أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 4th May,2000العدد:10080الطبعةالاولـيالخميس 29 ,محرم 1421

الاخيــرة

نعمة الصبر
إلى من ينحنون وينحتون الصخر استعداداً للامتحانات هذه الأيام
فوزية ابوخالد
أتذكر أن تلك المرأة الرمحية الباسقة نادتني يوما من ايام طفولتي وقد كنتُ أمر بموقف عصيب على قدم واحدة إذ كانت بيديها الرقيقتين قد حزمت بقسوة على قدمي الأخرى كيسا من الرمل, نادتني لا لتهدهدني أو تضع رأسي على حجرها الفواح دائماً برائحة الحناء، ولكن لتقول لي أقدمي وتعالي خذي ما بيدي سيساعدك كثيراً على ما تمرين به وستستطيعين ان تصلبي عودك دون توكؤ, وعندما تحاملتُ على نفسي بصعوبة وألم وبعد عناد وجئت اليها بوجه يقطر دموعا ومخاطا، كانت السيدة السدرية لاتزال تقبض بملوكية على ذلك الشيء العزيز الغامض في باطن كفها, وحين قربتُ يدي الصغيرة من يدها رفعت اصابعها السنابلية ببطء شديد وتركت اصابعي تندس في كفها وهي تقول بسخاء خذي انهلي من نعمة الصبر, ومع ان يد أمي كانت تبدو فارغة إلا أنني طفقت أغرف وأغرف وأغرف حتى امتلأت جيوبي واحتقنت شرايين دمي وبدأت تقطر اطراف ضفائري بماء ذلك السائل السحري الصلب سحر الصبر الذي جعلتني أمي اقبض عليه بحواسي الخمس في قبضة كفها الطائبة.
كانت تلك المرأة النخيلية، كلما شبت نار شحنة الاشقاء وشقاوات الطفولة بين الإحدى عشرة عفريتة أو كلما عيّ صبرنا من أمر استعصى على أحدنا في حل مسائل الرياضيات أو في تسلق شجرة النبق، تهمس لنا بحسر الصبر في صور جديدة أكثر خيلاء من سابقيها, كأن تقول انتم جيل يجلس على مقاعد الدراسة سبع ساعات، ينحني على الورقة والقلم نصف ساعات صحوه الا يكفي هذا لإكسابكم نعمة الصبر, هذه النعمة التي بدونها لم يكن للبشرية ان تنعم بانجاز حضاراتها.
كانت تشير بشاهد اصابعها السنابلية نفسها إلى بناء الكعبة المشرفة وتقول لي فكري كم بين حجارته من صمغ الصبر رغم انه لم يكن لينهض بدون الإعجاز الإلهي.
كانت تمعن في تفاصيل الصبر وحلب اخيلته من وحش الحياة اليومية العادية، فتشير مثلا الى رغيف الخبز, الى عنقود العنب الى لؤلؤ الرمان الياقوتي وتقول لي اطعميه تمعني في الطعم، لو اصغيت للمذاق قليلاً فإنك ستسمعين، تتذوقين وتلمسين مذاق ونكهة الصبر خالصة مصفاة واضحة وشفافة من بين كل مكوناته الطبيعية الأخرى, خذي شمي رائحة الصبر تتضوع من هذه القارورة أو تلك الزهرة, امسكي باصابعك العشر ملمس الصبر في هذه البلوزة الصوفية المشغولة باليد, تسألني بمرح تلك السيدة النافذة البصيرة، إذا تحركت حافية على تلك السجادة العجمي بصدر مجلسنا العربي: هل احتكت قدمك بحرارة الصبر تنضح من العيون التي فتلت خيوطها؟!
في مراحل عمري اللاحقة، في الامتحانات النهائية لمرحلة الثانوية العامة، عند إعدادي لكتابي الشعري الأول قبل ذلك، حين كتابتي لعمودي اليومي (قطرات) اثناءها كنتُ اهرع الى كف أمي وأنهب ما وسعت يداي من تلك الوصفة السحرية التي لاتفرغ اصابعها من غزلها ولا تتوقف روحها عن تقطير رحيقها.
اما في حملي البكر وما بعده فقد تطور إحساسي بنعمة الصبر من هاجس متخيل الى علاقة عشقية يومية أرى الصبر معها رؤيا العين أصحو وأنام معه كلما تحرك الجنين في أحشائي, بدون نعمة الصبر، سحر الصبر، سلسبيل الصبر ومره لم أكن لأستطيع الصمود تسعة اهلة بوهن على وهن أصفح عن حيادية آدم في عذابات الحمل والولادة واتباهى بآلام الانوثة.
في نقاش حميم حول نعمة الصبر بعد ان كتبت هذا الموضوع لفت بعض من الأصدقاء الضليعين في العلم نظري الى ملاحظة حكيمة وهي كيف ان الصبر كما ورد في سورة الكهف كان شرط معرفة اساسيا من شروط العلم في قصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح.
هذا وليلهمنا الرحمن صبرا جميلا نتبلغ به وبناتنا وابناؤنا الطلاب هذه الأيام مايعيننا ويعينهم على بلوغ ملذات نجاحهم باذن الله, عندها سنميز مذاق الصبر من بين جميع مكونات زلال النجاح الأخرى.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved