متمسكاً بإرث حضاري عريق,, الفنان التشكيلي فايز عواض الحارثي أبو هريس حين تتحرك ألوانه بشفافية عذبة وثقافة أصيلة لترصد انسانية الانسان وفضاءات الحلم لديه,
إن المتتبع لتجربة الفنان التشكيلي السعودي فايز عواض الحارثي أبو هريس يلمس بوضوح تلك الجرأة والامكانية التي يقف عند ناصيتها هذا الفنان المتميز,, فما هو واضح من أعماله تناوله الجريء لموضوعاته والولوج في أعماق التراث، والموروث الشعبي والاستلهام من رموز ذلك التراث عناصر ومفردات لوحاته التي تأتي موزعة باسلوب مدروس يحقق له التوازن ويؤكد لديه القدرة على طرح رؤاه التشكيلية، ضمن حالة مشروعة من النهجية المعاصرة، ولاسيما وان التراث العربي الاسلامي يشكل مخزوناً فكرياً وبصرياً هائلاً يستطيع من خلاله الفنان المتمكن والقادر على التعامل معه على صياغة نصه التشكيلي الذي يحقق له الخصوصية ، والتفرد بين أبناء جيله، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية أن يكون هذا الفنان قادراً على مواكبة المشهد التشكيلي العربي خصوصاً، والعالمي عموماً,
كل ذلك تؤكده بجلاء الامكانية الواضحة لدى هذا الفنان في امتلاكه لأدواته الفنية، وقدرته على التعامل مع التقانات المختلفة لبناء المشروع التشكيلي الذي يحمل هواجسه الابداعية، ويعبر بالتالي عن الذات القلقة والمبدعة التي تسكن هذا الفنان,
من الواضح تماماً ان أبو هريس/ استطاع أن يطوع ذاكرته البصرية، وتلك التراكمات الثقافية التي شكلها المخزون المعرفي الذي يستند عليه، بالاضافة إلى تنامي الشعور الحقيقي والوجداني العميق بالانتماء للأرض المكان والبيئة الاجتماعية، وعلاقته بذلك التاريخ الذي استطاع أن يغوص في أعماقه ليستلهم منه، ومن علاقته الحميمة ببيئته، ليطرح صيغاً تعبيرية واسنانية تحمل في دواخلها عمق تجربته وتعكس أحاسيسه تجاه هذه البيئة التي استطاعت ان تنجب فنانين كباراً استطاعوا أن يقدموا الحقيقة للمشهد التشكيلي السعودي المعاصر بشكل خاص وليرفدوا الوطن العربي بفنانين يمتكلون مشروعية البحث والتجريب نحو تأصيل اللوحة كحامل فكري يستشرف من خلاله مدى التزام الفنان العربي عموماً والسعودي خصوصاً بشرقيته الدافئة ذات الأبعاد الانسانية الجميلة، والاهم من ذلك ان يكون قادراً على التعبير عن قضايا أمته وارهاصات الانسان المعاصر,
لقد استطاع الفنان التشكيلي أبو هريس من خلال بحثه الجاد والمستمر في تعميق رؤيته التشكيلية ونلمس ذلك من خلال تناوله لمواضيع انسانية وجمالية عبر صيغ تعبيرية ذات بعد انساني ووجداني، ولنقرأ من خلالها عمق الانتماء وضرورته، فكان الانسان حاضراً في مجمل أعماله، هذا الانسان الذي يشكل الركيزة الأساسية لبناء الحضارة التي نعتز بالتواصل والانتماء اليها,
إن رموزه ومفرداته,,, عناصره التشكيلية التي يبين من خلالها تلك الأعمال التي تتحرك فيها ريشته بكل جرأة تشدنا بقوة إلى حميمية المكان، فتقف عند مظاهر انسانية تعبر بوضوح عن الهم الانساني العام الذي نراه في تفاصيلنا اليومية,
إن وقفة متأملة أمام اعمال ابو هريس تشدنا إلى تلك الأيام التي وأدتها عجلات الحضارة الجديدة,, والتكنولوجيا المرهقة للانسانية,
بيوته العتيقة,, الأبواب والنوافذ,, ألوانه حين تتحرك على سطح اللوحة لترسم شيئاً من أحلام الطفولة، والألوان المستمدة من الأرض التي ينتمي اليها,, الشرق بكل عنفوانه ووجدانيته الألوان الترابية حتى تتمازج مع أزرق السماء وبنفسج الحلم، لتحمل صيغاً تعبيرية تؤرق هذا الفنان، وتدفعه بقوة إلى انتاج اللوحة التي تحمل في طياتها تقاسيم الصباحات، وتلتقط وهج الشمس,, وحين تتحول النقطة في أعماله إلى أشكال زخرفية تجريدية الهاجس تمتد باتساع عمودي حيث تتطلع إلى الأعلى دائماً حيث المسافة التي تتجذر فينا وتجذرنا في الأض، وتسعى طموحة لتعانق السماء في حالة صوفية مدهشة,
أشكاله الزخرفية المجردة حين تتحول الى خطوات تنهض باتجاه نقاء الروح وعظمة اللحظة,
تغتسل في نهر من المشاعر الانسانية الرقيقة والعذبة مجسدة بتطلعات وجدانية واشراقات نحو فضاءات اكثر رحابة وادهاشاً للواقفين تحت عباءة القلق اليومي وإرهاصات تلامس الواقع وتحاكي انفعالاته بمشاعر عروبية متدفقة وأصيلة,
وفي الجانب الآخر تقف متأملاً أمام مهارته الفذة في استخدام الخط العربي والحرف الذي يحمل دلالته الانسانية ليدخل في صميم اللوحة,, الهاجس,,؟!,
ولتقدمه لنا واحداً من أبرع الفنانين الذين استطاعوا أن يزاوجوا ويمازجوا بين الخط العربي ضمن صيغ تشكيلية له دلالات تعبيرية مختلفة وبين البيئة المكان أو الفضاء الذي يحلم هذا الفنان بالسفر من خلاله حيث الرؤية التشكيلية المعاصرة التي يدعمها بثقافة انسانية ووجدانية أصيلة تحمل في طياتها عمق الحضارة التي ينتمي إليها ويسعى جاداً للتواصل والاستمرارية من خلالها,
ولا يكتفي أبو هريس بذلك بل يبرز في جانب من أعماله بإنتاج اللوحة المحفورة التي تحمل احساساً غرافيكياً ناجحاً جداً، يقدم لنا من خلاله رؤيته لبعض الحالات الانسانية التي تشكل محوراً أساسياً في جميع أعماله، مدعماً اياها ببعض المقاطع الزخرفية ذات الاحساس التجريدي حاملة لنا أساطير وملاحم انسانية تقرأ من خلالها الكثير من تاريخ المنطقة وتستطيع ان تتعرف من خلالها على مظاهر الفروسية والقلاع الاثرية كشاهد حي على عظمة هذا التاريخ,
ولا أدل على ذلك من تلك الشفافية العذبة التي يتمتع بها هذا الفنان حين يخاطب المتلقي,, الطرف الآخر في المعادلة البصرية التي يسعى لتقديمها، فهو يبحث دائماً عن المتلقي الذي يحاول أن يعيش تلك اللحظات التي مر بها الفنان لإنتاج لوحته، لأن العمل الفني بالنهاية ماهو الا تلك التراكمات المعرفية والمخزون الفكري والبصري الذي تحمله ذاكرته البصرية، ومن خلال علاقة الفنان بتراثة وموروثه الشعبي ومدى التصاقه به,
والفنان أبو هريس لا يقف عند انتاج اللوحة الرسم نجاحاته اللونية المختلفة والمعالجات المتنوعة بل يعمل باجتهاد واضح على انتاج اللوحات النحاسية التي نقف من خلالها على التراث الفني والنوعي الذي يستلهم منه موضوعاته، ليقدم لنا صياغات معاصرة تبرز من خلالها امكانيته في التعامل مع هذا النوع من المشغولات، وبالتالي تشكل حالة من الاستمرارية في مشروعه التشكيلي، ودائماً المواضيع الانسانية والاجتماعية هي الحاضرة أبداً في أعماله ، أي أن لديه اصراراً واضحاً على تقديم اللوحة,, الحالة البصرية التي تطرح قيماً جمالية من خلال بحثه الدائم والجاد في ابراز العلاقات الانسانية ضمن صيغ تعبيرية تقترب كثيراً من التجريد، وتحمل لغتها التشكيلية الخاصة بها وبالتالي تشكل خصوصيته المتفردة في المشهد التشكيلي السعودي المعاصر، وتعمل على تقديمه كواحد من أبرز الفنانين التشكيليين الذين يحرصون على التواصل مع تراثهم وتاريخهم والاستمرار في بحثهم الجاد والموضوعي عن صيغ تشكيلية تحمل رؤاهم المعاصرة وتسعى بحرص ومسؤولية شديدين نحو تأصيل اللوحة وتعميق انتمائها دون أن ندير ظهرنا إلى ما ينتجه الغرب من نظريات وتقانات مختلفة نستطيع أن نستفيد منها لتقديم اللوحة التي تعبر عن التصاقنا الحميم بالبيئة ضمن الظرف المكاني والاجتماعي والانساني,
ولا ننسى ان نؤكد على أهمية المقولة التي قدم من خلالها الأستاذ طارق عاشور لتجربة الفنان التشكيلي فايز عواض الحارثي أبو هريس إذ يقول: من شعاب مكة وقمم جبالها تشمم تلك الزهرة الجميلة لتطل على وجه الكون تنشر البهاء والروعة من خلال أنامل صاغت التراث والأحاسيس الانسانية في لوحات نحاسية تشع بالمحبة والأمل,
وأنا هنا أود التأكيد على أهمية أعمال أبو هريس حيث تكمن تلك الأهمية في مقدرته على التعامل الجريء مع التراث العربي الاسلامي والاستلهام منه، والعمل بشكل جاد على التمسك بارث حضاري عريق وأصيل، استطاع هذا الإرث أن يتغلغل عميقاً ليشكل الهاجس المؤرق للذات المبدعة التي تعمل باستمرار لإنتاج تلك الأعمال، اذ ليس من السهل بمكان التعامل مع هذا الارث الحضاري إذا لم يكن الفنان مدعماً أصلاً بثقافة فنية وانسانية أصيلة ومسلماً بوعي فكري واجتماعي، ويدرك تماماً ماهي مسئولية الفنان التشكيلي الحقيقي، وماذا عليه أن يفعل تجاه تلك المسؤولية وكذلك هو الفنان النشيط والجاد,
فايز عواض الحراثي أبو هريس
أحمد صبحي