Monday 28th February,2000 G No.10014الطبعة الاولى الأثنين 22 ,ذو القعدة 1420 العدد 10014



نقد الواقع في سحارة الكذب
فهد حسين حسن *

من الصعب على المرء أن يكون نساجاً لحكاية إبداعية تتمخض من عباءة اللغة وتتتغذى على غرز الألفاظ، إلا إذا كان مبدعاً في تكوينه الثقافي ومغربلا في مخزونة المعرفي، ولكن حينما تتحول هذه الإبداعات إلى سرد حكايات شفاهية تقال على مسامع المتلقين في المقاهي والمحال والجلسات الليلية فهي أسهل بكثير من الإبداع نفسه، لأن عامل الزيادة والنقصان يتوافر هنا وهناك، فليس حجة على السارد أن يؤكد أو يدلل مالم يرد ذلك.
وحين تتحول هذه الحكايات السردية إلى قول إبداعي مكتوب في شكله التدريجي وتسلسله المنطقي، فالمبدع يقف بينه وبين نفسه حين يريد القول، وكيف يصطاد من قاع العلاقات الإنسانية المواقف الحياتية المعيشة ويترجمها إلى فن كتابي إبداعي, رغم أن المبدع لا يستطيع نقل الواقع كما هو، وإنما يتم النقل عبر رؤية بصرية وفنية تخرج من ثقافة الكاتب وليس من الواقع ذاته، إنما الواقع هو الإيحاء الدال الذي ينطق منه لطرح هذه الرؤية.
من هنا أسرني الغذامي صاحب النتاجات الادبية والثقافية التحليلية من كتاب الخطيئة والتكفير إلى كتاب حكاية سحارة الذي نحن بصدده، وصاحب مشروع النقد الثقافي، بأسلوبه الممتع ولغته الاستفزازية التي تثير فيك التساؤلات، وطريقة البحث التحليلي والنقدي واستقراء دوال اللغة المعتمدة, هذا الأسر أخذني إلى الإمتاع والمؤانسة القرائية في كتابه الأخير الذي صدر عن المركز الثقافي العربي بطبعته الأولى عام 1999م.
وبدأت أطلق شفتي ولساني لقراءة نصوص الكتاب، ثم أقف حائراً في تناول الكاتب الذي لا يصنف نفسه قاصاً أو روائياً أو شاعراً، بل هو الكاتب المبدع الذي استطاع أن يحفر اسمه على جدار النقد العربي وثقافته حتى أصرّ على القدوم في مشروع النقد الثقافي الحيرة التي انصبت في قدرة الكاتب على نسج المتخيل الذهني ونقد الواقع المعيش ضمن التساؤلات غير المباشرة التي نطرح من خلال السرد, ثم وقعت في تساؤل أخر فهل كل ما يطرح يستطيع المبدع أن يحوله إلى ما يشبه الحقائق؟ أو الحقائق ذاتها؟ في الأمكنة والأزمنة المؤرخة وأسماء الشخوص؟ أنه إبداع فني يترسخ في بؤرة المتخيل الإبداعي.
إنه الإبداع الذي يتمتع به الكاتب ليجعلك داخل هذا المنتج بكل ما يحمله من طرح وفكر وغاية واختلاف مع تقبل الآخر في ضوء اللغة التواصلية التي تزيح الخفاء وتتجلى في مفرداتها ومعانيها، فدخل الغذامي في تجربة الصراع الزمني والتاريخي والتراث منذ زمن وفي كل مرة له التجربة والغاية، لذا أخذ يحفر في المنتج التراثي عند أجدادنا وأبائنا الأولين ، من الجاحظ إلى طه حسين، ومن خلال ذلك قام بتوظيف التراث في ضوء التجربة الحداثية وضمن الرؤية التحليلية التي تتمظهر في سردية حكاية سحارة منذ البدء حتى الختام، في صورة النقد إلى واقع الإنسان العربي عامة والخليجي على وجه الخصوص.
ومن التراث العربي أسهب في قراءة الواقع وتعمق في تقاطعاته، كما درس العصر الحديث ومدارسه ليقف على طرائق التعامل مع هذا الواقع وكيف يحلله ويؤوله، مما جعله يسكن في التراث من أجل زحزحة أغلفة الواقع وكشف الزيف المجتمعي.
لذلك وقف الغذامي في سحارته على فن الكذب، ذلك الفن الذي لم يحظ بتتبع لممارسته في الإبداع الفني، وانصب فعله في القول المسموع والمتناقل بين الناس في الأمكنة المختلفة.
استطاع الغذامي في هذه التجربة ان يقنع المتلقي بدور فن الكذب الإبداعي الذي يقدم اسقاطات على الواقع المعيش، ورؤية المعالجة أو ارهاصاتها, وقد اعتمد في الكتاب على ستارة من سبقة في هذا المجال من الكتاب العرب في مقدمة الكتاب ذاته ليعطي نفسه الحق في تناول هذا الفن.
إني في المقدمة طارح ماذكره المبرد في كتابه الكامل عن الأعرابيين اللذين كذبا بعضهما على بعض، فاذا ادعى الاول أنه حارب قطعة من الليل حتى انقشعت،, فالثاني رمى بسهمه ظبياً، ورغم حركة الظبي يمنة ويسرى إلا أن السهم أصابه, ثم يطرح ما أتي به طه حسين حول الجاحظ عبر مجموعة من التساؤلات التي كونها، وبدأ يطرحها وكأنها من نسيجع الجاحظ نفسه الذي يوحي بلغة القبول وإن لم نرض.
وإذا كان الكذب فناً إبداعياً تناوله القدماء، فإن كذب الأعرابيين يتوسط فضاء حياتنا اليومية المعاصرة، فلم نستطع الانفلات منه، بل وقعنا في أسره، أليس الإنسان بالعمل والتقدم التكنولوجي حول البقع السوداء المظلمة إلى صباح منير، ويستطيع أن يحول الليل إلى نهار والنهار إلى ليل؟ أليس المرء هو الذي صنع الصواريخ التي تقدر المكان والوقت والموقع وتتجه إلى الهدف لتصيبه مهما حاول الهدف الهروب منها؟ وهذا يؤكد أن متخيل الإنسان الذهني تجاه أي صورة تكاد تتسق مع الواقع أم لا، فإن تحولها إلى حقيقة امر محكوم بزمن الإنسان وتطوره، وإذا كان الكذب يحول ما نتمناه في يوم من الأيام إلى حقائق ماثلة أمامنا فنعم الكذب.
لقد أخذ الغذامي في سحارته يسرد حكايات عبارة عن مجموعة أوراق ورسائل يدعي انه رآها مرمية في سحارة في قارعة الطريق، كما كانت شخصيات النصوص التي تدعي هي الأخرى أحقيتها في هذه السحارة وتركتها، ومنها جاءت المقالات السردية في جريدة الرياض تفضح مكنونات هذه السحارة، غير أننا لا نرى السحارة في حقيقتها المادية، بل في تكون المتخيل الذهني عند الكاتب الذي راح ينظر إلى الواقع غير المرضى بالنسبة إليه، ليقوم بنقده تحت مظلة لغة فن الكذب حتى لا يقع في دائرة السؤال ويؤسس لنا لغة وفناً كنا ولا نزال نجهله إبداعياً في صورته الجمالية، وحين نمارسه نحصره في دائرة القيل والقال المتمثلة في نمط الحياة السائد، والمغلف بالكذب المعني بالنفاق في العلاقات الإنسانية.
من المجالات التي تحدث عنها ووجه نقده لها تلك الكتابات الشعرية المنتشرة في الصحف والمجلات، بل ركز نقده على تلك الدواوين التي ترسل إلى المطابع، وأكد أن هنالك كتابات شعرية تتصف بالشعر المعاصر ولكن تطغى عليها سمات الضعف والذوق المشين والفساد اللغوي الصارخ، بل تتكشف من قراءة هذه الأشعار الغرور الجارف عند أصحابها، وكأنه يدعو إلى محارب هذه التجارب التي قد تفسد الذوق العام وتهبط بالإبداع.
ويطرح بعض السلوك الأكاديمي في الحرم الجامعي عند بعض الأساتذة المتخصصين في متابعة طلبة الدراسات العليا، فهناك من يقف حجر عثرة في وجه الطالب، ويعرقل مسيرته التعليمية، فيقوم بتوجيه النقد اللاذع إلى الرسالة أو الأطروحة انظر : ص 20 ، ويوصف الغذامي أحد رجالات السلك الأكاديمي يعرف خفايا الأمور، ومهما كان فإن طالب الدراسات العليا يجب عليه الالتزام بقواعد البحث الشكلية والمضمونية، دون التعقيد والإغراق في الإبهام والغموض والتشبث بالمصطلحات سواء عند الأستاذ أم الطالب.
وفي ضوء العمل التربوي يواصل الغذامي سرد أوراق سحارته فيذكر دور المعلم والمدير والطالب في المدرسة، فضلاً عن الجوانب المادية والأبنية المكانية، حيث التأخير عن الدوام الرسمي في الدوائر والمؤسسات، ولا يقع الاختيار حين الترقيات على فعل المحسوبيات والعلاقات دون الاهتمام بالجانب العملي والإبداعي للإنسان.
يؤكد الكاتب أن في المدارس بعض الممارسات غير التربوية ينبغي معالجتها مثل: أهمية حرية الإبداع عند المعلمين والطلبة على حد سواء، ومدى تعلم الطالب المهارات الأساسية، وهل المنهج المدرسي يغطي مجمل المهارات الطبيعية التي يأخذها الطالب، أم هناك مجموعة منها تكون أعلى مستوى تعطي لمن تناسب قدراته؟ وهل المعلم يقوم بالدور المطلوب؟ أما دور المتابعة التوجيهية فالنقد وجهه إلى الطريقة المتبعة، فلا يزال التفتيش هو المسيطر على عقول المتابعين، لذلك تستعد المدرسة عبر المراقبة والترقب لأيه زيارة مباغتة انظر: ص 48 ، ودور المدير في أية مؤسسة تربوية, أما من حيث مسميات المدارس فيتساءل لماذا كل مدرسة للبنين تسمى باسم الذكور، وكل مدرسة للبنات تسمى باسم الاناث، وكأنه يطرح مفارقة في التعليم أو التعامل أو التوجه.
وينطلق الكاتب إلى قضية مهمة في ثقافتنا العربية، وهي الاختلاف وتقبل الرأي الآخر، أن ما نعانيه اليوم ولا ندري إلى متى يستمر وضعنا؟ وكيف ننقذ بعضنا البعض دون تجريح أو قذف، ونركز جل الاهتمام في النص وما يتمحور حوله، دون المساس بالشخصية الكاتبة، بمعنى آخر نجعل في حياتنا الثقافية والنقذية سلطة اللغة العلمية الموضوعية التي ترتكز على معايير التحليل لا على التأويل الشخصي والذاتي الذي يبتعد عن بؤرة الحوار وقضية البحث, وإذا عبر الكاتب في هذا الصددبمرض الاختلاف لأننا نتقبل الحوار من الآخر إذا لم يتعرض لأي معتقد أؤمن به، فإذا حدث العكس قامت الحرب بيننا دون مواربة، فهل نبدأ من ذواتنا ونقد ممارساتنا اليومية، ونعطي الآخر فرصة الحديث ونحترم الرأي حتى لو لم نؤمن به، هذا ما يتمناه الكاتب ونحن أيضاً،.
إن ما يقوله الغذامي في الشعر والتعليم والممارسات الإدارية، وتقبل الأخر أو عدم تقبله هي أمور نعيشها جميعاً على اختلاف المستويات والتخصصات والدرجات العلمية والعملية، ولكي نفهم هذا الواقع علينا أن نحارب أية ظاهرة غير صحية في حياتنا، حتى لا تبور الأرض ويفسد المجتمع.
* البحرين


رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

حفل توزيع جوائز مسابقة الجزيرة

منوعـات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

الطبية

مدارات شعبية

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved