أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 30th March,2000العدد:10045الطبعةالاولـيالخميس 24 ,ذو الحجة 1420

الثقافية

خطوات على جبال اليمن
استهوتني المهنة وسيطر حبها على كل عضو في جسمي، وجرت في عروقي، وكيف لي ان أمارسها؟ لم يعطل جهاز الراديو في مقهى العم مصلح مرة ثانية لأقوم باصلاحه، وشعرت برغبة شديدة الى التعلم اكثر من اصلاح خيط المؤشر، او بعض الاصلاحات البسيطة التي بالامكان السيطرة عليها، ولن أتمكن من ذلك الا بالعمل تحت اشراف خبير محترف، فأين لي الخبير المحترف في مدينة عتيقة تعيش على جذور الماضي البعيد، وحرفها تقليدية، لكن الامل سيكون في محل الحاج علي الذي اعتذر عن الحضور لاصلاح راديو المقهى، وقمت انا بإصلاحه تطوعاً مني، وبدون تكلفة تذكر، حيث جعل لي سمعة فنية لم اتقلد مسئوليتها بعد، ولكن كيف اصل الى الحاج علي؟ بالطبع اعرف محله الصغير، وقد مررت به عدة مرات القي عليه فيها السلام من جملة المارين، وهو يختلف عن غيره من اصحاب المحلات الاخرى، فهو لا يفارق المحل من الصباح الى الليل، وقد تكون هذه فرصتي للجلوس معه في الساعات التي لا يكون لي فيها عمل من بعد صلاة الظهر الى ما بعد العصر، حيث يقل رواد المقهى، ويقل العمل في غسيل الاواني, جمعت شتات شجاعتي، وذهبت الى الحاج علي، ودخلت عليه المحل، وكان منهمكا في إصلاح احد الاجهزة القديمة، وجلست بجانبه، كان رجلا ظريفا يغلب عليه الحرص الشديد، وحب المال، لكنه لا يحسد احدا يريد التعلم وكسب الصنعة, لاحظ مني حب العمل والرغبة الشديدة في التعلم، فلم يمانع من الانضمام اليه عاملا بدون اجرة على ان يعلمني كل اصول المهنة، ما اعرفه وما لم اعرفه، اضافة الى ايجاد سكن في المحل جزء من بيته، قال: اوافق على عملك معي بدون مرتب، مرتبك تعلم المهنة )امهنك( وتسكن في المحل، اذا انت موافق توكل على الله من بكره, هززت رأسي وقلت: موافق، وسأكون هنا من بعد الظهر غدا.عدت الى المقهى، واخبرت العم مصلح بعد المغرب، ان اليوم سيكون آخر يوم اعمل فيه في المقهى، فأنا اريد ان اتعلم مهنة تفيدني في مستقبلي، وقد وجدتها عند الحاج علي, فلم يمانع العم مصلح، وقال: هذا المقهى مكانك متى تريد وذهبت الى الشيخ صالح، اشكره على حسن الضيافة، واخبره انني وجدت عملا وسكنا فما كان منه الا ان دعا لي بالتوفيق، كان عملي محصورا داخل المحل، فالحاج علي يستقبل الزبائن، ويحول الى الاجهزة، ثم يأتي للقيام بإصلاح ما يصعب علي إصلاحه، وبعد مضي عشرة ايام كان يأتي فيجد الجهاز صالحا مهما كان نوع العطل، حتى وإن احتاج الى تغيير قطع الغيار ولان سكني في داخل المحل فقد كنت اسهر اغلب الليالي على إصلاح ما بين يدي من اجهزة تركها اهلها في المساء من ذلك اليوم، وكان المعروف عند الزبائن بقاء الاجهزة في محل )مسبر الروادي( ثلاثة ايام على الاقل, ولان حياتي صارت جزءا من الاجهزة فقد اكتسبت ثقافة سماعية من الاذاعات العربية عدا اذاعة لندن وأخبارها اليومية، فما عادت الاخبار تهمني كثيرا، لسبب واحد لا اعرف مصدره، ولا كيف يضايقني ولكني لا احب سماعه، ذلك ما تذكره وكالات الانباء عن )الحرب( وخاصة قصف الطائرات.احسست بكره الطائرات ولا ادري لماذا؟!,, كنت اخرج في بعض الاحيان، لاحضار بعض الاغراض الخاصة، فالتقي ببعض الزبائن فأخبره ان جهازه جاهز للعمل، فيستغرب هذه السرعة، وكان الآخر يستغرب دقة العمل، مما جعل الحاج علي يعرض علي الاشتراك معه في المحل، وكنت مترددا بين القبول والرفض، فالحاج علي رجل صناعة عريق ومعروف في كل ارجاء المدينة، وما كان يعرقل عمله الا قلة المساعدة، وعامل الوقت بين الاسرة والمحل، وقد وجد شابا ليس له ارتباط آخر غير العمل ليلا ونهارا، اضافة الى الاقبال الشديد على الصنعة، كانت الاعمال المتراكمة في المحل تقل يوما بعد يوم، وعدد الزبائن يزداد، وتكلفة الاجور تقل بسبب توفير الكثير من قطع الغيار باستبدالها من اجهزة تركها اهلها او معالجة بعضها بالتنظيف وإعادتها للعمل من جديد، وكنت اذهب بين الحين والآخر الى مقهى العم مصلح لمساعدته حينا وللالتقاء ببعض الاصدقاء الذين عقدت معهم صداقة من خلال العمل في محل الحاج علي، وتأدية بعض الخدمات لزبائن المقهى، وخاصة إصلاح راديو بعض السيارات لسائقي سيارات الاجرة، وكان البعض منهم يعرض اجرة الإصلاح فأرفضها من زبائن المقهى، فأنا احتفظ بفضل صاحب هذا المقهى وتعريفه إياي ببعض اصحاب العمل، ومعاملته الطيبة، فحياتي بدأت من هذا المكان، وصرت اخرج كثيرا بعد مضي شهرين او اكثر، اذا لم يكن في يدي عمل يقتضي البقاء في المحل، ولذلك تعرفت على معالم المدينة القديمة والجديدة، وعرفت انني في )صنعاء( مدينة تحتفظ بتراثها القديم وبأسواقها، وليتني اعرف من الماضي شيئا حتى استقرىء حاضرها على ضوء ماضيها، وعرفت انني صنعائي، مما استنتجته من اسماء الاصدقاء الذين يرتادون مقهى العم مصلح في )قاع العلفي( وكان يسمى )قاع اليهود( فيهود صنعاء كانوا يسكنون هذا المكان، ولهذا المكان بوابتان، واحدة من الجنوب والاخرى من الشمال، كانتا تقفلان ليلا فاليهود يخافون حتى وان كانوا في مكان آمن، ولكن هاتين البوابتين ازيلتا ليكون مكانهما شارع طويل هو نفس الشارع الذي يقع عليه مقهى العم )مصلح(,هذه المعلومات حكاها لي الاخوة في مقهى العمل مصلح، عندما كنت اسمع قولهم، هذا ذماري، وهذا ريدي، وهذا زبيدي، وتعزي، وبيضاني,, اي نسبة الى ذمار، وريدا، وزبيد، وتعز، والبيضاء,,, وغيرها.ولكن من اين انا؟ لو سُئلت لقلت )صنعاني( من القاع,, كنت ارى جبل )نقم( كل يوم فيذكرني بذلك الرجل الذي ذهبت بأمر من الحاج علي لشراء جهاز راديو قديم، كان هذا الرجل صاحب دكان في سوق )الملح( في صنعاء القديمة وصناعاتها التقليدية، وما أن جلست عنده وطلب لي كأسا من الشاي الاحمر، حتى دخل علينا رجل تبدو عليه سمات العلماء المعلمين، وطلب منه إصلاح جهاز راديو قديم، واعتذر الرجل بأنه لا يعرف إصلاح اجهزة الراديو ولكن سألني ان كنت استطيع إيصاله الى الحاج علي لاصلاحه، وله من الله الاجر والثواب، واشار بيده الى بناء عتيق امامنا وقال: هذه مدرسة الايتام، وهذا مديرها، إنهم يا ولدي يستمعون نشرة الاخبار من إذاعة )لندن( ليعرفوا ماذا يدور في الدنيا، وهم قسم داخلي )جاءوا( من جميع محافظات البلاد,, فقلت له: حسنا، ناولني إياه، ففتحه، وإذا باحدى التوصيلات الكهربائية في داخله قد قطعت فامتنع وصول التيار الى الجهاز وطلبت منه احضار قطعة سلك كهربائي، وقمت بإيصالها عن طريق اللحام الذي يستعمله في صناعة )الخناجر( جمع خنجر, واشتغل الجهاز، وكانت فرحة المدير وصاحب المحل لا توصف، مما حدا بهما الى عرض اجرة الاصلاح، فرفضت، وقلت لهما أليس هذا للايتام، يستمعون منه اذاعة لندن,,؟ قالا,, بلى,, قلت إذن هي صدقة,, قال المدير,, صدقني يا بني )وكان يتكلم اللغة العربية الفصحى( ان كل المصلحين قالوا: ليس فيه امل، وما بقي الا الحاج علي,, تركنا المدير وذهب يحمل جهازه فرحا، التفت الى صاحب المحل قائلا: انت تشتغل في محل الحاج علي، ومهما يدفع لك من اجر فلن تستفيد بالقدر الذي لو فتحت محلا بنفسك، فأنت إنسان بارع في الصناعة، فلماذا لا تفتح محلا يكون احسن لك من العمل بالاجر )المصاباة(, التفت اليه، وقلت له: اولا انا لا اعمل عند الحاج علي بأجر، اتفقت معه على السكن وان يعلمني الصناعة فقط, دهش الرجل وقال: كم صار لك من الزمن وانت تعمل معه؟! اقصد، كم سنة؟ ابتسمت ابتسامة خفيفة، وقلت: هذا هو الشهر الرابع, نظر الي بدهشة اخرى، وقال الحمد لله وقطع الحديث زبون دخل المحل يسأل عن حاجاته.
د, سلطان سعد القحطاني

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved