Monday 24th January, 2000 G No. 9979جريدة الجزيرة الأثنين 18 ,شوال 1420 العدد 9979



الصدقة الضارة,, والرحمة الكاذبة ,,,!؟
حمّاد بن حامد السالمي

,, هل في الصدقة ما هو ضار؟ وهل في الرحمة ما هو كاذب؟
* إن مما هو مسلم به؛ أن الخيرية في المجتمع المؤمن المسلم الى يوم القيامة، ومن صور هذه الخيرية؛ العطف على الفقراء والمساكين، والرحمة بالصغير والعاجز والمريض.
لكن كيف نجعل العطف في محله، والرحمة في مكانها؟
* ما إن يأتي رمضان؛ حتى تغص الأسواق بالسائلين والمتسولين، ويمتلىء الحرمان الشريفان بعشرات الآلاف من الشحاذين والمتواكلين، الذين يزاحمون المصلين والمتعبدين، ويتخذون من البيت الحرام والمسجد النبوي الشريف مكانا للعيش والمبيت والمقام! ثم يتساءل البعض في دهشة: أين هذه الألوف المؤلفة في الأشهر الأخرى غير شهر رمضان!؟ هل استكفت بما تكففت به في هذا الشهر؟ أما هذه الأعداد الكبيرة من الموسرين التي تحنو على الفقراء، وتعطف على المساكين؛ وتمد يدها للمحتاجين في هذا الشهر الكريم؛ أين تختفي بقية العام!؟ لماذا لا نراها إلا في رمضان؟ هل يصوم الفقراء والمساكين والمحتاجون أحد عشر شهرا؛ ليفطروا على موائد الكرماء؛ الذين يقومون لهذ الفعل؛ قومة رجل واحد في شهر واحد!؟ وهل الصدقة محصورة في الطعام وحده!؟ وفي اطعام الصائمين في أمكنة محددة دون سواها من بقية الأمكنة!؟
* الأمر في غاية الأهمية، لأنه يرتبط بممارسة غير منظمة من قبل المحسنين، وبسلوك عام في الجانب المحسن اليه، وهذه الممارسة وما نتج عنها من سلوك؛ خلقا مظهرا لافتا في المجتمع، لا يعبر عن خيرية نافعة بالكل، ولا رحمة صادقة في بعض الصور التي نراها على هذا النحو.
* والأمر هنا يتعلق بصدقة الأموال وصدقة الأنفس، فطيلة شهر رمضان؛ نرى المحسنين في سباق محموم لتقديم وجبات الافطار للصائمين؛ من كان منهم محتاجا ومن كان غيرمحتاج، في فوضى لا حدود لها.
* في هذا العام,, صوبت نحو مكة المكرمة لأداء العمرة، قادما من جدة، وفي الطريق الى موقف كدي جنوبي مكة؛ وكان الوقت قبل الغروب بساعة؛ وصفوف السيارات تتزاحم على الطريق؛ وتسير في بطء شديد، وعلى طول الطريق؛ يقوم عدد كبير من رجال وصبية بحمل كراتين التمر والماء واللبن؛ وغيرها من الأطعمة، ويتعاقبون السير على الأرصفة، ويرمون بما لديهم الى داخل السيارات بدون استئذان! هذا يقذف كيس تمر، وآخر علبا من الماء، وثالث لبنا,, وغيرها, ثم تكر السبحة، ويتسابق المتصدقون على نوافذ السيارات، يقذفون من الطعام الى من لا يستحق من الناس، وكأنهم يودون الخلاص من مهمة ثقيلة,,! فلم أصل الى الموقف المحدد؛ إلا والمقعد المجاور لي قد امتلأ بأنواع شتى من الأطعمة، فاحترت ماذا أفعل بها!؟ وكثير من الناس كان مثلي، وبقي كل شيء في السيارة حتى عدت من الحرم بعد أداء العمرة, ثم لم أجد من يأخذ هذه الأرزاق والأطعمة التي تكفي أسرة من عشرة أفراد!
* والصورة داخل الحرم المكي وحوله أعظم, لقد شعرت أني أسير على بقايا أطعمة ملقاة على الفرش التي كانت قبل رمضان نظيفة ومخصصة للصلاة، وعلى بلاط ساحات الحرم، ففي داخل الحرم يوجد مئات الآلاف من الناس؛ تأكل وتشرب وتنام مجانا، في مكان واحد ليس مخصصا للأكل ولا للشرب ولا للنوم، وليس أمام الداخلين أو الخارجين إلا التشمير والعبور من فوق الأجساد والرقاب!
* حقا إن في المجتمع من يسعى للخير، ويبتغي المثوبة في شهر رمضان وفي سواه من الشهور، ولكن ما يحدث في شهر رمضان؛ يحتاج الى اعادة نظر في كافة طبقات المجتمع، ومن الموسرين قبل غيرهم، وحتى من الجهات ذات الاختصاص, لأن ما هو واضح؛ أن هذه الصدقات التي تتمحور حول الحرمين الشريفين في شهر رمضان؛ وفي كثير من الجوامع والمراكز في المدن؛ إنما تذهب في الغالب؛ الى محترفين ومتزيدين، ممن لا يستحق العطاء ولا الصدقة، وكثير من علماء المسلمين؛ يرى أن مثل هؤلاء من المتسولين لا يستحقون الزكاة، لأنهم احترفوا التسول، واعتبروه مهنة رئيسة لهم، وبالتالي,,؛ فإن اعطاءهم الزكاة والصدقة؛ هو تشجيع لهم على هذه المهمة، هذا إذا كانوا فقراء! فما بالك والكثير ممن يتسول في هذا الزمان من الملاك والأثرياء والكانزين للذهب والفضة,,!
والشواهد على ذلك كثيرة لا يتسع المكان لذكرها, فمن هؤلاء من يتسول بدافع الاستزادة والاستحواذ والطمع، ومثله يحول بين المتصدق النزيه والمستحق الفعلي للصدقة، الذي يتحقق من ورائه الأجر والثواب بإذن الله، فالنية وحدها في دفع الصدقة لا تكفي لجلب المثوبة، لأن عدم التحقق من حاجة المتكفف؛ قد تفسد المطلب، وقد تقود الى مضرة.
* إن مما ظهر لي؛ أن ادارتنا للخيرية في رمضان؛ وحتى في بقية شهور السنة؛ تتسم بالفردية التي تفضي الى الفوضى، وتجنح الى الاتكالية التي تخلق التواكل، وفي المجموع؛ فإن سلوكنا كأفراد وجماعات في ادارة الصدقات؛ فيه من الانفصام الشيء الكثير, وهذه صورة من صور عيوب المجتمع الذي ربما يجهلها؛ والمصيبة في هذه الحالة أعظم! قال الشاعر:

أشد عيوب المرء جهل عيوبه
ولا شيء بالأقوام أزرى من الجهل
* ففي الوقت الذي نعمل فيه جاهدين على ملاحقة المتسولين المحترفين في الشوارع والميادين والأسواق؛ والعمل على الحد من ظاهرة التسول بشكل رسمي؛ فإن هؤلاء المتسولين المحترفين؛ إذا وصلوا البيوت؛ ودخلوا المساجد؛ وجدوا منا من يغدق عليهم من خيرات الصدقة مما يتعدى درجة الاطعام الى الاشباع,,! وهذا سبيل مشجع على ازدهار التسول والاستزادة من التربح والاكتناز بالصدقة، لأنها مهنة لا تكلف صاحبها أكثر من هدوم بالية؛ وحركات بهلوانية؛ وعبارات مترققة؛ وستار من فقه الطلب الديني، الذي يصعب دفعه إلا على المتيقظين الذين لا تخدعهم مثل هذه الاساليب, ففي الحرمين الشريفين؛ وفي غيرهما من مراكز الاطعام في رمضان؛ ينعم المنعم عليهم بكل ما لذ وطاب من الأطعمة والأشربة، تمر، سامبوسك ، خبز، لبن، شاي، قهوة، وشريك وحلاوة، ورز ولحم، ودجاج، وحتى الدُّقة والمكسرات! تصوروا, وغيرها مما يعهد به الموسرون الى متعهدين ينوبون عنهم في ذلك، فيحصل الواحد وهو جالس؛ على طعام يكفي لعشرة، وهذا ما يفسر ظاهرة الافتراش ليل نهار من المقيمين وغيرهم، الذين لا يجهدون في شيء، وما يتمنونه يأتيهم وزيادة.
* وهناك صورة أخرى تتكرر آخر الشهر الكريم، في كل المدن، تتعلق بزكاة الأنفس التي ترتبط بعيد الفطر المبارك، والتي حصرها الشارع فيما يؤكل سدا لحاجة من لا يجد عند من يجد قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته من عموم المسلمين؛ ذلك أن طبقة من المتاجرين بالزكاة؛ تستولي على هذا المصرف بالغش والتحايل، حتى أُبعد من هذا الطريق الخيري؛ من ينتظر الزكاة وهو مستحق لها, إن كيسا واحدا من القمح على سبيل المثال يتحلق حوله مجموعة من المتسولين المحترفين؛ سوف يدر عليهم وعلى البائع عشرات الآلاف من الريالات، لأن المزكي يشتري الصاعات؛ ثم يدفع بها الى هؤلاء المحترفين، وهم يعيدونها للبائع بثمن معلوم، ثم تباع لآخر,, وهكذا دواليك,,!
* إن شيوع العطاء في المجتمع، وظهور الاحسان في الأمة؛ دليل على خيريتها، وبيان على ما هي فيه من نعمة ورخاء وأمن وصحة، وهذا ما يوجب الحمد لله بالشكر، والبذل والعطاء المحكوم بمعرفة قدر هذه النعم، التي منّ الله بها علينا، لنحسن تطهيرها وتنقيتها بالصدقات, قال الشاعر:

ثلاثة يُجهل مقدارها
الأمن والصحة والقوت
وقال آخر:

ذهاب المال في حمد وأجر
ذهاب لا يقال له ذهاب
* ولكن هذا العطاء؛ وهذا البذل، لا يؤتي ثماره إذا جاء بصورة غير منظمة، وليس فيه من الصدق والجدية والالتزام ما يضعه في موضعه الصحيح السليم، فكم من حسنة انقلبت الى سيئة، وكم من باذل أراد بعمله منفعة فتسبب في مضرة, قال لافوتين: من الخير أن يكون المرء محسنا,, ولكن تجاه من؟ هذه هي الحقيقة, ومن حِكَم الشعوب: المحسن الحقيقي يواصل أعماله كالكرمة التي تعطي في كل موسم عنباً جيداً.
* إن كثيرا من الصدقات في شهر رمضان المبارك في الحرمين الشريفين؛ وفي غيرهما من المراكز؛ فيها من المضار أكثر مما فيها من المنافع، مضار على المحسنين، وعلى المُحسن إليهم، ومضار على المجتمع، ومضار على المظهر العام للأمة، ومضار على الادارات المحلية، ومضار على أمكنة العبادة، ومضار على المستحقين الفعليين للصدقة، من أولئك الذين يمنعهم من التكفف التعفف وما أكثرهم وأظهرهم لمن أراد أن يصلهم ومن هذه المضار التي أصبحت معروفة:
1 التشجيع على البطالة والاتكال, فما أكثر العمال الذين هربوا من كفلائهم واحترفوا التسول، وما أكثر الذين تركوا بيوتهم وجعلوا مقامهم وقيامهم ونيامهم وطعامهم في بيوت الله التي لم تجعل لهذا، وإنما للصلاة والتعبد.
2 التشجيع على تخلف المعتمرين والمتخلفين، والمخالفين لأنظمة العمل والاقامة، الذين يجدون المكان الآمن الذي فيه يقومون وينامون ويتحركون بحرية، ويصلهم من الشراب والطعام والكساء؛ ما يكفيهم وزيادة، بالمجان.
3 الإضرار بالمرافق الخاصة التي يقوم عليها النشاط الاجتماعي والتجاري والاقتصادي، في مكة المكرمة والمدينة المنورة على وجه الخصوص، من مساكن ومطاعم ومقاه ومتاجر، وخدمات عامة, وغيرها.
4 عرقلة عمل الوكلاء والمطوفين، وشركات العمرة والحج، التي ترتبط بشروط مع الدولة، وبعقود مع جهات المصدر في البلدان العربية والإسلامية، فيتسرب المعتمرون والحجاج من بين أيديها الى حيث الحماية، في ظل كل شيء بالمجان وزيادة، حتى إن البعض يحمل معه في سفره أكياسا وكراتين مملوءة بما جمع في شهر أو شهرين، من أرزاق وخيرات حجبت عن مستحقين حقيقيين في بلادنا، وصرفت بغير حساب في غير مصارفها، بسبب سوء التقدير وسوء التدبير، والفوضى.
5 الإساءة الى الأماكن الطاهرة المقدسة ودور العبادة، بنشر الفضلات والأوساخ والقاذورات والافتراش، وتحويل الحرمين الشريفين الى سكن دائم.
6 الافساد على المصلين والمتعبدين والعاكفين والركع السعود في الحرمين الشريفين، بسبب الافتراش والاقامة والنوم داخل الحرمين وحولهما.
7 شيوع ظاهرة اقل ما يفهم منها أنها تظاهر بالتصدق, وهذا مما يفسد القصد من الصدقة، ويقوي الحاجز النفسي بين من يعطي ومن يأخذ، لأن صاحب اليد العليا محسود محقود مهما بدا كريما معطاء, يقول الشاعر:

تقربت بالإحسان منه فزادني
بعاداً فما أدري بما أتقرب!
8 صرف الصدقة في الغالب الى من لا يستحق، من أولئك الذين يظهر عليهم الاكتفاء وعدم الحاجة, سواء من المعتمرين أو الوافدين؛ أو من غيرهم ممن يفد الى الحرمين الشريفين بقصد التعبد والعمرة، ويأخذ البعض من هؤلاء بغرض التمتع بنعمة الصدقة وليس لحاجة, وفي هذا دليل على فوضى الممارسة الفعلية في ادارة الصدقة، وأنها لا تخضع لرؤية ثاقبة، ولا لعمل جماعي منظم، وإنما التصدق بغرض التصدق وكفى, يستوي في ذلك المحتاج وغير المحتاج، حتى لو صدقت النوايا.
9 إن في هذا الذي يجري؛ تعطيل للغرض من الصدقات والزكوات، وذلك حين لا توجه لمن يستحقها استحقاقا فعليا، ممن نص عليهم الشارع الحكيم في آية الصدقات, قال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل,,,) الى آخر الآية الكريمة, أما الممتهنون والمحترفون؛ وقاصدو العمرة والحج؛ الذين يأتون بعقود مع شركات ناقلة وأخرى مضيفة، فهم مكتفون، ويجب أن يكونوا كذلك وإلا فإنهم في حكم غير المستطيع الذي لا يجب عليه حج ولا عمرة, وفي هذا حجب للصدقة عن فقراء ومساكين فيهم أيتام وعجزة، يعيشون بعيدا في قرى وهجر وأودية لا يعرف بهم أحد, فالقريب أولى بالمعروف من الغريب، وإلا فنحن كما قال الشاعر:

متى ما يرى الناس الغني وجاره
فقير؛ يقولوا: عاجز وفقير
10 إن المبادرات الفردية في ادارة الصدقات وصرفها؛ لا تكون صحيحة وسليمة في كل الأحوال، وتسودها الفوضى التي تنال من كل فعل وعمل غير منظم وغير مرتب لها، وفي هذا ما يضع الصدقات خاصة المالية منها في قنوات صرف غير مشروعة وغير نظامية، وعلى المدى البعيد؛ ربما تذهب لغرض تمويل جهات ذات نزعات تطرفية وتخريبية في بعض البلدان، فيكون لهذا أثر سلبي على الأمة والمجتمع، وعلى المتصدقين الذين ما أرادوا إلا الاحسان؛ لكنهم لم يحسنوا التصرف، وخير من ذلك؛ العمل من خلال الجمعيات الرسمية المعترف بها، والتنسيق مع الجهات التي تملك الحق والقدرة على الإنابة، وتحقيق رغبة الموسرين المحسنين، في الوصول بصدقاتهم وزكواتهم الى من يتحقق مع الاحسان إليه؛ الأجر والثواب بإذن الله تعالى.
* وخلاصة القول؛
فإن في بلادنا بحمد الله؛ خيرات كثيرة، وفي مواطنينا خيرية مباركة, ومع هذا,, فإن فينا من يحتاج إلى خيرية المحسنين، وصدقات المتصدقين.
ولكن أرانا كما قال الشاعر:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

الطبية

مدارات شعبية

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]
ContactMIS@al-jazirah.com with questions or comments to c/o Abdullatif Saad Al-Ateeq.
Copyright, 1997-1999 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved.