Monday 28th February,2000 G No.10014الطبعة الاولى الأثنين 22 ,ذو القعدة 1420 العدد 10014



الغذامي بين تأنيث الثقافة وجائزة السلطان
د, حسن البنا عزالدين

أولا ارجو ان يكون العنوان موفقا من الناحية الصحفية ومثيرا الى حد كافٍ للفت نظر القارئ/القارئة او القارئة/القارىء (اذ ليس ثمة فرق بينهما ايهما قبل الآخر افقيا او رأسيا سواء اكان ذلك من منظور المرأة الذي افاض فيه الغذامي في كتابه الأخير تأنيث القصيدة والقارئ المختلف 1999 ام من اي منظور آخر) وثانيا كونه مناسبة ملحق الجزيرة هذا للاحتفال بفوز الغذامي بجائزة سلطان العويس في دورتها السادسة في النقد الادبي مناسبة طيبة حقا للكتابة عن الغذامي في كتابه الاخير ودلالة الجائزة المشار اليها اما المناسبة فقد اعادتني الى الكتاب الجيد الذي كتبه احد تلاميذ الغذامي وهو حسين بافقيه حول الجوائز الادبية: الحدود والاقنعة، 1999 وهو كتاب جيد حقا ويستحق الاشادة وميزته انه يجيب سلفا على بعض الاسئلة التي يطرحها فوز استاذ وناقد مثل الغذامي بجائزة معروفة في العالم العربي كما انه من ناحية اخرى يطرح بعض التساؤلات حول مشروع الغذامي الثقافي على نحو ما يظهر في كتبه الاخيرة عن المرأة واللغة ووهم الثقافة وتأنيث القصيدة ولعل اهم ما يذكر عن جائزة العويس ان فلسفتها كما يذكر بافقيه ص69 تقوم على الانفتاح على مختلف التجارب الادبية والنقدية والفكرية والتوجهات الايديولوجية المصاحبة لها بدءا من القصيدة التقليدية الى التجارب الجديدة في الشعر والرواية والنقد كما يحق لكل كاتب أن يرشح نفسه بنفسه، وبهذا المعنى فهي ليست جائزة تتويجية، تعطى للكبار سنا وتجربة فقط، وانما هي جائزة مفتوحة على كل الافق الثقافي العربي من مشرقه الى مغربه ولكن ينبغي ان نتفق منذ البداية ان منطلق هذه الجائزة الواقعي مثل منطلق معظم الجوائز العربية وهو انها تتويجية في النهاية ولا تعطى تقريبا الا لكبار السن والذين يتفقون مع فلسفتها وفلسفة محكميها غير المعلنة او الذين لم يعد لهم كبير خطر على هذه الفلسفة او ان يكون مجرد حصولهم عليها تكريما للجائزة وليس لهم ولست هنا في مقام الهجوم على الجائزة او على الفائز بها ولكني في مقام إعلان رأي وهو رأي يتفق فيه معي كثيرون او اتفق فيه معهم وقد وصل بافقيه (ص52، وانظر كذلك 85 وص134 وما بعدها) الى نتيجة مهمة في هذا الصدد هي ان الجوائز العربية المختلفة على الرغم من طموحاتها الكبيرة في خلق مناخ ادبي وثقافي واسع بين الجماهيرية العربية لم تستطع ان تحقق اهدافها الثقافية وطموحاتها الفكرية في بث خطاب تنويري عربي من الخليج الى المحيط كما انها لم تستطع ان تتحول الى صناعة بالمفهوم الاقتصادي كما في الغرب فضلا عن كونها لم تستطع ان تشكل مفهوم الجماعات الضاغطة التي يحسب لها الف حساب في تشكيل الرأي العام، فهي في في الغالب لا تبرح ان تكون محط اهتمامات الادباء والمثقفين، وبشكل محدود وبحسب مستوى الجائزة الممنوحة وفي فضاء إعلامي محدود تغيب فيه الاجواء الاحتفالية الكرنفالية الشعبية وتجعلها في الغالب نخبوية الطابع، وغير معبرة عن هموم الشارع العربي في صراعه الاجتماعي والسياسي والقيمي,
ان كتاب بافقيه نفسه من حيث يعد نشره ثمرة لتقدير امير شاعر فنان تأكيد لحتمية العلاقة التاريخية بين المبدع الفرد والمؤسسة الممدوحة في افضل اشكالها الايجابية ولكن لعل هذا هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة والقاعدة هي ما خلص اليه بافقيه في كتاباته التي اشرنا اليها ولا تقتصر المسألة على الجوائز الادبية التشجيعية التي يتقاتل عليها كبار السن في بعض بلادنا، بل يمتد الى الشبان المخترعين في مجال العلم والصناعة الذين يحصلون على براءة اختراع ثم يرمى باختراعهم في ارشيف اكاديمية البحث العلمي دون جائزة ودون اي خطة لتحويل الاختراع الى واقع يستفيد منه ملايين البشر، فموضوع الجوائز الادبية وغير الادبية موضوع ذو شجون والمؤكد انه يستحق إعادة النظر من قبل اصحاب مؤسساتها حتى لا تكون بمثابة الطوق الذي يعطى للغريق بعد ان وصل الى بر الأمان، او لم يعد يهمه ان يصل الى هذا البر فلماذا لا تكون هناك جوائز لأفضل بحث للماجستير ولأفضل بحث للدكتوراه وبعدها في مختلف مجالات العلوم والفنون والدراسات الإنسانية في العالم العربي, اننا هنا نضمن على الاقل ان يكون الباحث او الباحثة في مقتبل عمره العلمي ويستطيع ان يفيد من التشجيع الذي سوف تسبغه عليه الجائزة وتتوقع منه المزيد في المستقبل؟ ان الشاب في بلادنا هو من تجاوز الخمسين في منطق اصحاب هذه الجوائز فكيف نتوقع ان تكون لها اية قيمة حقيقة بالنسبة لجماهير القراء والمستهلكين والمتذوقين للفن والادب؟ ان تصحيح مسار هذه الجوائز امر ممكن لو اقتنع اصحابها بأنها ليست منة ولا حسنة تعطى لبعض الكبار او المشاغبين من الشباب، للتخفيف من غلوائهم وضمان صوتهم الداخلي والخارجي على السواء بل تقديرا حقيقيا لنبتة صالحة في ارض الوطن او غصن يافع في حديقته يرجى له النماء ويحتاج الى الرعاية والتقدير فيكون مثالا وقدوة للآخرين من حوله ولا يفرغ جهده في ابعاد حساده عنه او دفع الحاقدين عليه من حوله وبالطبع لا يمكن ان يتحقق ذلك كله الا في ثقافة انسانية متفتحة واعية بماضيها في مواجهة حاضرها في سبيل الدخول في عالم لا يرحم الضعيف ولا المتردد، ولن يتحقق ذلك ابدا الا بأبناء الوطن الذين يأخذون على عاتقهم التنبيه الى مواطن الضعف في الثقافة ومواطن القوة ويمثلون عناصر الابداع والتفوق العقلي والعلمي في الوقت نفسه ولاشك ان معظم من حصل على الجائزة وهو فوق الخمسين او الستين كان يمكن ان يستحقها قبل عشرين عاما ولكن يبقى السؤال: هل كان سيكون الشخص نفسه على مدى عشرين سنة او يزيد اذا حصل عليها في بداية مشواره؟ وهل اعطاء الجائزة لبعض الفائزين بها يعد مكافأة لهم على مواقفهم الناقدة للمجتمع وللسائد فيه؟ لعل هذين السؤالين يحتاجان الى تامل اكثر قبل الاجابة عليهما.
فإذا جئنا الى كتاب الغذامي الاخير وجدناه في قسمين: الأول بعنوان التأنيث ويشمل ابحاثا عن تأنيث القصيدة وقراءة القصيدة الحرة والشعر اذا لم يكن خطاب في التأنيث، وهل الرواية رجل ابيض أما القسم الآخر فيحمل عنوان القارئ المختلف ويشمل ابحاثا عن المعنى في بطن القارئ ورحلة المعنى من بطن الشاعر والقارئ المختلف والأعمى هو الأبصر طه حسين سيد المعاني و(ما بعد الادونيسية شهوة الاصل ) وقد نشرت بعض هذه الابحاث في اماكن اخرى من قبل ولكن المؤلف لم يشر الى هذا، أما الغلاف الامامي فيحمل صورة او لوحة فنية تذكر برسوم الواسطي للمقامات، كما يلفت النظر فيها وجود اربع نساء ورجل وطفل.
وتتضح مركزية الرجل وتوسطية الطفل في اللوحة في حين تتوزع النساء الاربع المتشابهة الملامح وان تأطرت إحداها في صورة على الجدار او لعلها تطل من شباك داخلي واخرى تنظر من فتحة باب لحديقة داخلية على ما يبدو، والاثنتان الاخريان تقفان متباعدتين في محيط الرجل الجالس فيما يشبه الايوان، واما الطفل فيجلس على سجادة بين الرجل وامرأة واقفة في حالة انتظار، ولاشك ان الغلاف بهذه التفاصيل يعد قراءة للكتاب من وجهة نظر الرسام، ويلفت النظر ان رقم اربعة مشار اليه في كلام المؤلف ص95 عن رواية او كتاب رجاء عالم المنشورة تحت مسمى اربعة/صفر في سياق كلامه على غلاف هذه الرواية بصفة خاصة، ومهما يكن من امر، فإن الاربعة نساء في مقابل ذكرين تذكر بالقاعدة الفقهية التي تساوي بين الرجل وامرأتين في حالة الشهادة في المحكمة, والغريب ان الرجل الجالس اشبه بالقاضي يمسك في احدى يديه اوراقا ما، والطفل اشبه بالحائر والمتسائل فجسمه متجه الى ناحية المرأة الواقفة ورأسه متجه ناحية الرجل الجالس، وتبدو اوضاع رؤوس النساء مفكرة وحزينة في الوقت نفسه,
ان صورة الغلاف موحية حقا بقراءة عميقة للكتاب، ومن ثم تصلح مفتاحا لقراءته او تلقيه، وقد حرص المؤلف ان يضع على الغلاف الخلفي للكتاب رسما تشكيليا لابنته رحاب ومن الصعب التكهن بعلاقة هذا الرسم بموضوع الكتاب إلا من جهة كون صاحبته تنتمي الى قسم التأنيث في الكتاب وانها في الوقت نفسه ابنة المؤلف واذا كان المؤلف نفسه يسمح لنا بقراءة كتابه والاختلاف معه، بل ونفيه مؤقتا عن الكتاب ان يكون صاحبه فإن اثبات رسم الابنة يثبت ابوته الابداعية سلفا وهي الابوة التي اشرنا اليها كذلك في الاشارة الى بافقيه تلميذه النجيب.
قدّم المؤلف لكتابه بقوله انه جزء من مشروع همه الحفر عن الانساق الثقافية متوسلا بمنطلقات النقد الثقافي وطامحا الى تطوير فاعلية النقد من كونه ادبيا جماليا الى كونه نسقيا ثقافيا هو مطمح لنقلة نوعية في النقد من نقد النصوص الى نقد الانساق وقراءة النص الادبي لا بوصفه حدثا ادبيا فحسب وانما بوصفه حدثا ثقافيا كذلك ويعد هذا التقديم اقرب الى ان يكون تقديما للقسم الاول من الكتاب ولذلك لم يضع المؤلف مدخلا خاصا بهذا القسم في حين كتب ص 103 مدخلا للقسم الآخر ذكر فيه عن القارئ المختلف الذي يمثله المؤلف نفسه في كتابه، انه يختلف ولذا فإنه يعيد صياغة سؤال الإبداع وسؤال النقد ويعيد صياغة المفهومات وترتيب الاولويات ومن هنا تأتي النظرة الثاقبة في اسئلة الما بعد: ما بعد الحداثة وما بعد النص وما بعد القراءة وهذه هي فحوى فصول الكتاب ولعل القارئ يجد نفسه مفتوحة للاختلاف معي ومزيد من الاختلاف فإن حدث هذا فإن الكتاب سيكون قد حقق رسالته في نبش الاسئلة وفي ايداع المعنى في بطن القارئ ، وذلك بدلا من ان يكون المعنى في بطن الشاعر او المؤلف كما كان يقول قديما.
ومن الواضح ان الانتقال من البعد الادبي او الجمالي الى البعد الثقافي يعد نقلة مهمة وضرورية في العمل النقدي المعاصر وقد وعدنا الغذامي بكتاب قادم عن النقد الثقافي ولذلك سوف نؤجل مناقشة المسألة بالتفصيل حتى نرى الكتاب ولكن تنبغي الاشارة الى خطورة الفصل بين البعدين ولم يقصد الغذامي هذا بالطبع ولكن محاولته اثبات فحوى الانوثة في قصيدة التفعيلة تختلط احيانا بتأويلات لأمور شكلية قد لا تثبت ما يريد اثباته ونستطيع ان ننظر في مثال جيد في حد ذاته مع ذلك عن المعنى الجديد للحزن في تلك القصيدة الذي اكسب الخطاب الشعري منظورا جديدا كشف فيه الحجب عن المعاني المقموعة والمهمشة واعاد القيمة لواحدة من الدلالات الجوهرية في الوجود الإنساني ولقد ظل هذا المعنى منعزلا ومهملا لدى السادة الفحول الى ان جاءت القصيدة الحرة فحررت هذه الدلالة من اسارها ص 57 وقد اعتمد الغذامي في حكمه هذا على دراسة منشورة في 1979، ولاشك ان انحصار الشعر الحر بين نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة يونيو 1967 والحرب الباردة فيما بينهما لم يدع مفرا من هذا الحزن الذي اثر تأثيرا بالغا في شعراء هذا الجيل الذي بدأ حركة الشعر واستمر فيها حتى مطلع السبعينيات التي يمكن القول بوجود جيل آخر نشأ في تلك الحقبة، فالمسألة تبدو معقولة للغاية من جهة التفسير الثقافي وغير الثقافي ولكن الغذامي يوحي في كلامه بأهمية هذا البكاء ذي البعد الانثوي في الموضوع في حين قام باحثون آخرون في البحث عن كون الشعر الحر ثوريا في المقام الاول ربما نظرا لوقوع تجربة الشعر الحر في حقبة ثورية على المستوى الوطني في آسيا وافريقا وبالتالي ليس انثويا بالضرورة فالاختلاف هنا قائم في التفسير ولكن دائما ما يتحقق تفسير ماعلى حساب تفسير آخر ولو كان هذا ضمنيا.
وقد نعطي مثالا آخر من استنتاج الغذامي ظهور الفحولة في التراث الشعري القديم بوصفها ذاتا مغلقة لا تقيم وزنا للآخر فالآخر ليس سوى صدى للذات التي هي معادل صوتي للمطلق الدهر وهي ذات مذكرة فحسب ص 64 ولكنه مشكلة الآخر اكبر من مشكلة الذكر/الانثى في الثقافة العربية، انها معضلة اساسية لهذه الثقافة في مواجهة الآخر بكل انواعه الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية محليا كان ام عالميا فلماذا نحصر المشكلة في هذه الدائرة الضيقة؟ بل اننا يمكن ان ننظر الى المسألة من زاوية جدلية اخرى على النحو التالي: انه لولا هذا العام الذكوري الابيض لم تكن ثمة حاجة ملحة لتأنيث القصيدة والرواية والعالم فتأنيث الثقافة اما ان يكون حاجة طبيعية وضرورية لإعادة التوازن في المجتمع الإنساني ويشارك فيها الرجال والنساء على السواء او يكون بمثابة إعلان حرب من جنس مقهور ادرك حقوقه وقدرته على الانتقام من الجنس الآخر القاهر، فإذا كانت الاولى فالمسألة مطروحة للتقييم والحوار ومرهونة بقدرة الاطراف المعنية على اثبات وجهات نظرهم ورؤيتهم للعالم ومدى مواكبة الظروف السياسية والاجتماعية او عدم مواكبتها لتعينهم على تحقيق هدفهم واذا كانت الاخرى فتلك هي الايام نداولها بين الناس.
ونحن نرى ان الغذامي يوحي احيانا بالحالة الاولى واحيانا بالاخرى ولعل الخطورة تكمن في عدم الوضوح هذا، الامر الذي قد يوحي باختلاط الامرين في ذهن المؤلف او في ذهن القارئ المختلف .
ولاشك ان القارئ المختلف وقسمه في الكتاب يحتاجان الى وقفة اخرى للاختلاف فالغذامي حقا يفتح النفس للخلاف وهي من اهم مزايا الكاتب الحقيقي الذي لا يسعى ابدا الى جائزة السلطان بل تسعى اليه، ويضفي عليها من اختلافه اكثر مما تضفي عليه من ائتلافها .

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

حفل توزيع جوائز مسابقة الجزيرة

منوعـات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

الطبية

مدارات شعبية

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved