وهل من الواجب أن يكون الأدب في خدمة الأخلاق أم أنه يستطيع التحرر منها باعتباره فنا جميلا، وإذا كان من الواجب أن يكون في خدمة الأخلاق، فعلى أي نحو يكون ذلك، هل يكون عن طريق الدعاية إلى مبادئ الأخلاق، أم يكون عن طريق علاج النفوس وتطهيرها من الشرور المختلفة بطريق غير إرادي ولا مقصود إليه؟ ويزيد هذه المعركة حدة أن الأدب كغيره من الفنون يستطيع أن يحيل قبح الواقع جمالا, فنحن مثلا لا نحب أن نقف أمام مريض يأكله البرص إذا لاقيناه بعرض الطريق، ولكننا قد نتأمل طويلا لوحة زيتية في متحف من المتاحف لمثل هذا المريض، وهكذا اختفى من الآداب الحديثة الرأي الذي كان يذهب إليه الإغريق القدماء من ان الجمال وحده هو مادة الفن، وأصبح القبح ذاته شيئا يعمل فيه الكاتب قلمه، والمصور ريشته، والنحات أزميله.
ثم إنه إذا كانت الدعوة إلى مبادئ الأخلاق عن طريق الأدب سواء في ذلك القصة والمسرحية والقصيدة الشعرية غير مضمون النتيجة، باعتبار ان الناس عادة لايستفيدون من تجارب الغير، ولابد لكل فرد من أن يقوم بتجاربه الخاصة، وأن يدفع ثمن هذه التجارب مهما كان مرتفعا، فإن النظرية التي تقول بأن علاج النفس خير من أخذها بالوعظ لاتزال تكتسب من يوم إلى يوم أنصارا جددا، وذلك لأنه ليس من شك أن الكاتب الجيد الذي يستطيع أن يهز القارئ بما يقص من حوادث، لابد أن يخلف في النفس أثرا لا إراديا، وربما كان هذأ الأثر هو الشيء الذي يبقى، هذا، وليس معنى امساك الكاتب عن الوعظ أنه لا يطوي في نفسه حكما على ما يقص من أحداث، وذلك لأن هذا الحكم يكاد يكون أمراً لازماً لا يستطيع أن يفلت منه كاتب من الكتاب، مادام إنسان لا آلة راصدة, وربما كان من الخير أن يكتفي الكاتب بهذا الحكم الكامن الذي يطلع القراء من ثنايا ما يكتب، ولو لم يقصد إلى ذلك.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهر في فرنسا مذهب عرف بمذهب الفن للفن وشاع اسم هذا المذهب في فرنسا وغير فرنسا، وجرد من ملابساته التاريخية حتى انصرف إلى معان لم يقصد اليها من قالوا به في أول الأمر، فمن الناس من يظن أن معنى الفن للفن هو الخروج على قواعد الأخلاق، والضرب على غير هدى فيما يسمونه بالأدب المكشوف، وهذا فهم خاطئ، ومن الواجب أن نفهم مدلول هذا المذهب فهما تاريخيا حتى نتبين حدوده والحكمة التي دعته إليه.
الفن للفن كما فهمه الفرنسيون في أواخر القرن التاسع عشر وعلى رأسهم تيوفيل جوتييه لم يظهر إلا كرد فعل للمذهب الرومانتيكي , ذلك المذهب الذي اتخذ من الأدب وسيلة للتعبير عن المشاعر الشخصية قبل كل شيء, واسرف في هذا الاتجاه حتى اصبح في كثير من الأحيان صرخات عاطفية أو أنات شعورية، ولم يعد يحفل بغير الترجمة عن العاطفة الشخصية، وكان في هذا نزول بالأدب إلى مستوى الوسيلة.
ثار على هذا الاتجاه أدباء رأوا أن من حق الأدب أن يصبح غاية في ذاته وفنا للفن, لا مجرد وسيلة للتعبير عن المشاعر الخاصة، وعندهم أن الأدب يستطيع أن يصل إلى ذلك بفضل صيغه الخاصة، نعني صوره وأخيلته وموسيقاه.
ولكي ينأوا به عن الإسفاف العاطفي أخذوا يتجهون نحو الوصف بنوع خاص، ففي الوصف لا تتدفق العواطف الخاصة ولا تسفر عن وجهها، وإذا لم يكن بد من أن نسلم بوجود تلوين عاطفي للوصف ذاته، فإن هذا التلوين من الممكن أن يقتصر على الإحساس الفني الذي يمازج الوصف، ونعني بالاحساس الفني الإحساس بالجمال.
وعلى هذا النحو يبدو أن مذهب الفن للفن لا علاقة له بالمسألة الأخلاقية وارتباطها بالأدب، فالقول بأن الفن غاية في ذاته لا محل للحكم عليه حكما أخلاقيا، بأن يقال إن هذا المذهب مع الأخلاق أو ضد الأخلاق, من البديهي إن هناك أشياء كثيرة تفلت من أحكام الأخلاق ولا تخضع لها على الإطلاق، وكما أننا لا نستطيع ان نحكم حكما أخلاقيا على الحقائق الرياضية مثل 5+5=10، فكذلك مذهب الفن للفن لا محل للحكم عليه حكما أخلاقيا بأن نصفه بأنه خير أو شر، يماشي الأخلاق أو يعارضها.
وليس معنى الفن للفن ان يخلو الادب من موضوع وذلك لأنه ليس التفكير أو العاطفة هما الموضوعان الوحيدان اللذان يصلحان مادة للادب، بل هناك إلى جانبهما كافة معطيات الحواس التي نتلقاها من الخارج وبخاصة المرئيات, وبإدامة التأمل لآيات الطبيعة التي تحيطنا لابد من أن ينتهي الكاتب أو الشاعر إذا وهبه الله قوة في الخيال ومقدرة على الانفعال إلى أن تختلط هذه المعطيات بشخصيته البشرية, وإلى هذا المعنى أشار الشاعر الفرنسي دبودلير بقوله: إن الاشياء تفكر خلالي كما أفكر خلالها .
ولقد اتضحت تلك الحقيقة في اللغات ذاتها على سبيل المجاز، ولنأخذ لذلك مثلا يتبادر إلى الذهن هو قولنا ان الرياح تئن في رؤوس الأشجار فالفعل يئن فعل بشري وإنما استعملناه لنخلع على الاشياء صفة الإنسان فتمازجنا ونمازجها وبذلك نفلت من سجننا الخاص.
هذا والأدب لا يتجاهل مواصفات الأخلاق، ولكنه يحاول أن يحل مقياسا مكان مقياس، فالعمل الأخلاقي في كثير من الآداب الحديثة هو العمل الجميل في ذاته، لا العمل الذي يتواضع الناس على خيريته.
ومن هنا يصطدم كثير من الأدباء بآراء الهيئات الاجتماعية المحيطة بهم، والغالب أن ذلك لا يكون لاسفاف في طبيعة الأدباء، بل لاختلاف معاييرهم عن معايير عامة الناس.
والأديب بفطرته لا يكره ان يكون ذا أثر في البشر، بل يسعى لاحداث هذا الاثر وهو عزاؤه الوحيد، ولكنه يفطن بطبيعته إلى ان الاثر يكون اعمق كلما كان قصده إلى إحداثه غير مباشر، وهذا حق, وحتى في الأدب الوصفي يصح هذا الحكم.
ومن الواضح أن الموضوعية في الأدب شيء لا تستطيعه طبيعة الأدباء، كما لا تستطيعه طبيعة الادب، فكل كاتب لابد ان يحس في كتابته بعطف او بغض لموضوع كتابته، وإنما تتهلهل الكتابة عندما يفتضح الإحساس, والحياء شرط اساسي في الكتابة.
ومن مقاييس الجودة ان يزداد ما يضيفه القارئ إلى ما يقرأ، ولن يضيف إلا إذا ترك له الكاتب ما يضيف، والكتابة الجيدة كالاواني المستطرفة بين الكاتب والقارئ، وما أضعفه كاتبا يقف منه قارئه موقفا سلبيا، وإن يكن من العدل أن نقرر أن قدرة الكاتب على الإيحاء تزداد وتضعف بحسب قدرة القارئ الثقافية والعاطفية، فالقارئ المثقف الحساس هو الذي يستطيع أن يدرك ما يرقد تحت لفظ الكاتب من معنى أو إحساس.
ومن هذا يتضح أن مذهب الفن للفن لا يعارض الأخلاق، وإنما يسعى إلى خلق الجمال في ذاته، وتحرير الفنون من اتخاذها وسيلة للتعبير عن شخصية صاحبها، ولا أدل على ذلك من اتجاهه نحو الوصف، وكذلك الأمر في المذهب الواقعي، فهو لا يناهض الأخلاق لأنه وإن كان يحرص على تصوير الجانب المظلم المسف في طبائع البشر إلا أنه لا يخلو من حنو على هذا الجانب، فمظاهر البؤس البشري التي يتناولها الكتّاب الواقعيون أحسبها أفعل في إثارة النفوس نحو الشهامة من كثير من أعمال البطولة المشرقة, والعبرة في الحكم على المؤلف الأدبي من ناحية الأخلاق بوجهة نظر المؤلف وإحساسه الذي يطالعك من ثنايا عرضه، أكثر من موضوع المؤلف والمادة التي صيغ منها, وتلخص العلاقة بين الأدب والأخلاق بأن الاتجاه العام في الآداب يسير نحو أمرين:
(1) فهم النفس البشرية وتحليلها.
(2) خلق الجمال وتهذيب النفوس بفضله.
* من كتاب (في الأدب والنقد) للدكتور محمد مندور
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات

الاولــى

محليــات

مقـالات

الثقافية

الاقتصادية

المتابعة

أفاق اسلامية

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

شرفات

العالم اليوم

تراث الجزيرة

الاخيــرة

الكاريكاتير




[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved