أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 30th March,2000العدد:10045الطبعةالاولـيالخميس 24 ,ذو الحجة 1420

مقـالات

الحج من الداخل:رؤية ميدانية وتأملات إيمانية
د, صابر حارص محمد*
فارق كبير بين ان تكتب قبل الحج وان تكتب بعده، وفارق كبير ايضا بين ان تكتب عن الحج من داخله وان تكتب من خارجه، فالكتابة القبلية الخارجية تنشغل فيها في المقام الاول بكيفية تأدية المناسك على الوجه الصحيح بأمل ان تكون من المقبولين عند الله سبحانه وتعالى، ولكنك قد تعي هذا جيدا وتفاجأ بصعوبة الالتزام والتطبيق اثناء الحج، فالكلام والتنظير والمعرفة بالأمور اسهل بكثير من تنفيذها في شكل سلوك وتصرفات وأخلاقيات,, وهذا ما يشعر به الانسان من داخل الحج.إذ ان الحج في مجمله تدريب ميداني وإجراء عملي على حياة ملائكية خالية من الذنوب والكبائر الا الملل، وحتى الأمور الصغيرة في الحج يُصبح اجتنابها طموحا يحاول كل حاج ان يصل اليه ولكن يبقى الانسان إنساناً حتى وهو مرتدٍ ملابس الاحرام وعالما بكل ما يقتضيه هذا الاحرام من تقوى وإيمان والتزام.واذا كان الاسلام جعل من الحج اعلى وأرقى زمان ومكان يلتزم فيه الانسان بعبادة ربه وتعامله مع العباد واخلاقياته معهم فإنه اراد بذلك ان يضرب مثلاً لأي مسلم على امكانية ان يعيش حياة الصالحين اذا اراد، وله في ذلك ان يقتدي بالحج موضوعا ومضمونا وليس شكلا ومظهرا فيما يتعلق بملابس الاحرام وغيره، وله في ذلك ايضا ان يسترد ويسترجع من ذاكرته روح الحج ليتمثلها ويعيشها في سائر ايام حياته.والحج وسيلة اعلام ثقافية، حيث تختلط فيه كل الأجناس البشرية باختلاف ألوانها وعرقياتها ولا يربط بينها الا رباط الاسلام والتوحيد، تتفاعل هذه الاجناس نتيجة التجاور في وسيلة النقل او في مكان النوم او في المسجد النبوي بالمدينة المنورة او خلال تأدية المناسك في مكة ومنى وعرفات ومزدلفة مما يؤدي الى تبادل المعلومات والآراء والانطباعات والعادات والتقاليد، بل يصل الأمر الى تبادل الواقع الاسلامي المعيش في كل بلد.ومهما اختلفت الثقافات او بالاحرى تنوعت الا ان مرجعيتها المنشودة من الجميع هي المرجعية الاسلامية، فالجميع يلتقي حول ما يُصحح العقيدة ويُنقي العبادات من البدع التي لحقت بها على مر العصور بسبب المغالاة او المبالغة في كثير من امور الدين ونحو الأنبياء والأولياء، ولقد احدثت الدروس والخطب التي ألقيت على مسمع ومرأى من الحجيج ردود فعل طيبة فيما يتعلق بكثير من الامور التي كانت محل اعتقاد خاطىء أو محل خلاف غير مقبول، فكثير من الاخوة الحجاج من بلاد عربية وغير عربية جاءوا وهم محملون بأمور بدعية يحسبونها من جوهر الدين، وكانت المفاجأة حين صحح العلماء والوعاظ مثل هذه الأمور، فالتضرع الى الله بالأولياء، او التضرع الى الأولياء مباشرة، أو التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، او ذكر الله بطريقة تختلف مع ما جاء به السلف الصالح قولاً وشكلاً وغيرها تُعتبر من الأمور التي يجب ان يتخلى عنها الحاج بعد عودته الى وطنه، بل يصبح داعياً للآخرين إلى ضرورة اجتنابها ومواجهتها بالموعظة الحسنة.ومن اختلاط الأجناس ظهرت مشكلة العامية والفصحى لتفرض نفسها على الساحة وتدعو المسلمين عامة الى إجادة الفصحى أولاً باعتبارها القاسم المشترك في الفهم والتعامل سواء بين العرب من بلدان مختلفة او بين العرب والمسلمين غير العرب فها هم الطلاب المسلمون الأفارقة من الصومال وكينيا وغيرها يخرجون للحج على حساب جامعة الملك سعود ويجدون صعوبة بالغة في التعامل معنا نحن العرب داخل حملة واحدة وفي مخيم واحد بسبب تعلمهم الفصحى والتعامل بها في الوقت الذي نتعامل معهم نحن العرب بالعامية.وقد أحسنت جامعة الملك سعود صنعاً حينما خصصت من ميزانيات انشطتها برامج حج للطلاب غير الناطقين بالعربية لتعكس بذلك احد الوجوه المشرقة لحكومة خادم الحرمين الشريفين في دعم المسلمين ومساعدتهم في التقرّب الى الله وتقريب الاسلام والايمان الى نفوس الشباب وطلاب العلم خاصة.وفي سياق العامية والفصحى أثار الطلاب قضية من اهم القضايا الثقافية واللغوية في مجتمع الخليج عموما ألا وهي تأثير عامية الهنود العربية على العاميات الاخرى للاجناس العربية، فأصبح العرب وغير العرب يتخذون من العامية العربية التي نحتها اللسان الهندي لغة مشتركة للتعامل والتفاهم، فتسمع )انت معلوم( أو )معلوم أنت( )ما في كلام(، )آخر كلام(، )تلاتة نفر( وغيرها من الكلمات والجمل المعروفة.والحج موسم تكثيف لأعمال الارشاد والدعوة المكتوبة والمنطوقة، فالكتيبات والنشرات من اهل الخير لا حصر لها تُوزع علينا في الطرقات والمخيمات، والدروس بالمساجد وأماكن التوعية كافية وشاملة,, ومع ذلك تجد من يتطوع من اهل العلم والفقه وأصول الشريعة سواء من المرافقين لحملات الحج من الداخل او من الخارج بالقاء الدروس الدينية يوماً بعد يوم، وكم سعدنا بالاستفسارات التي قام بتوضيحها فضيلة الدكتور عبدالله شحاتة بالمدينة المنورة، وكم اسعدنا ايضا جلسة العلم التي خصصها الشيخ حازم صلاح أبو اسماعيل ابن الداعية الاسلامي المعروف صلاح أبو اسماعيل صاحب الدعوة الملحة في مجلس الشعب المصري بتطبيق الشريعة الاسلامية.والحج اختبار حقيقي لموقف الانسان ومبادئه، فقد فوجىء صديقي بجامعة الازهر والمعار الى جامعة الإمام بفضيلة الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الازهر يصلي بالحرم النبوي يوم السادس من ذي الحجة، وطاف بعقله ان يستغل الزمان والمكان ليوافق له رئيس الجامعة بمد إعارته عاماً بعد انتهائها هذا العام، ولما اقترب صديقي منه وسلّم عليه أدرك انه في العشر الأوائل من ذي الحجة وأنه في أيام الحج فتراجع على الفور مدركاً أنه بطلبه هذا قد يحرم زميلاً له من فرصة الإعارة لأول مرة.والحج مشهد حي لجماعة او حملة تقوم بخدمة الحجيج ومساعدتهم في أداء المناسك، ولكن الواقع يفرق بين نوعين من حملات الحج، أبسطها ان تقوم حملة بكتابة اسم كل حاج على مقعده )بالباص( ومكان نومه بالفندق او الخيمة فتنضبط الامور وتتلاشى الخلافات بين الحجاج، وحملة اخرى لا تفعل ذلك وتترك الحجاج رجالاً ونساء كبارا وصغارا يهجمون على الخيام والباصات دون تنظيم وإرشاد.وعليك ان تتأمل الفارق بين الحملتين في امور اخرى كثيرة وجوهرية، منها على سبيل المثال: ان تكون او لا تكون هناك داعيات ومعلمات في مخيمات النساء تعلمهن اداء المناسك وتوعظهن بما يجب ان يكون عليه الحاج بعد حجه، ان يكون او لا يكون اطباء وطبيبات داخل مخيمات الرجال والنساء تسعف الحالات الاولية وتُنقذ الحالات الحرجة بالاتصال بمراكز الخدمة الطبية المنتشرة في منى، ان تكون او لا تكون حلقات علم ودروس وعظ وإرشاد قبل كل منسك من مناسك الحج، ان تكون او لا تكون خدمة اتصالية تتيح للرجال ان يتصلوا بعائلاتهم والعكس ايضا، ان يكون او لا يكون خدمة متميزة في نظافة الاكل والمخيمات,غير ان هذا لا يعني انصراف الحاج الى امور الدنيا لتشغله عن العبادة، والى امور الراحة والترف لتشغله عن صفات )الشعث الغبر( فإن ما يؤسف له ان يتباهى بعض الحجاج بمستوى الحملة التي يحج من خلالها في المسكن والمأكل والترف وغيره، فهو يتباهى بذلك بالابتعاد عن صفات من يباهي بهم الله ملائكته )وكذلك زُيّن للمسرفين ما كانوا يعملون(.ان الحكمة العليا من الحج هي أن يُطيع المسلم ربه ويذكره تأسيا بسيدنا ابراهيم واقتداء برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم من خلال حياة بدائية يقول فيها المسلم للمولى عز وجل سمعاً وطاعة لكل ما تأمرني به من خلع الملابس وارتداء الإحرام والامتناع عن التطيب واستخدام المنظفات وعدم الاقتراب من صيد البر والبحر، والاهم من ذلك سمعاً وطاعة للطواف سبعة وللسعي سبعة ولرمي الجمرات سبعة، سمعاً وطاعة لقضاء النهار بعرفة والليل بمزدلفة كل ذلك وأنت تعيش حياة بدائية يتحقق فيها قول الله عز وجل: )هؤلاء عبادي أتوني شعثاً غبراً أشهدكم أني قد غفرت لهم( ولماذا الاسراف في مواضع الاقتصاد والاقتار في مواضع الاحتياج )الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً(.نعم إن هناك إناساً تربوا في عيشة الترف، وآخرين أُترفوا على كبر ولكن كلاهما يجب ان يعيش في الحج حياة بدائية,, وهذه هي فرصتهم للاحساس بالآخرين ولذلك أحصى علماؤنا كثيراً من الأعمال الموازية لحج التطوع أو المفضلة عليه من أبرزها: بناء المساجد ودور العلم والمصحات والانفاق على الفقراء والمساكين ومساعدة المجاهدين في مختلف بقاع الأرض والمواظبة على صلاة الضحى وحضور حلقات العلم بالمساجد والعمرة والاعتكاف في رمضان ورعاية الأيتاموبعض المسلمين يقبلون على الحج وهم لا يدركون عظمته وأهميته ومكانته العالية في الدنيا والآخرة، يظهر ذلك جليا من قياس درجة الاستعداد النفسي والمعرفي قبل الحج، فالغالبية تهيىء نفسها داخل الباص وتتعرف على مناسك الحج داخل الباص وأحيانا بعد طواف القدوم وهو أمر خطير اذا ما قارنته - مع الاحتفاظ بالفارق شكلا ومضمونا - بدرجة الاستعداد النفسي والمعرفي للمناسبات الاجتماعية او الثقافية في الامور الدنيوية، وكم لاحظت على نسائنا وهي تنفق وقتا طويلا في زينتها حينما تكون بشأن احدى المناسبات السارة وكم نلاحظ على نسائنا ورجالنا الاستعداد المسبق للتحدث او المشاركة في ندوة ثقافية وغيرها، وكم كنت أتمنى ان يظهر هذا الاستعداد تقديرا لأهمية الحج، وأن الاسئلة التي دارت بيننا كانت تتجه في معظمها الى الاستطلاع والاستفسار اكثر منها الى التأكيد والتعمق,والاستعداد للحج ليس فقط بمعرفة اداء المناسك، بل بمعرفة الحكمة منها ثم الخروج من ذلك بأخلاقيات الحاج، ففارق كبير بين ان تؤدي المناسك وأنت تعلم الحكمة منها وتستحضر هذه الحكمة، وبين أن تؤديها دون دراية بذلك,, فالمؤدي فقط جسد بلا روح وشكل بلا مضمون وهو فارق بين عبادة العالم وعبادة الجاهل.فهل أدركنا أن الحكمة من الاحرام هي المساواة والعدل وان هذه القيمة الكبرى هي سبب لكل من دخل الاسلام او لم يدخله من العرب وغير العرب وإسلام أهل مصر ليس ببعيد حين ثاروا على كل الغزاة وطردوهم، بينما تقبلوا الفتح الاسلامي وتعايشوا معه.وهل أدركنا أن الحكمة من الطواف هي: اتجاه المسلمين من كل اتجاهات الكرة الأرضية بعقولهم وقلوبهم وأجسادهم الى الكعبة مركز تجمع العالم الاسلامي وقلب الاسلام في حركته وحيويته، وفوق الكعبة البيت المعمور، والمجال الجوي ما بين الكعبة والبيت المعمور له خصوصيته وقدسيته.وهل أدركنا الحكمة من خصوصية الرقم )سبعة( في الطواف والسعي ورمي الجمرات أليس هذا تذكرة بخلق السموات في سبع والأرضين في سبع وكأننا بطوافنا وسعينا قد طفنا وسعينا بالارضين السبع والسموات السبع.والأهم من ذلك هي أخلاقيات الحاج اثناء الحج وبعده، فإذا لم يتغير سلوكه الى الأفضل فيا خسارة لمن أتعب نفسه بالحل والترحال وإنفاق الأموال ومزاحمة الناس وقد سمع ابن عمر رضي الله عنهما رجلا يقول: )ما اكثر الحجاج فقال الركب كثير والحاج قليل(، فقد شاهدنا بعض الحجاج يمتطون الابل في )منى( ويلتقطون صورا تذكارية لهم وهم فوقها تشبُّهاً بأمور السياحة، وآخرين مشغولين بنقل مناسكهم للاهل والمعارف ساعة بساعة من خلال الجوالات، حتى وصل الأمر بأن يقول أحد الذين يطوفون حول الكعبة: أنا في الشوط الثالث ثم يحكي آخر عن مزايا )الفيزا كارت( ثم يناقش ثالث ما إذا كان سيكتب على بيته )لقد حج الى بيت الله وزار مسجد النبي فلان ابن فلان(، كل هذا يحدث اثناء الطواف المخصص لذكر الله، وأتموا الحج والعمرة لله يعني أن تكون كل مناسك الحج خالصة لوجه الله دون رياء ولا سمعة أو تفاخر.ومع ذلك كله فإن الحج موقف لأخذ العظة والعبرة وعدم التسرع في الحكم على الناس، فلا تكفي المظاهر لمعرفة حقائق العباد، ولا تعتقد ان الصالح يظل صالحاً على الدوام أو يظل العاصي عاصياً على الدوام، ولا تنخدع فتُقيم الناس بمراكزها في الحياة، فلا يعني ان يكون المعلم ملتزما لأنه معلم، ولا يعني ان يكون التلميذ متجاوزا لأنه تلميذ، وحتى الذين يشتغلون بالفن والطرب لا يعني بحكم مهنتهم أنهم فاقدو الحس الإيماني وليس أدل على ذلك من قيام عدد منهم بتأدية فريضة الحج هذا العام، وكان في مقدمتهم هاني شاكر وهو يرتدي ثوبا ابيض ويمسك بسبحة سوداء سعيداً بوجوده بالحرم النبوي.ومزدلفة موقف كما هو الحال بالنسبة لعرفة، ولكن العادة جرت عند الأغلبية تكثيف الدعاء والذكر في عرفة ثم ما أن نفر الحجيج الى مزدلفة انشغلوا بالنوم والسواليف رغم ان فضل يوم عرفة يمتد نهاراً وليلاً، والليل كله يكون في مزدلفة.وعلى نفس المنوال انصرفت الأغلبية بعد التحلل الأول أو الأصغر الى بعض أمور الدنيا والاحساس بالتحرر من شروط الاحرام متناسين أن يوم النحر أو يوم العيد هو آخر العشر الأوائل من ذي الحجة، وان أفضل هذه الايام خواتيمها قياساً على افضل الأعمال.ولعل عدم التنوّع في اشكال ومضامين العبادة هو الذي يجعل بعض الحجاج يميلون الى الهروب من الاذكار والدعاء للانصراف الى التسامر وأمور الدنيا، فعلى الحاج أن يتنقل من قراءة القرآن، الى ذكر الله بصيغ مختلفة، إلى الدعاء، الى التثقيف الديني، الى سماع الأشرطة وقراءة الكتب، الى صلوات الشكر وقضاء الحاجة، إلى خدمة الحجيج وخاصة كبار السن والأطفال والمرضى، الى مساعدة الآخرين بشكل عام، الى حضور حلقات العلم والدروس والخطب والمشاركة في طرح الاسئلة أو الإضافات الإيمانية.يبقى بعد ذلك كله أحد الثوابت الأساسية لحكومة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله في جل اهتمامها بخدمة الحجيج وتنظيم الحج ورعايتها الواضحة للأماكن المقدسة وزوارها، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم هذه الرعاية التي يعم خيرها على المسلمين جميعاً.*أستاذ الإعلام المساعد بكليات البنات

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved