عبدالوهاب طالب في المرحلة النهائية في كلية الاداب قسم علم نفس عرف بين اساتذته بالجد والاجتهاد والمثابرة وحدة الذكاء, وفي اول يوم من ايام التطبيق ذهب هو وزملاؤه باشراف احد الاساتذة لمستشفى الامراض العقلية ليتم تطبيق ما تعلموه نظريا على الحالات الموجودة هناك، وفي الارشيف بدأ الطلاب يطلعون على الملفات حتى يحدد كل طالب الحالة التي سيتولى البحث فيها, وقد اختار عبدالوهاب ملفا مكتوبا عليه,,، اسم الحالة: صالح عبده البدري، التشخيص: مصاب بفصام في الشخصية , فقرر ان يتولى هذه الحالة، وبالفعل توجه للاستاذ المشرف وسجل هذه الحالة باسمه، وبدأ في قراءة الملف حتى يطلع عليه حرفا وحرفا, بعد ذلك اقفل الملف واستدعى الحالة في احد المكاتب الاكلينيكية الموجودة هناك, ولم تمض عدة دقائق حتى قرع الباب وفتح ليظهر الممرض بصحبة صالح ولكن المفاجأة كانت كبيرة على عبدالوهاب عندما وجد ان صالح هذا الذي امامه هو ابن جارهم الذي كان يسكن في حيهم القديم اما صالح فقد احتفظ بهدوئه واظهر عدم اللامبالاة، وسرعان ما استيقظ عبدلوهاب من هول المفاجأة وطلب من صالح الجلوس واذن للممرض بالانصراف فخيم الصمت لبرهة من الزمن فعبدالوهاب لايعرف كيف يبدأ الحوار لأنه لم يصدق ما يراه ولكنه قطع هذا الصمت بقوله: كيف الحال ياصالح ألم تعرفني؟ صالح: بل عرفتك.
عبدالوهاب وكان الذي امامه بكامل قواه العقلية: ما الذي اتى بك الى هنا؟
صالح: القدر السعيد هو الذي اتى بي الى هنا رغبة في الانسحاب من العالم المجنون, عبدالوهاب مستغربا: ولكن كيف؟ انا لا افهم شيئا.
صالح: انت تعلم ان أمي رحمة الله عليها قد توفيت منذ زمن ولكن الذي لا تعرفه ان ابي تزوج من امرأة اخرى وقد كانت تكيل لي العذاب باضافة، فلم اهنأ بطعم العيش منذ وجودها والغريب ان ابي كان يصدقها ويقف في صفها في كل مرة فلم اعد احتمل فاصطنعت الجنون كي آتي الى هنا.
عبدالوهاب: ولكن كيف اتيت بهذه الفكرة؟.
صالح: من احمد ابن خالتي عندما اصيب بهذا المرض فعلا وادخل المستشفى واصدقك القول بانني وجدت الراحة هنا,, لم اعد اجد المتعة في العيش مع الناس خلف هذا السور، فلقد اصبحت العلاقات بينهم مبنية على الغش والانانية والطمع والخداع، اصبح الواحد منهم لا يطيق صاحبه، بل يدس له الشر في قلبه ويظهر الخير.
جميعنا ياسيدي (,,,,,) والقليل منا يستحق ان نطلق عليه انساناً؟
عبدالوهاب بنبرة تنقصها الثقة محاولا الاستفادة مما تعلمه وبقدرته على الاقناع: نعم ولكن ليست بهذه الصورة التي تتصورها هناك مجموعة كبيرة من الناس الذين يجعلون الحياة تشع بهاء وسعادة, ان الانسان في علاقاته بالاخرين يحتاج لهم ويشكو منهم يشقى اذا ابتعد ويبكي اذا اقترب منهم.
ان الخطأ ليس ان نعيش حياة لا نرضاها ولكن الخطأ ان لا نحاول تغيير هذه الحياة للأفضل انت يا احمد تعاني من بعض المشاكل في علاقاتك بالاخرين ولا توجد هناك حياة خالية تماما من المشاكل من المتاعب والالام لكن كيف نواجه همومنا ومتاعبنا او كيف نتعايش معها؟
صالح: لا تحاول ان تقنعني, فلقد تغيرت المفاهيم في هذا الزمن فأصبح الخطأ هو الصح والعكس لم يعد الكبير منهم يقدر الصغير ولا الصغير يحترم الكبير ولا القوي يرأف بالضعيف ولا الغني يحن على الفقير مع انهم يعيشون على كوكب واحد ويستنشقون نفس الهواء وخلقهم واحد.
والسبب في ذلك المادة والتغير الذي طرأ على العصر الذي يسمونه بعصر التكنلوجيا عصر التقدم والذي غير معه اخلاقنا.
لقد اصبح الصدق والطيبة من العيوب في هذا الزمن ولم يعد هناك ما يسمى بالصديق بل علاقات مادية تشوبها المصلحة.
عبدالوهاب وقد بدا متأثرا: بل يوجد فهناك صداقة وهناك اصدقاء لكن المهم كيف نختار اصدقاءنا فيجب ان تختار الشخص الذي يكون بينك وبينه توافق والعلاقات الانسانية بصفة عامة قائمة على الاخذ والعطاء,, فالصداقة المثالية والناجحة هي طريق ذو اتجاهين اخذ وعطاء والسعيد هو الذي تعطيه الحياة صديقاً او اثنين من الذين يوفرون لك الامان والاطمئنان، والصداقة هي كالوردة النادرة تحتاج لرعاية خاصة.
صالح مقاطعا: دعك من هذا,, هذا الكلام الذي تقوله لا نجده الا في الكتب والخيالات أما في الواقع فلا يوجد, انا اعرف جيدا انك مقتنع بكلامي ولكنك تحاول ان تخدع نفسك, ان الحياة هي مايحدث وليست ما نخطط له, نهض عبدالوهاب متثاقلا وقد بدا التأثر واضحا على وجهه ومشيته وذلك بسبب حديث صالح والمآل الذي آل اليه.
وعندما وصل الى باب المكتب وهم بفتحه اذا بصالح يناديه قائلا: عبدالوهاب اريدك ان تعرف شيئا قبل ان تذهب.
التفت اليه عبدالوهاب بدون ان يتفوه بكلمة ماسكا الباب بيده فأكمل صالح حديثه قائلا: ان جميع من بداخل هذا السور هم العقلاء الذين فضلوا الانسحاب من العالم المليء بالآثام ليجتمعوا هنا وينعموا بالحياة مع بعضهم البعض بعد ان يئسوا في التأقلم مع من بالخارج لأن سجيتهم لا تقبل ذلك.
ارتسمت على وجه عبدالوهاب ابتسامة هادئة وهز رأسه بالموافقة واتجه فورا لأستاذه الذي استقبله باسما قائلا له: هل امكنك تشخيص الحالة وعلاجها في هذا الوقت القصير, رد عليه عبدالوهاب قائلا: يبدو انهم ليسوا في حاجة للعلاج بل غيرهم هو الذي يحتاج يا استاذي العزيز, ثم طلب تغيير الحالة.