Tuesday 11th April,2000 G No.10057الطبعة الاولى الثلاثاء 6 ,محرم 1421 العدد 10057



الغيث
سحر الناجي

* دمعة مرة ما تنزلق على وجهي,, دمعة كنصع الصفاء,, باهرة,, بلورية، لها وهج يشرق على الهدب وجانب الشفة,, وفي طرفها يمتد خط دقيق من الجفن حتى حافة الأنف,, حيث يتجعد الثغر وجوما بنحيبه,, نحيب تصطلي به الحنجرة بدمعة بوهيمية راحت تستقر للحظات على حافة ذقني ثم سرعان ما تفقد توازنها وتنسحب الى عنقي.
أجل,, اظمأ الى احلامي الهاربة في عتمة الليل البهيم,, كي امتطي جموحها واحلق في فضاءات لامتناهية، أظمأ,, وأعض على شفتي حسرة، قد يرشقني الدمع ببعض البلل الذي تشتاقه اعماقي، ولعل جفاف حلقي ينتهي، آه,, لو ينتهي فتذوي آلامي,, مع كل هذه الامنيات الطيفية,, غالبا ما ينتفخ قلبي بخلجة تسحقه,, رعشة ألم مفاجئة تجعلني انكفىء وامدد أصابعي على مساحة صدري المنقبض لأربت على عنفوانه قليلا,, على حدته تسكن وتهدأ.
بالقرب مني، كانت القطة الرمادية تقفز بحركات مجنونة,, تمدد جسدها السمين على بلاط الباحة، ثم تتدحرج نحو البوابة الى ان يصطدم رأسها بالحوض الذي يلملم اعواد الحبق وشجرة اللوز الباسقة,, وعلى مرمى حدقاتي تشكلت سحب في وجه الليل بدت كثيفة على غير عادتها,, لكنها هناك تتكوم كالاهوال، وفي اقصى الحديقة تدلت الكروم مظللة المكان بسقيفة خضراء كان يتعلق بين قطوف العنب فيها قفص كبير للبلابل.
القطة الآن تصل الى ركن الحوض الآخر وتحدق برأسها فيما تتمايل الاغصان الورافة لشجرة الليمون,, ترقبها قليلا,, ثم تتحفز لقفزة اخرى، لو كانت طفلتي هنا,, لربما هرعت وراء القطة تركلها وتضاحكها,, لربما احتضنتها ومسدت على فرائها، لكن ابنتي رحلت واختفت بعدها الضحكات، ظلت الطرقات المقاربة لبيتي صامتة,, والعيون المكتظة بالفضول,, عارية من السؤال,, عيون ترمقني بدون نظرات,, عيون واشياء حدثت فيما مضى.
دمعة اخرى تلوح على حواف اهدابي المرحة,, تدفعها غصة تمركزت على حنجرتي، فتسرع الدمعة الصغيرة منحدرة لتلحق بسابقتها، صور تظهر وتهب بين هشيم عبراتي، ومع انطلاق احداقي الى الناحية الاخرى,, يتراءى غمام ساطع ومتشظ بين عيني نتيجة لتجمع القطرات، ثم لا تتوانى مني ان تهوي جميعها بسيل متلاحق من الدموع.
دائما ما يداهمني المشهد الذي رحلت خلاله وعد ، كهل صارم يدق بابي بعد منتصف الليل ويختطف قلبي، كانت طفلتي في الاسبوع الأول من عمرها,, وكانت قدماي لا تقدران على حملي من آلام المخاض الرهيبة,, لذا لم استطع المقاومة,, نظرت اليه بوهن وباستمرار كان صوتي يتسلل بلا نبرات، وحتى أؤخر مساعيه حبوت موجوعة القامة التي كانت تنبض بجرحي نحو الباب,, أذكر صراخ طفلتي,, وكيف كان الكهل يتطلع الي في شماتة,, اذكر وجوه الجيران التي تلصصت من النوافذ والشرفات,, اذكر حتى إغمائي، ومنذ غياب وعد وحتى الآن ما زلت ارزح تحت وطأة العذاب التي ظللتني بالاسقام.
قلبي ينتفض بالألم ثانية ولا استطيع ان اتنفس، عند هذا الحد من الوجع أجهش ببكاء قصير مع احتراق في جوانب رأسي ,, ثم لا ألبث ان اتماسك متراجعة بجسدي الى الوراء,, التقط الهواء النقي ببطء ,, فله طعم الحياة,, وما يصبغه من اكسير وحلاوة للبقاء,.
الأشياء التي غافلتني من قبل، تتضح مرة اخرى وبجلاء,, فهي لم تبارحني أبدا بل ما زالت مستلقية على ذاكرتي، ولكن الحنين يوعز لي بتلقف صور مغايرة لابنتي,, الكهل قد تصبح شبيهة به,, هذا ما يحوم في خيالي اللحظة,, هل تسأل عني الصغيرة!,, ربما يقال لها روايات غريبة عني,, ربما يقنعونها بموتي,, اجل,, هذا ما يكون من شأن الكهل دوما,, ولكن,, أتراها ترسم لي طيفا في قلبها,, أتراها تبادلني الحنين؟,, أندس عبر وحدتي ساهمة، وأعرف مسبقا الى أين أتجه,, بداية حكايتي التي خطوتها في الرابعة عشرة من عمري بيت متداعي البناء يضمني وأمي التي تطالعني بغضب,, وذلك الزائر الذي جاء الينا بعلب مزركشة,, وحلويات,, وسكاكر، زائر فظ اشيب الرأس والضمير، كان يساوم أمي على شرائي ليضمني الى بقية نسائه,, وفي ليلة دهماء امتدت لأشهر طويلة,, تزوجت الكهل حتى استطعت الصمود امام قسوته,, كنت اتخيل اليتم اللا إرادي لفتاة مثلي ثم انظر الى بطني الذي بدأ يكبر حجمه، وفي الظلام أظل متيقظة تداهمني كلمات أمي النابية: أطيعيه فهو زوجك وملاذك الآن .
وفي مرات متتالية تصرخ في وجهي من عمق الخيال دعيني احيا غدي,, فبسببك حرمت نفسي من الزواج، وكانت تأتيني في النوم، تنطلق نحوي وتتدافع بثوب زفافها الابيض حتى تصفعني بقسوة: اياك ان تفكري بتركه,, فلن يعولك بعده احد .
وأحيانا تغيب عني لليال طويلة، ثم لا تلبث ان تظهر لي مع زوجها ضاحكة وسعيدة,, لكن قسوة الكهل فاقت كل توقعاتي، فعندما كنت اغط في نوم عميق ذات ليلة، جاءني مشتعلا يمارس حنقه علي، كان يدنو مني,, وتقترب يداه من رأسي,, فرحت اجوب الحجرة فزعة واصرخ متملصة من يديه الباحثة عن لطمي وفي احشائي وعد تنتفض وتتحرك بعنف مستاءة، حتى ينهال علي الكهل بضرب مبرح حيث تندلق دمائي ويتورم وجهي وحيث أصحو على كدماتي ورضوضي راقدة في سرير ابيض بين جدران المستشفى الكبير.
كل مرة يحدث لي ذلك، غير اني في المرة الأخيرة قاومت الكهل وتركت له القصر فارة الى منزل أبي المظلم,, فقد تداعى جلدي امام التجبر الملعون، وعندما حانت ساعة الولادة ارسل لي من يهتم بأمري، ثم على غفلة مني همس بعد الولادة يتوعدني: أعدي العدة ايتها العنيدة، فلن تري ابنتك ابدا بعد أيام .
كنت ارمق محياه لأتيقن من حقيقة نذيره، فاذا به يقهقه على مبعدة ويقذفني بجملة حارقة: أسمعت ايتها المتوحشة الصغيرة,, لن تري ابنتك ابدا .
لهفتي ظلام آخر يظلل ما تبقى من احتمالي,, ظلام يتمدد ويتسرمد مع اشتعال الأمل في نفسي,, مع هاجس يراودني بلقاء وعد ، وكلما تملكني الأمل وسطا,, ادركت ان المستحيل واقع قد يتحقق، لذلك,,
ما ان نظرت الى السماء المكفهرة، حتى دوى صوت الرعد يتبعه هطول الغيث، كان ثمة غيث من نوع آخر ينسكب من عيني,, غيث الدمعات التي غسلت اوجاعي,, لذلك خلدت الى النوم مطمئنة بعد ساعات,, فرأيت وعد باسمة في منامي,,!
رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

لقاءات

منوعـات

نوافذ تسويقية

القوى العاملة

تقارير

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved