أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 3rd April,2000العدد:10049الطبعةالاولـيالأثنين 28 ,ذو الحجة 1420

الثقافية

السيرة الذاتية: الحدّ والمفهوم2 3
أحمد علي آل مريّع *
أما الاتجاه الثاني: فإنه لا يأخذ في الحسبان المتن الأدبي لفن السيرة الذاتية عند تعريفها، ولكنه يعتمد على ما يسمى ب العقد الأُوتوبيوغرافي أو ميثاق السيرة الذاتية ويقف على رأس هذا الاتجاه الناقد الفرنسي المعاصر فليب لوجون حيث يقترح تعريفاً عاماً للسيرة الذاتية ينطلق فيه من موقفه وبصفته قارئاً وهو الموقف الوحيد بتعبيره الذي يعرفه عن نفسه جيداً, والسيرة بهذا المفهوم كأي عمل تعاقدي يتم بين مستهلك القارئ ومنتج الكاتب وتستقي مادة العقد وصيغته من عنوان العمل أو من مقدمة الكتاب أو قرائن أخرى كالناشر أو الشهود أو القرائن المختلفة، ولذلك فهو يقترح في كتابه السيرة الذاتية في فرنسا 1971م حداً للسيرة الذاتية ثم يعود ليعدل فيه تعديلاً طفيفاً في كتابه ميثاق السيرة الذاتية ط 1 1972م/ط2 1975م ليصبح الحد في صورته النهائية على النحو التالي:
حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة, ، وقد كان للحد الذي اقترحه فليب لوجون أثره في الدراسات التي اهتمت بالموضوع، وقد أصبح حداً قلما تخلو منه دراسة تتناول هذا النوع الأدبي.
وللأمانة العلمية فإن لوجون قد تراجع مؤخراً عن هذا التصور وأعلن ذلك في نقد ذاتي بهذا الصدد نشره عام 1986م، انتهى فيه بعد جدل فلسفي إلى أن السيرة الذاتية ليست مجالاً ضيقاً أو محدوداً، بل هي: نوع يدفع إلى الانفتاح على مجالات عدة، فكل نص يبدو أن مؤلفه يعبر فيه عن حياته واحساساته.
مهما كانت طبيعة العقد المقترح من طرف المؤلف سواء أكان العمل رواية أو قصيدة أم مقالة فلسفية فهو سيرة ذاتية ما دام قصد فيه الكاتب بشكل ضمني أو صريح إلى رواية حياته أو شيء منها وعرض أفكاره أو احساساته, وبذلك تقترب السيرة الذاتية عند لوجون باعتبار التصور الأخير من المعنى الذي قصده فابيرو في كتابه المعجم الكوني للأدب 1976م ، تصبح نوعاً أدبياً عاماً قابلاً لاحتضان عدة نصوص بدءاً من روسو ووصولاً إلى أفكار باسكال أو خطاب المنهج لديكارت وغير ذلك, وإذا كان لوجون فيما سبق قد اتجه نحو توثين السيرة الذاتية، بصفته ملتزماً بمبدأ التطابق إما أن يكون أو لا يكون، لا وجود لدرجة ممكنة، وكل شك يقوم إلى نتيجة سلبية ، أو كما جاء في موقع آخر من كتاب مثاق السيرة الذاتية: لا تحتوي السيرة الذاتية على درجات,, إنها كل شيء أو لا شيء فإنه يمسي اليوم بتصور مغاير لما كان يعتقده، فيما سبق، يقول: لقد اصبحت ديمقراطياً،أصبحت أهتم بحياة الجميع وبالأشكال الأكثر بدائية، والأكثر انتشاراً أيضاً لخطاب السيرة الذاتية .
وليس الباحث في حاجة أن يؤكد: ان مكمن الخلل في كلا التصورين يعود إلى المغالاة فيهما من جهة وفصل كل منهما عن الآخر عند التأسيس للإطار التوصيفي, فحين فطن لوجون إلى خطأ الاعتماد على ما أسماه ب العقد الأوتوبيوغرافي فحسب فرَّ دون وعي إلى النقيض فارتمى في غيابة المتون الأدبية العامة التي تبحث في الذات الإنسانية أو تؤرخ لها، أو تستصحب تجاربها وتعبر عنها، أي: أنه خرج من حيث لا يدري عن مفهوم السيرة الذاتية إلى مفهوم الذاتية بمدلولها الواسع الفضفاض، وهذا الفضاء الواسع يستعصي على التأطير والتحديد، فما من عمل مهما صغر أو كبر يخلو من ذاتية كاتبه إن لم يكن على مستوى التجارب اليومية والأحداث والعلاقات والشخصيات، فعلى مستوى اللغة والخيال والإحساس والأماني والأوهام والأحلام والأفكار وغير ذلك.
ولكن ليس كل عمل نشم فيه ذاتية صاحبه، أو نجد فيه شيئاً من سيرته وواقعه، أو بعض مشاهد من حياته أو فكره، وموقفه من الناس والحياة يصح أن نسميه سيرة ذاتية، كما انه ليس كل تأريخ للذات أو بحث في محيطها يكتبه صاحب الشخصية ليبرز فيه دوراً لها أو جانباً من جوانبها أو ليصف بيئة عاشها أو ظروفاً كابدها مع أبناء جيله يصح ان نسميه سيرة ذاتية ، إذ السيرة الذاتية مصطلح يجب أن يبقى له احترامه وخصوصيته فلا يطلق إلا وفق ضوابط معينة، تتفق مع معناه والغاية الأساسية منه.
فما السيرة الذاتية؟
وقبل ان نشرع في الاجابة على هذا التساؤل المهم يجب ان نقف وقفة أمام أنواع أدبية تلتقي بفن السيرة الذاتية في بعض الخصائص وتختلف عنها في خصائص جوهرية أخرى، وتلتبس بها في استعمال كثير من الباحثين، مما جعلها اشكالية في سبيل التوصل إلى وصف دقيق مجمع عليه للسيرة الذاتية، حيث يظهر الخلط الواسع في استعمالها بصفتها مصطلحات تتناوب في الدلالة على بعضها أو في الدلالة على فن السيرة الذاتية أيضاً.
وتشكل هذه الأنواع الأدبية فيما اعتقد سبباً مباشراً لاضطراب التصور في كثير من الدراسات المعاصرة، وعائقاً دون اكتماله ودقته، ويحاول الباحث أن يشير إلى تميز كل نوع، وينبه على بعض الفوارق الجوهرية بينها مفيداً من الدراسات التي عُنيت بهذا الجانب أو بعضه، ومعتمداً في جوانب أخرى على الأعمال نفسها التي تنتمي إلى هذا الشكل أو ذاك, أما هذه الأنواع فهي:
الاعترافات، الذكريات، الرسم الذاتي، المذكرات، اليوميات،المفكرة اليومية، أشكال أخرى: الفوجا الذاتية السيرة الجزئية الرسائل الشخصية الرحلات النصائح والوصايا .

1 الاعترافات: Confessions
لون أدبي لصيق بفن السيرة الذاتية يروي فيها المؤلف مواقف نفسية أو عاطفية لا يعترف بها واضعو الترجمة الذاتية عادة لأنها تجارب أو أحداث لا يود المرء أن يطلع عليها أحد حتى أصدقاؤه المقربون وتنبع قيمتها من كثافة الصراع داخل نفس صاحبها , والاعترافات تكتب أحياناً بأمانة في حين أنها تحوي في أحايين أخرى رسماً للصورة التي يود المرء ان تكون عليها الأجيال القادمة, وقد تحولت الاعترافات من عنوان عادي استعمله القديس أوغسطين إلى فيضان لدى الكتاب الرومانسيين من بعد روسو, وقد استمرت الاعترافات بالظهور وبخاصة في الغرب مثل الاعترافات الخيالية المعروفة ب الاعترافات الحقيقية، التي تنشرها صحف ومجلات الإثارة ، وبالاعترافات الحية المباشرة عبر شاشات التليفزيون حيث اعتادت محطات التلفزيون ولاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية، على بث برامج الاعترافات المثيرة التي تتحول أحياناً إلى مشاهد درامية تراجيدية ينفجر فيها الشخص الذي يُدلي باعترافه أمام الكاميرات باكياً في نوبة نحيب وعويل، حتى كبار النجوم ، ووصل الأمر إلى مقدمات البرامج فأخذن يشاركن في الاعترافات بشيء كبير من الهمجية وعدم المبالاة والوقاحة، وهم يعتقدون بأن هذه العملية عملية تطهير وعلاج للنفس المثقلة بالآلام والذنوب, ويطلقون على هذا الأسلوب في التخفيف من المعاناة التي كابدوها تعبيراً شعبياً شائعاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو: الخروج من الخزانة أو من داخل الدولاب Cetting out of the closet .
ولا شك أن هذا الأسلوب العاري من الاعترافات، إنما هو امتداد لما اعتاده النصارى في ملّتهم من الاعتراف أمام الكاهن أو القسيس بما يجترحونه من السيئات والذنوب وما يقعون فيه من الآثام, وعلى كل حال فإنه ينبغي لنا نحن المسلمين ان نعتدل في نظرتنا للاعتراف، فنشذبه بما يخدم غايته الإنسانية ولا يخدش الحياء أو يمس ما عُلم في ديننا بالضرورة ونقبل منه ما لا يدعو إلى فحش أو منكر أو يروج له.

2 الذكريات: Recollections/ Reminiscence
يستخدم في الغرب مصطلح الذكريات للدلالة على الذكريات المتفرقة والمتناثرة، التي يعتمد فيها صاحبها على الاستعادة المباشرة من الذاكرة دون الرجوع إلى وثائق معدة أو مكتوبة تعاضد عملية التذكر، وتنفي عن المادة المتذكرة آثار الزمان وتشويهات الذاكرة والنسيان.
وكاتب الذكريات يُعنى في الغالب بتسجيل الحياة العامة، أكثر من عنايته بتسجيل حياته الخاصة, وليست عنايته منصرفة إلى الأفكار والحالات الشعورية، لكنها منصرفة إلى المجتمع والشخصيات والمشاهد والأماكن, وصاحبها يُبدي كثيراً من الملاحظات، التي كثيراً ما يتاح للقارئ الوقوف عليها ومشاركة كاتبها دون أن تتهيأ له معرفة المواطن المخبوءة في وجدان الكاتب، ولذا كانت الذكريات أقل أنواع الترجمة الذاتية حظاً من حيث تمثيلها لكاتبها، فهي تحجب أفعال كاتبها وشخصيته، ومن ثم فإن قيمتها الأدبية أدنى من تلك التي تحظى بها المذكرات Memoirs , والذكريات كثيرة الشيوع في أدبنا العربي، ويعلل لذلك الحيدري قائلاً: إنه من النادر أن يحتفظ أحدنا بسجل دقيق لحياته حتى أصحاب الشأن منا، ولهذا نجد أن سير المحدثين من الأدباء والمفكرين العرب وذكرياتهم مبنية في الأغلب الأعم على تذكر الأشياء بعد عقود من حدوثها أي بعد دبيب الوهن في خلايا الذاكرة، بحكم تقدم السن .
ومن أمثلتها ذكريات كارليت وذكريات وليم مشيل روزوتي وذكريات عارية للسيد أبو النجا، وذكريات روز اليوسف، وذكريات شكري شعاعة، ومن ذكريات الفن والقضاء لتوفيق الحكيم، وذكريات لا مذكرات لثروة أباظة، وفي الأدب السعودي: ذكريات طفل وديع لعبدالعزيز ربيع، وذكريات العهود الثلاثة لمحمد حسين زيدان.

3 الرسم الذاتي / المقالة الذاتية التصويرية المقفلة: Auto Portrait:
ابتكر مصطلح الرسم الذاتي في فرنسا في بداية القرن العشرين، والذي يظهر لي أنه استعمل للدلالة على ما يمكن أن أُسميه بالمقالة الذاتية المقفلة حيث تقدم فيه الشخصية في جانب واحد، أو جوانب بسيطة خلال مدة زمنية محددة، أي: انه وصف مرحلي جزئي لا يتسم بالشمول ولا الامتداد الزمني، لذلك فالشخصية تبدو من خلاله شخصية ساذجة بسيطة مهما بُولغ في رسمها وتعقيدها بالوصف، لأنها تفتقر إلى النمو والصراع والامتداد الزمني، وقد أسماه الباحث هنا بالمقالة لأنه يتلبس هذا الجنس من القول حين يخرج إلى الناس، ونعتُّه بالذاتية والتصويرية لانه يجنح إلى الوصف والتصوير، ويمتح مادته من الذات التي يحملها الكاتب ويحاول وصفها دون اعتماد على مصادر أخرى.
وقد احترزت بكلمة المقفلة من المقالات الذاتية التصويرية التي تكتب على فترات زمنية متباعدة، ثم تجمع بعد ذلك حسب تسلسلها الزمني فتسري بينها روح توحدها وتجعلها كالأعضاء المختلفة من الجسد الواحد كما في أنا للعقاد، وهي أقل من السيرة الذاتية حيث تكتفي بتصوير شريحة واحدة أو شرائح قليلة في موقف من المواقف، وأبرز كتابها هم عبدالعزيز البشري وأحمد أمين وطه حسين ومحمود تيمور والمازني.
ويمكن أن نمثل للرسم الذاتي أو المقالة الذاتية التصويرية المقفلة بمقالات الطنطاوي المجموعة في كتاب بعنوان من حديث النفس وبمقالات أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري المجموعة في كتاب بعنوان تباريح التباريح وقد كتبت هذه المقالات في مراحل زمنية متباعدة، وهي في مجملها تصور الذات في جانب من جوانبها دون المساس بجوانب أخرى، وكل من هذه المقالات عبارة عن كيان مستقل مقفل، لا يرتبط بما قبله أو ما بعده برباط وثيق, ولم أقع على مصطلح الرسم الذاتي إلا عند فليب لوجون وقد استعمله في موضعين وفق النص المترجم، والذي قام باعداده الأستاذ عمر حلي.
يتبع
*محاضر كلية المعلمين أبها

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved