Tuesday 4th January, 2000 G No. 9959جريدة الجزيرة الثلاثاء 27 ,رمضان 1420 العدد 9959



حول تربية الأطفال
لاثمر من غير غِراس!!

عزيزتي الجزيرة
ما قولك فيمن يجلس القرفصاء مسندا خديه الى راحتيه في حديقة منزله، منتظرا بزوغ برعم أخضر لينمو فيستحيل دوحة غناء ينعم صاحبنا بظلها ويطعم من ثمارها العذبة؟!.
كأني بك ياعزيزتي تقولين: ذاك من حقه، فلكل مجتهد نصيب,, لكنك قطعا ستصابين بالدهشة اذا ما علمت ان صاحبنا ذاك لم يزرع بذرة ولم يغرس شتلة اصلا، ولكنه من غير جهد يشتهي ثمرا.
وذلك ياعزيزتي حال من يطمع ان يرى اطفاله مستقيمي السلوك دون ان يبذل جهدا في سبيل تحقيق تلك الغاية!
وقبل ان اتناول كيفية غرس السلوكيات المستقيمة في نفوس الاطفال، اعرض الى مفهوم التربية ومقتضياتها، لقد عرف الامام البيضاوي التربية في تفسيره بقوله: (التربية هي تبليغ الشيء الى كماله شيئا فشيئا) والمربي هو المخوّل لان يدخل نفسية الطفل ويجوس اعماقه ليشارك بالنصيب الاوفى في تكوينه عقليا وجسميا وعاطفيا واجتماعيا حتى يصل الى حد التمام والكمال,, وتهدف التربية الى اعداد الطفل اعدادا جيدا لعبادة ربه وتيسير امور حياته، وهذا القول يعيدني الى ما بدأت به وهو كيفية غرس الاستقامة في نفوس الاطفال لكي نهيئهم لما خلقوا له وننشئهم تنشئة سليمة,, ان نفس الطفل صفحة بيضاء ساذجة يسهل النقش فيها كما يقول الامام الغزالي، فيجب على المربي ان يحرص على غرس السلوكيات المستقيمة في نفس الطفل منذ سنواته الاولى، فيبدأ بتعريفه بخالقه ودينه بطريقة تناسب مداركه، وتبسط له بعض احكام الحلال والحرام وتعظم في نفسه، كما يشجع على حفظ بعض سور القرآن القصيرة وحفظ شيء من الاوراد والادعية المأثورة ويثاب على ذلك بما يحمله على الاستمرار فيه,, ثم تغرس في نفس الطفل بعض الآداب الاجتماعية العامة مثل آداب التحية والسلام والاستئذان وآداب اللبس والاكل والشرب وآداب الحديث ومعاملة الآخرين فيعلم احترام الكبير والعطف على الصغير وينشأ على البر بوالديه، كما انه من الضروري ايضا ان يعوّد الطفل على الترتيب والحرص على النظافة.

وينشأ ناشىء الفتيان فينا
على ما كان عوده أبوه!
ومن العوامل التي تساعد على غرس تلك الآداب في نفس الطفل عامل التربية بالقدوة الصالحة، ذلك ان الطفل مفطور على التقليد والمحاكاة، ولا يكتسب سلوكياته الا من خلال ما يراه فيمن حوله، ورد في كتاب منهج التربية الاسلامية ج 2 لمحمد قطب مانصه: ان قدرة الطفل على الالتقاط الواعي وغير الواعي كبيرة جدا اكبر مما نظن عادة ونحن ننظر اليه على انه كائن صغير لا يدرك ولايعي، فهناك جهازان شديدا الحساسية في نفسه هما جهاز الالتقاط وجهاز المحاكاة، وقد يتأخر الوعي قليلا او كثيرا لكن هذا لا يغير شيئا من الامر، فهو يلتقط بغير وعي او بغير وعي كامل وهو يقلد بوعي أو بغير وعي كامل كل ما يراه حوله او يسمعه ا,ه ولان النبات يحمل خصائص ارضه فحري بالمربي ان يحرص على تهيئة بيئة الطفل قبل مولده مصداقا لتوجيه هادي البشرية فاظفر بذات الدين تربت يداك وقوله: اذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه,, ذلك انه لا يستقيم الظل والعود اعوج !.
قال عمرو بن عتبة لمعلم ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي اصلاحك لنفسك فان عيونهم معقودة بعينيك ، فالحسن عندهم ما صنعت والقبيح عندهم ما تركت ، وقد قالت العرب قديما: ان القدوة الحسنة خير من الوصية .
ومن العوامل التي تساعد ايضا على تأديب الطفل وغرس الصفات المثلى في نفسه عامل الحوافز النفسية والتشجيع والثناء، قال الدكتور محمد الصغير في رده على ام تشكو من عدم سيطرتها على طفلها العدواني في مجلة (الاسرة) عدد 54، قال ما نصه: استخدمي اسلوب الترغيب المشروط بحيث تربطين بين اعطائه ما يرغبه من هدايا وجوائز وبين السلوك المرغوب، ومن الطرائق النافعة في ذلك ان تضعي في صالة البيت لوحة يراها بتكرار وفيها اسمه وامامه خانة تضعين فيها نجمة او نحوها عندما يقوم بأمر مرغوب فيه وتخبرينه حالا ان هذه النجمة مكافأة له على فعلته المحمودة وفي الوقت نفسه تعطينه هدية صغيرة مناسبة قطعة حلوى مثلا وهكذا اذا فعل امرا آخر محمودا تضعين له نجمة اخرى ومكافأة اخرى الى ان يجمع خمس نجمات مثلا ثم تعطينه جائزة اكبر لعبة ذات قيمة وتكررين هذا الامر الى ان يعتاد الاعمال المرغوبة المحمودة، اما اذا وقع منه فعل غير محمود فيمكنك التغاضي عنه اول الامر، وان استمر وازداد فاجعلي في مقابله ازالة احدى النجمات، وقد لا يدرك الطفل هذا الاسلوب الا بعد تكراره عدة مرات برفق ولطف على الا تتعجلي نتائج هذه الطريقة لانها تحتاج الى وقت وجهد ولكنها مجربة ونافعة ا, ه.
كما ينبغي للمربي الا يغفل عن عامل مهم لبناء شخصية طفله بشكل سليم، وهو عامل الثقة والاعتداد بالنفس الذي يجب ان يحرص على غرسه في دخيلة طفله منذ سنته الخامسة باعطائه فرصة للتعبير عن آرائه والاصغاء اليه، وباحترام اختياره لما يحب ان يأكل او يلبس وفي حال شذوذ ذوقه يوجهه بلطف ولين دون مسخ شخصيته بفرض رأي او سلطة عليه,, ومما يعزز ثقة الطفل بنفسه تكليفه ببعض الاعمال التي تناسب قدراته، وتعويده على تحمل شيء من المسئولية التي تناط به دون مردود او مقابل,, جاء في مجلة (الأم والطفل) البحرينية عدد 13: ان تقديم مكافأة تشجيعية للطفل مقابل ادائه عملا ما يعد طريقة جيدة لكي يدرك الطفل بان كل عمل يؤديه فان له مردودا يقابله ان لم يكن ماديا فمعنويا، ولكن عليك في الوقت نفسه الا تجعلي من المكافأة عملا ثابتا بحيث يترسخ في وجدانه انه لن يقوم بأي عمل مهما كان اذا لم يحصل مقابله على شيء، ففي بعض الاحيان يجب عليك ان تكوني حازمة معه ليساعدك دون مقابل,, ا,ه.
كذلك فان ادخال عنصر التشويق والمتعة في الاعمال التي نطلبها من الطفل له مردود ايجابي في حمله على القيام بها وهو مقبل عليها بجماع نفسه، يقول البروفسور هاري اوفر ستريت في كتابه (التأثير في التصرف الانساني): ان العمل ينبع عما نرغب في الاساس، وافضل نصيحة يمكن تقديمها للذين يقومون بدور المقنع في العمل او في البيت او المدرسة هي حرك في الشخص الآخر الرغبة للقيام بعمل ما ا,ه.
فلو اردنا مثلا ان نحمل طفلا على ترتيب فناء البيت الذي بعثر فيه العابه وحاجاته فأمرناه بذلك امرا مباشرا فانه على الغالب سيحتج بأي عذر لئلا ينفذ ذلك الامر، او على اقل تقدير سيقول بانه سوف يفعل ذلك لاحقا، ان كلمة لاحقا بعدين ليست سوى تصريف لنا!
ترجمته الحقيقية انه لن يفعل ذلك مطلقا!! اما اذا اظهرنا استعدادنا لمشاركة الطفل في لعبه ثم اشترطنا لذلك ترتيب الفناء لتهيئته للسباق مثلا، فانا عندها سنجد الطفل متحمسا جدا لعملية تنظيف الفناء وترتيبه!
هذا ومن الضروري ان ينزل المربي الى مستوى تفكير الطفل ويعيش عالمه وخياله الطفولي لكي يتمكن من تطويعه للسلوكيات والتوجيهات المطلوبة,, رأيت مرة من المرات اما تعنف طفلها ذا الخمسة اعوام بطريقة جافة خشنة يتخللها الوعيد بالويل والثبور وعظائم الامور اذا لم يمتثل لامرها فيأخذ ملابسه الملقاة على الارض الى سلة الغسيل، كان ذلك الطفل عدواني الطبع فلم يحدث منه الا ما توقعته كنتيجة طبيعية لتصرف والدته، حيث تسمّر في الارض بعناد واصرار شديدين وعيناه تنظران لمن حوله شزرا مؤكدا بالايمان المغلظة انه لن يبرح مكانه مهما كان!!
شهدت ذلك الموقف فتحمست لاختبار النظرية التربوية التي تحدثت عنها آنفا، فما كان مني الا ان استأذنت والدة ذلك الطفل بمعالجة الموقف بطريقتي، وقبل ان تنصرف تاركة لي زمام الامر قالت بلهجة خبيرة واثقة: لا تتعبي نفسك,, والله ما ينفع فيه الا الضرب !! تجاهلت العبارة السابقة وابتسمت في وجه الطفل وربت على شعره فاختلط في عينيه شيء من تعابير الرضا وبقية من بقايا العناد! ولاح طيف ابتسامة انتصار على شفتيه وماأن لمحت ذلك حتى ناديت جميع الأطفال المتواجدين آنذاك حوله ثم قلت بصوت عال: تعالوا تعالوا,, شوفوا البطل القوي (فلان),, يبي ينطلق هالحين بسرعة الصاروخ ويأخذ الملابس لسلة الغسيل,, اتحداكم تسبقونه !! وما هي الا لحظات معدودة حتى انطلق كالسهم لينفذ الامر!!
وفي يوم آخر حل هذا الطفل نفسه ضيفا علينا وجلس مع ثلة من الاطفال يأكلون الحلوى، فمررت بهم واكدت عليهم بان يرموا مخلفاتهم في سلة المهملات، فاستجاب كل الاطفال لما امرتهم به سواه، وكنت متيقنة بأني لو امرته امرا مباشرا لصدعني ولم يعرني التفاتا، هذا ان لم يخرج لسانه الساخر في وجهي!! فما كان مني الا ان جمعت مخلفاته ووضعتها في يده بسرعة وقلت له دون ان اعطيه فرصة للتملص او الهرب: يا الله يا,, كأنك ريشة خفيفة,, وانا سأنفخك فتطير بسرعة وتودي القراطيس مثل اخوانك,, يا الله بسرعة,, شوفوا طارت الريشة ,!! وفعلا,, طار بسرعة لتنفيذ الامر وعلى محياه بريق ابتهاج بفكرة الريشة وبخياله الطفولي.
نخلص من ذلك الى ان الطفل يمكن ان يروض وان كان عدوانيا بالسياسة الحكيمة والاسلوب الامثل حين نلج عالمه الصغير ونعامله على ضوء عقليته ومداركه البسيطة.
عزيزتي الجزيرة:
هذا عن كيفية التعامل مع الطفل، ولعلني اعرض في مقالة قادمة ان شاء الله الى بعض الاخطاء التي يقع فيها المربون رغم ان لها اثرا سيئا في نفس الطفل وسلوكه، والى ان يحين ذلك الموعد اودعكم على أمل اللقاء القريب بكم.
ليلى بنت محمد المقبل
بريدة

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

منوعـات

البرازيل 2000

القوى العاملة

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]
ContactMIS@al-jazirah.com with questions or comments to c/o Abdullatif Saad Al-Ateeq.
Copyright, 1997-1999 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved.