أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 27th June,2000العدد:10134الطبعةالاولـيالثلاثاء 25 ,ربيع الاول 1421

مقـالات

التعليم المفيد
د,مهدي بن علي القرني*
يتملكني الإعجاب حينما أقرأ مقدمة ابن خلدون، ولا أملك إزاء ذلك إلا أن أعيد قراءتها مرة تلو أخرى متأمّلاً ومتدبّراً، وبخاصة أنه فَقِهَ التاريخ، فرسم أصولاً وقواعد له، ولعل ابن خلدون أول من حاول أن يُفتّق أكمامها ويرسم أصولها.
وقد تكلّم في الفصل السابع والثلاثين (في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته)، وحاولت متأمّلاً أن أستخلص القواعد والأسس التي اراد أن يبيّنها في التعليم المفيد، فخرجت من ذلك بأربعة أمور، ينبغي مراعاتها في التعليم لكي يكون مثمراً ومفيداً، وهي:
1 التدريج في تلقين العلوم للمتعلمين، وذلك بأن يُعطى المتعلم العلم شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً، بحيث يُلقي عليه أولاً مسائل من كل بابٍ من الفن هي أصول ذلك الباب، ويُقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يُورِدُ عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن ، وذلك لأن بناء ملكةٍ في ذلك الفنّ هدفٌ اساسي لأي تعلّم، وإلا فإن فقدان هذه الملكة سيضيّع جهداً ووقتاً، بل لا يستطيع بدونها أن يواصل في تحصيله، فلا بُدّ أن يُهيأ المتعلم لفهم الفن وتحصيل مسائله، ومن ثم يتدرج به من هذه الرتبة وهي التهيئة إلى رتبة أعلى وهي الشرح والبيان لمسائل الفن وإجمالاته، ثم ينتقل به إلى بيان أوجه الخلاف وفهم عويص الفنّ ومبهمه ومنغلقه، لتصبح ملكته جيدة وقادرة على البحث والمناقشة، ولهذا نلاحظ أنّ الفنّ إنما تحصل بعد ثلاثة تكرارات، قال ابن خلدون: وقد يحصل للبعض في أقلّ من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسّر عليه .
2 التخليط بين ما يُلقى من غايات الفنون في مبادئها، إذ لكلّ فنّ من الفنون مبادىء وغايات، ويُبدأ بتعلم الفن من مبادئه حتى يصل إلى غاياته، فإذا ألقيت على المتعلم الغايات في البدايات وهو عاجزٌ عن الفهم والوعي وبعيدٌ عن الاستعداد له كَلَّ ذهنُه عنها، وحَسِب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه، وإنما أتى ذلك من سوء التعليم ولهذا نجد كثيراً من المتعلمين يكرهون بعض الفنون، وإنما أوتيت هذه الكراهة من هذا التخليط، إذ لا بُد أن يطمئن المعلّم إلى حصول متعلّمه على ملكة في الفنّ الذي يتعلّمه، لأنه بهذه الملكة يستطيع أن ينفذ بها إلى قبول ما بقي من الفنّ، ويحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى مافوق حتى يستولى على غايات العلم وإذا خُلِط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره، ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم .
غير أن ما ينبغي إدراكه هو تحديد مبادىء اي فن، وتمييز ذلك من غاياته ، فالجهل بالتمييز بينهما يؤدي قطعاً إلى هذا الخلط.
3 عدم تقطيع مجالس تعليم الفنّ الواحد وتفريق مابينها، لأن التطويل على المتعلّم في الفنّ الواحد بهذا التقطيع والتفريق يؤدي إلى النسيان، وانقطاع مسائل الفن بعضها مع بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها، وإذاكانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان، كانت الملكة أيسر حصولاً وأحكم ارتباطاً واقرب صبغة، لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره .
4 ألاّ يُخلَط على المتعلم علمان معاً، إذ يتوزّع همّه ومطلبه فيهما، فحينئذ قد لا يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهّم الآخر.
وهذه الأصول في التعليم المفيد جديرٌ بنا في تعليمنا النظامي أن نفيد منها، فابن خلدون لم يأت بها جزافاً دون دراسة عميقة، بل قد استقراها من تاريخ طويل، وهو تاريخ حافل بالعلم والعلماء، والإبداع والمبدعين.
* مكة المكرمة ص,ب6722 .

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved