أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 8th July,2000العدد:10145الطبعةالاولـيالسبت 6 ,ربيع الثاني 1421

مقـالات

مفهوم السفر، وأقل تحديد شرعي له يبيح القصر
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
(3) تحقيق مذهب أهل الظاهر في القصر:
قال الحافظ أبو عمر بن عبدالبر (368 463ه ) : وقالت طائفة من أهل الظاهر: يقصر الصلاة كل مسافر في كل سفر قصيرا كان أو طويلاً ولو ثلاثة أميال,, وقال داوود: إن سافر في حج أو عمرة أو غزو قصر الصلاة في قصير السفر وطويله,, ومن حجتهم من ظاهر قول الله عز وجل: (وإذا ضربتم في الأرض) سورة النساء /101 : (أنه) لم يجد مقداراً من المسافة,, وقد نقض داوود (و) من قال بقوله من أهل الظاهر أصلهم هذا، لأنه عز وجل لم يقل: وإذا ضربتم في الأرض في حج أو عمرة.
واحتج بعضهم بحديث أبي هارون العبدي: عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه): أن الني صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فرسخاً ثم نزل قصر الصلاة,, والحديث حدثناه سعيد قال: حدثنا قاسم قال: حدثنا محمد قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثنا هشيم: عن أبي هارون: عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فرسخاً قصر الصلاة,,وأبو هارون العبدي اسمه عمارة بن جوين منكر الحديث عند جميعهم، متروك، لا يكتب حديثه، وقد نسبه حماد بن زيد إلى الكذب,, قال: وكان يروي بالغداة شيئا وبالعشي شيئا,, وقال عباس: عن ابن معين قال: أبو هارون العبدي: كانت عنده صحيفة يقول فيها : هذه صحيفة الوصي,, وكان عندهم لا يصدق في حديثه.
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن هارون العبدي، فقال : ليس بشيء.
قال أبو عمر: على أن عبدالرزاق رواه عن هشيم قال: أخبرني أبو هارون العبدي: عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخاً ثم نزل يقصر الصلاة (1) ,, قال أبو عبدالرحمن وذكر نصوصاً احتجوا بها، فعارضها.
وعزا أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي (439 507ه ) إلى داوود القول بجواز القصر في طويل السفر وقصيره (2) .
وقال أبو الوليد محمد بن رشد (الجد) (520 ه): وقد اختلف في حد ما تقصر فيه الصلاة من السفر اختلافاً كثيراً: من مسافة ثلاثة أميال (وهو مذهب أهل الظاهر) إلى مسيرة ثلاثة أيام وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه (3)
وأومأ أبو عبدالله محمد بن علي المازري (536 ه) إلى مذهبهم، ولم يعينهم فقال: وأما السفر الذي يقصر فيه فإن بعض الناس لم يحده واحتج بقول الله: (وإذا ضربتم في الأرض) سورة النساءم101 ,, وأكثر الناس على تحديده، وكأنهم فهموا إنما خففت عن المسافر للمشقة، فلم يكن عندهم القصر إلا في سفر تلحقهم فيه المشقة,, واختلفوا في تقديره، واختلافهم في كتب الفقهاء (4) .
وأطال القاضي أبو بكر ابن العربي (468 543ه)لسانه كعادته في تنقص الأئمة والاستخفاف بهم فقال : تلاعب قوم بالدين، فقالوا : إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر الصلاة وأكل,, وقائل هذا أعجمي لا يعرف السفر عند العرب، أو مستخف بالدين,, ولولا أن العلماء ذكروه ما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني، ولا أن أفكر فيه بفضول قلبي, وقد كان من تقدم من الصحابة (رضي الله عنهم) يختلفون في تقديره، فروي عن عمر وابن عمر وابن عباس (رضي الله عنهم) :أنهم كانوا يقدرونه بيوم,, وعن ابن مسعود: أنه كان يقدره بثلاثة أيام,, يعلمهم بأن السفر كل خروج تكلف له، وأدركت فيه المشقة (5)
وذكر علاء الدين الكاساني (587 ه) مذهب الظاهر بإجمال، وهوأن مدة السفر وأقلها غير مقدرة عند أصحاب الظواهر، وقال: أما اصحاب الظواهر فاحتجوا بظاهر قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) سورة النساء/101 ,, علق القصر بمطلق الضرب في الأرض، فالتقدير تقييد لمطلق الكتاب، ولا يجوز إلا بدليل (6)
وقال الفخر الرازي (543 606 ه ): زعم داوود وأهل الظاهر أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز الرخصة، وزعم جمهور الفقهاء أن السفر ما لم يقدر بمقدار مخصوص لم تحصل فيه الرخصة,, احتج أهل الظاهر بالآية، فقالوا: إن قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة): جملة مركبة من شرط، وجزاأ الشرط هو الضرب في الأرض، والجزاأ هو جواز القصر، وإذا حصل الشرط وجب أن يترتب عليه الجزاأ سواأٌ كان الشرط (الذي هو السفر) طويلاً أو قصيراً,.
أقصى ما في الباب أن يقال: فهذا يقتضي حصول الرخصة عند انتقال الإنسان من محلة إلى محلة، ومن دار إلى دار,, إلا أنا نقول: الجواب عنه من وجهين:
الأول: أن الانتقال من محلة إلى محلة إن لم يسم بأنه ضرب في الأرض فقد زال الإشكال,, وإن سمي بذلك فنقول: أجمع المسلمون على أنه غير معتبر، فهذا تخصيص تطرق إلى هذا النص بدلالة الإجماع، والعام بعد التخصيص حجة، فوجب أن يبقى النص معتبراً في السفر سواأٌ أكان قليلاً أو كثيراً.
والثاني: أن قوله (وإذا ضربتم في الأرض) يدل على أنه تعالى جعل الضرب في الأرض شرطاً لحصول هذه الرخصة، فلو كان الضرب في الأرض اسماً لمطلق الانتقال لكان ذلك حاصلاً دائماً، لأن الإسنان لا ينفك طول عمره من الانتقال من الدار إلى المسجد، ومن المسجد إلى السوق,, وإذا كان حاصلاً دائماً امتنع جعله شرطاً لثبوت هذا الحكم,, فلما جعل الله الضرب في الأرض شرطا لثبوت هذا الحكم علمنا أنه مغاير لمطلق الانتقال، وذلك هو الذي يسمى سفراً ,, ومعلوم أن اسم السفر واقع على القريب وعلى البعيد، فعلمنا دلالة الآية على حصول الرخصة في مطلق السفر,, أما الفقهاء فقالوا: أجمع السلف على أن أقل السفر مقدر ,, قالوا: والذي يدل عليه أنه حصل في المسألة روايات (7) ,, ثم ذكر بعض الروايات عن اختلافهم في مقدار مدة السفر أو مساحته، وعلق بقوله: قال الفقهاأُ فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجاع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر,, قال أهل الظاهر: اضطراب الفقهاء في هذه الأقاويل يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلاً قوياً في تقدير المدة، إذ لو حصل في المسألة دليل ظاهر الدلالة لما حصل هذا الاضطراب,, أما سكوت سائر الصحابة(رضي الله عنهم) عن حكم هذه المسألة فلعله إنما كان لأنه اعتقدوا أن هذه الآية دالة على ارتباط الحكم بمطلق السفر: لكان هذا الحكم ثابتاً في مطلق السفر بحكم هذه الآية,, وإذا كان الحكم مذكوراً في نص القرآن لم يكن بهم حاجة إلى الاجتهاد والاستنباط، فلهذا سكتوا عن هذه المسألة, (8)
,, ثم قال عن ردودهم على معارضيهم:واعلم أن أصحاب أبي حنيفة عولوا في تقدير المدة بثلاثة أيام على قوله عليه الصلاة والسلام يمسح المسافر ثلاثة أيام,, وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل المسح ثلاثة أيام أن لا يكون مسافراً، وإذا لم يكن مسافراً لم تحصل الرخص المشروعة في السفر,, وأما أصحاب الشافعي رضي الله عنه فإنهم عولوا على ما روى مجاهد وعطاأ بن أبي رباح عن ابن عباس (رضي الله عنهم): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان,, قال أهل الظاهر : الكلام عليه من وجوه:
الأول: أنه بناء على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وهوعندنا غير جائز لوجهين:
الأول: أن القرآن وخبر الواحد مشتركان في دلالة لفظ كل واحد منهما على الحكم، والقرآن مقطوع المتن، والخبر مظنون المتن، فكان القرآن أقوى دلالة من الخبر، فترجيح الضعيف على القوي لا يجوز.
والثاني: أنه روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: إذا روي حديث عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فإن وافقه فاقبلوه، وإن خالفه فردوه (9) ,, دل هذا الخبر على أن كل خبر ورد على مخالفة كتاب الله تعالى فهو مردود، فهذا الخبر لما ورد على مخالفة عموم الكتاب وجب أن يكون مردوداً.
الوجه الثاني: في دفع هذه الأخبار، وهوأنها أخبار آحاد وردت في واقعة تعم الحاجة إلى معرفة حكمها فوجب كونها مردودة,, إنما قلنا: إن الحاجة إليها عامة: (10) لأن أكثر الصحابة كانوا في أكثر الأوقات في السفر وفي الغزو، فلما كانت رخص السفر مخصوصة بسفر مقدر كانت إلى مقدار السفر المفيد للرخص حاجة عامة في حق المكلفين,, ولو كان الأمر كذلك لعرفوها، ولنقلوها نقلاً متواتراً,, لا سيما وهو على خلاف ظاهر القرآن بسببها؟
الثالث: أن دلائل الشافعية ودلائل الحنفية صارت متقابلة متدافعة، وإذا تعارضت تساقطت، فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن,, هذا تمام الكلام في هذاالموضوع، والذي عندي في هذا الباب أن يقال: إن كلمة (إذا) وكلمة (إن) لا يفيدان إلا كون الشرط مستعقباً للجزاإ,, فأما كونه مستعقباً لذلك الجزاإ في جميع الأوقات فهذا غير لازم، بدليل أنه إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، أوإذا دخلت الدار فأنت طالق,, فدخلت مرة وقع الطلاق، وإذا دخلت الدار ثانياً لا يقع,, وهذا يدل على أن كلمة (إذا) وكلمة (إن) لا يفيدان العموم ألبتة,, وإذا ثبت هذا سقط استدلال أهل الظاهر بالآية، فإن الآية لا تفيد إلا أن الضرب في الأرض يستعقب مرة واحدة هذه الرخص، وعندنا الأمر كذلك فيما إذا كان السفر طويلاً، فأما السفر القصير فإنما يدخل تحت الآية لو قلنا: إن كلمة إذا للعموم,, ولما ثبت أنه ليس الأمر كذلك فقد سقط هذا الاستدلال، وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل التي تمسك بها المجتهدون بمقدار السفر ليست واقعة على خلاف ظاهر القرآن، فكانت مقبولة صحيحة (11) .
وقال محيي الدين النووي (651 ه ) : وقال داوود وأهل الظاهر: يجوز (أي القصر) في السفر الطويل والقصير حتى لوكان ثلاثة أميال (12) .
الوقفة الأولى: قول أبي عمر بن عبدالبر رحمه الله وهوخبير بمذهب أهل الظاهر، لأنه قد كان ظاهرياً في مرحلة من عمره المبارك وقالت طائفة من أهل الظاهر : يوحي باختلاف بين أهل الظاهر في مسافة القصر، وأبو محمد ابن حزم حكى اتفاقهم.
الوقفة الثانية: نوع السفر الذي تقصر من أجله الصلاةخارج نطاق مسألتي هذه.
الوقفة الثالثة: لم ينقض داوود أصله كما زعم أبو عمر رحم الله جميعهم، لأن من أصله الصرف عن الظاهر بدليل، وقد صحت له البراهين بالقصر في غير سفر الجهاد والحج والعمرة.
الوقفة الرابعة: إسناد أبي عمر لحديث ابن سعيد الخدري إسناد إلى أحد كتب قاسم بن أصبغ رضي الله عنهم جميعاً، وله تحقيق يأتي إن شاء الله.
واستدراكه برواية عبدالرزاق يعني أن القصر في الفرسخ كان عند النزول وقت الصلاة في سفر طويل.
الوقفة الخامسة: لم يحقق ابن رشد رحمه الله مذهب أهل الظاهر، إذ حكى عنهم ثلاثة أميال، وقد أسلفت أن أقل السفر عندهم ميل واحد.
الوقفة السادسة: لا يضير الإمام داوود بن علي ومن هم على مذهب الظاهر من أمثال محمد بن داوود، وابن الغلس، ومنذر بن سعيد، وابن حزم أن أبا بكر ابن العربي لا يلمحهم بمؤخر عينه,, وابن العربي رحمهم الله، كبير بالنسبة لنا نحن الشداة الضعفاأ، صغير بالنسبة لأولئك الأئمة,, وأكثر كلامه إما اجتهاد في تخريج مذهب الإمام مالك رحمه الله، وإما تكلف في نصره، وإما احتجاج بالواهي، وإما اعتذار وإحالة، وإما عبارات نابية,, ولم يسلم من لسانه أحد حتى الإمام الشافعي رحمه الله.
الوقفة السابعة: إن كان مراد القاضي أبي بكر عجمة اللسان فلا أفسح من أئمة الظاهر,, وعنايتهم باللغة ضرورة في حياتهم العلمية، لأنها ركن ركين من مذاهبهم,, وأقلهم أمكن منه في اللغة.
الوقفة الثامنة: لم ينقل أبو بكر كلمة واحدة عن أهل اللسان العربي في تعريف السفر وتحديده لغة، ليكون أسعد منهم في نفي العجمة!!
الوقفة التاسعة: لم يحضر أبو بكرغير الإشكال والاختلاف، ولابد من تحديد للكلفة والمشقة.
الوقفة العاشرة: لا صحة لقول الكاساني رحمه الله بأن مسافة القصر غير مقدرة عند أهل الظاهر، بل يكون التقدير بالأقل، وهم قدروا بميل.
الوقفة الحادية عشرة: النص الأول من نصي الفخر الرازي بسط الشرح لحجة أهل الظاهر من تركيب الجملة من شرط وجزاإٍ,, إلخ.
قال أبو عبد الرحمن: هذا البسط لا يوجد ولا يوجد ما هو في معناه في كتب ابن حزم التي بين أيدينا، فيحتمل أن يكون الرازي وجه مذهب داوود من قبله، بدليل إضافته ما ليس من مذهبهم (وهوالانتقال من محلة إلى محلة),.
ويحتمل أنه نقل نقلاً مباشراً عن فقهاء أهل الظاهر الداووديين الذين فقدت الآن كتبهم، بدليل أنه نقل في مواضع عديدة من تفسيره مسائل عديدة منهم لا توجد بكتب ابن حزم.
الوقفة الثانية عشرة: لا تناقض بين الدعويين اللتين عزاهما الرازي إلى داوود وإلى سائر الفقهاء، لأن السفر مقدر أيضاً عند داوود بتقدير أقله وهو ميل.
الوقفة الثالثة عشرة: لا يحتاج فهم احتجاج داوود بالآية الكريمة من سورة النساء إلى هذه الإطالة التي ذكرها الرازي عن الشرط وجزائه، لان الإطالة في شرح البدهي الواضح يزيده تعقيداً.
الوقفة الرابعة عشرة: قول الرازي: وأقصى ما في الباب ,, إلخ : معناه خلاصة ما يعترض به على داوود في تمسكه فيما تمسك به من الآية الكريمة.
الوقفة الخامسة عشرة: قلت ذلك لدلالة السياق، ولانه ليس بصحيح أن أقصى متمسك داوود القصر من محلة إلى ملحة، فهذا ما لم يقل به، بل مذهبه صريح في مفارقة عامر البلد بميل، حيث ذكر ابن حزم ان هذا مذهبه ومذهب أهل الظاهر.
الوقفة السادسة عشرة: لم يدفع الرازي مذهب داوود في تعليق الحكم بمطلق السفر، ولا مجال لدفع ذلك,, وإنما يبقى خلافه مع داوود في مسألتين:
الأولى: أن يدفع قوله: إن أقل السفر لغة ميل.
والثانية: أن يبرز برهاناً عن تقييد ظاهر الآية غير مفهوم السفر لغة.
الوقفة السابعة عشرة: قول الرازي: فقد زال الإشكال : يعني أن الانتقال من محلة إلى محلة ليس ضرباً في الأرض، فلا تتناوله الآية الكريمة.
الوقفة الثامنة عشرة: قول الرازي: فهذا تخصيص,, إلخ : معناه أن الانتقال من محلة إلى محلة خارج من دلالة الآية الكريمة بالإجماع.
الوقفة التاسعة عشرة: قول الرازي: العام بعد التخصيص حجة : تأصيل صحيح، ولكن ما رتبه عليه غير مترتب، بل هوعكس نتيجته، وذلك هو قوله كان قليلاً أوكثيراً ,, والصواب أن يقول: فوجب أن يبقى النص معتبراً فيم خرج بالإجماع من قليل السفر الذي هو الانتقال من محلة إلى محلة.
الوقفة العشرون: الوجهان اللذان ذكرهما الرازي احتجاج للظاهرية في الدفع والتأسيس,, أما الدفع فهو الخروج من لزوم ما عساهم أن يلزموا به من اعتبار الانتقال من محلة إلى محلة سفراً يشمله حكم الآية,, وهذان الوجهان يرد عليهما ما ذكره في جوابيه,, وأما التأسيس فهو التمسك بمطلق السفر في حكم القصر بعد خروج ما أخرجه الإجماع.
الوقفة الحادية والعشرون: قول الرازي في الوجه الثاني: في مطلق السفر يرد عليه ما ذكر في الوقفة التاسعة عشرة.
الوقفة الثانية والعشرون: وجه الإجماع الذي ذكره الرازي عن الفقهاإِ في نصه الثاني: أن اختلاف العلماء في تحديد مسافة السفر أو مدته قاض بأن الآية الكريمة لم تعلق حكم القصر بمطلق السفر.
قال أبو عبدالرحمن : هذا يرد على قول داوود بمطلق السفر لو لم يحدده بميل,, أما وقد حدد بميل فهذا تقدير صح عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيرهما، فهو داخل في الإجماع على التحديد، ولا إجماع على قدر التحديد.
الوقفة الثالثة والعشرون: جواب أهل الظاهر للفقهاإِ يرد عليه أيضا احتمال أنه من توجيه الرازي.
الوقفة الرابعة والعشرون: استدلال أهل الظاهر بسكوت الصحابة رضي الله عنهم عن تحقيق مقدار السفر هو ملخص ما سلف من كلام ابن حزم,, وهو من باب التنزل في الاستدلال، لأن الصحابة كما ساقه ابن حزم من أقوالهم رضوان الله عليهم لم يسكتوا.
الوقفة الخامسة والعشرون: الذين ذكره أبو محمد بن حزم رحمه الله سكوت الصحابة رضوان الله عليهم عن سآل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سكوتهم عن بيان الحكم,, فالرازي عفا الله عنه لم يحقق النقل عن أهل الظاهر.
الوقفة السادسة والعشرون: عزو الرازي إلى أهل الظاهر في نصه الثالث في رد حديث ابن عباس رضي الله عنهما غير صحيح عنهم، لأن الأخذ بخبر الواحد الصحيح، وتبيين القرآن الكريم به من صميم مذهبهم,, أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فغير ثابت، فهو ليس على شرطهم في الاحتجاج لا لأنه خبر واحد، بل لأنه غير صحيح.
الوقفة السابعة والعشرون: كلام الرازي عن قطعية المتن وظنيته هاهنا غير محققة، لأن القطع والظن هاهنا يتعلقان بالثبوت نقلاً لا بالمتن دلالة.
الوقفة الثامنة والعشرون: مخالفة خبر ابن عباس رضي الله عنهما ليس مخالفة تناقض أو تضاد، بل مخالفة إطلاق، فكان الخبر بياناً بالتقييد,.
إلا أنه مردود لا من جهة المخالفة، بل من جهة انتفاء الثبوت.
الوقفة التاسعة والعشرون: قال الرازي:الوجه الثاني: في دفع هذه الأخبار ، ولم يذكر الوجه الأول بالعدد، ولكنه مذكور منذ قوله: قال الفقهاء: فاختلاف الناس,, إلخ .
الوقفة الثلاثون: ذكر الرازي في الوجه الثاني احتجاج الفقهاء على بطلان اختلاف الروايات في التحديد بعموم البلوى، وأنها لو كانت صحيحة لعرفوها، وأن المرجع حينئذ لظاهر الآية.
قال أبو عبدالرحمن: هذا احتجاج غير صحيح إلا من جهة التمسك بما صح عن أقل ما قيل في التقدير، ليكون بياناً للآية المجملة، وليدخل في حكمه أكثر ما قيل من باب أولى,, حتى لو صح أن مقدار السفر معروف لغة أوعرفاً، فحكم الشرع مقدم على ذلك.
أما الروايات فلا يحكم ببطلانها لمجرد عدم العلم بها حال عموم البلوى، بل يصحح منها ببرهان، ويبطل منها ببرهان,, وهي تختلف في مرجعها من خبر مرفوع إلى اجتهاد عن صاحب أوتابع,, وما صح منها في الأكثر فهو داخل في حكم الأقل كما أسلفت، فالعبرة بتحقيق الأخبار عن الأقل.
الوقفة الحادية والثلاثون: قول الرازي: الثالث: أن دلائل : يعني الوجه الثالث من اعتراضات الفقهاإِ، ولم يعين من هم الفقهاأُ؟,, فلعل ذلك قول أحدهم، ولعل ذلك اجتهاد من الرازي في الاستدلال والتشقيق.
الوقفة الثانية والثلاثون: ما ذكره الرازي من إسقاط الأدلة عند التدافع غير مسلم، بل الترجيح مقدم,, وهي ليست متناقضة، فالترجيح بالجمع بينها ممكن.
الوقفة الثالثة والثلاثون: ترجيح الرازي الذي ذكره آخر كلامه عجيب جداً، وفيه فرصة للمستهتر (13) أن يتندر بعلمائنا وتراثنا,, والمحقق أنه عفا الله عنه أخطأ من وجوه:
أولها: أن (إذا) للعموم في الأصل,, وليس معنى هذا أنها للعموم دائماً، بل معنى ذلك أنه إذا عدم دليل التخصيص فهي على عمومها,, وهكذا هي في الآية الكريمة من سورة النساء فلا تخصص إلا بدليل.
وثانيا: أن الحكم المعلق مكرر بتكرار الواقعة، لأنه حكم لها إذا وجدت، ولا يخرج عن هذا إلا بدليل.
وثالثها: أن ما ذكره من الطلاق والدار خرج عن العموم بدليله إن قام في العرف أو من نيته أنه أراد دخولاً واحداً، وطلاقاً واحداً.
ورابعها: أنه بالسفر الطويل قيد مطلق السفر، ولم يخصص عموم إذا، إذ يتكرر الحكم مع كل سفر طويل، فأصبح نقشه رحمه الله على الماء!
الوقفة الرابعة والثلاثون: أوحى سياقه بأن تقديرات العلماء كلها صحيحة إصابة وصواباً، وهذا جمع بين النقيضين.
الوقفة الخامسة والثلاثون: من العجب الذي لا يليق بموهبة الرازي الكبيرة حكمه بأن تقديرات العلماإِ ليست على خلاف ظاهر القرآن!!
قال أبو عبدالرحمن: كيف لا تكون على خلافه والإطلاق نقيض التقييد؟!
ولكن المقبول أن يقول : فما صح منها فهو مقيد لإطلاق الآية الكريمة، والتقييد من وجوه الجمع الصحيحة .
الوقفة السادسة والثلاثون: قول الإمام النووي رحمه الله: حتى لو كان ثلاثة أميال : يوحي بأن ذلك أقل مقدار عند الظاهرية,, والمحقق أن الميل أقل مقدار عندهم والله المستعان.
***
الحواشي
(1) الاستذكار الجامع لمذاهب فقاإ الأمصار، وعلماإ الأقطار,, فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار، وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار 6/90 92 تحقيق الدكتور عبدالمعطي أمين قلعجي ط دار قتيبة بدمشق وبيروت، وتوزيع دار الوعي بحلب والقاهرة.
قال أبو عبدالرحمن : هذا الكتاب العظيم على الإيجاز والاختصار، فسبحان من وهبهم الإمامة في الدين!!
(2) انظر حلية العلماإِ في معرفة مذاهب الفقهاإِ 1/240، ونظراً أيضا التحقيق في مسائل الخلاف لابن الجوزي، وحاشيته تنقيح التحقيق للذهبي 4/36 تحقيق الدكتور عبدالمعطي أمين قلعجي دار الوعي العربي، ومكتبة ابن عبدالبر الطبعة الاولى، وتتقيح التحقيق لابن عبدالهادي 2/1157 المكتبة الحديثة بالإمارات العربية المتحدة بتحقيق الدكتور عامر حسن صبري.
(3) المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الاحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات 1/212 بتحقيق الدكتور محمد حجي ط دار الغرب الإسلامي.
(4) المعلم بفوائد مسلم 1/296 بتحقيق الشيخ محمد الشاذلي النيفر ط دار الغرب.
(5) أحكام القرآن 1/488 بتحقيق علي محمد البجاوي ط دار المعرفة ببيروت.
(6) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1/140 ط دار الفكر طبعتهم الأولى عام 1417ه.
(7) التفسير الكبير 11/201 202 دار إحياإ التراث العربي ببيروت.
(8) التفسير الكبير 11/202.
(9) هذا الحديث روي بطرق عديدة منها الموضوع، ومنها الضعيف الشديد الضعف,, وقد ذكر هذا الحديث وأبطله دلالة ومتناً الإمام الشافعي في الرسالة، والبيهقي في المدخل وعنه نقل السيوطي في مفتاح الجنة ، وابن حزم في الاحكام، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله، وأحال إلى مصادره الشيخ أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول في كتابه موسوعة أطراف الحديث النبوي 1/293 في مادة (إذا حدثتم ، وناقشه المعاصرون في مؤلفاتهم عن حجية السنة والدفاع عنها مثل الدكتور عبدالغني عبدالخالق في كتابه حجية السنة ص 472 477 ، والدكتور رفعت فوزي عبدالمطلب في كتابه توثيق السنة في القرن الثاني الهجري ص 300 319.
قال أبو عبدالرحمن: لإنكاره في هذا الحديث متناً لوثبت إسناداًو وإنما النكارة في تفسيره كما هو سلوك كثير ممن يحتج به عندما تفسر المخالفة بتفسير مجمل، أوتقييد مطلق، أو تخصيص عام، أو عكس ذلك في التقييد والخصوص، لأن القرآن الكريم الذي سيعرض عليه الخبر قضى بوجوب اتباع السنة، ولأن أحكام الديانة في القرآن يتعذر تطبيقها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعث مبلغاً مبيناً,, والبيان يكون بما ذكر من التفسير والتقييد والإطلاق، والعموم والخصوص، والنسخ,, أما تفسيره بمخالفة التناقض والتضاد فإنه من مقاييس نقد المتن عند العلماإِ، فإذا لم يجدوا علة في الإسناد جزموا أن للحديث معنى لم ينقل على وجه كتعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وحديث الشؤم.
(10) ما قبل التعليل واو مقلوبة هكذا (؛) إلا أن النقطتين الرأسيتين وجبتا هنا لتمييز مقول القول مع فهم التعليل لغة من اللام في (لأن).
(11) التفسير الكبير 11/202 203.
(12) شرح صحيح مسلم (المنهاج) 5/201 بتحقيق الشيخ خليل مأمون شيحا توزيع دار المعرفة بجدة ط دار المعرفة ببيروت طبعتهم الأولى عام 1414ه,, وقد وضع المحقق الفاصلة (،) قبل القصير، وقبل حتى,, وعندي أن هذا عبث، فلا داعي لها حال أمن اللبس، ولا داعي لها في قيود الجملة.
(13) نبهني أحد المشايخ الفضلاإِ إلى أن هذه الصيغة بفتح التاإِ، وأنها للمستهتر بالشيء المولع به,, أي أنها لا تعني المتهتك غير المبالي,, وهذا هو ما ذهب إليه بعض المعاصرين مثل مصطفى جواد في قل ولا تقل، والعدناني في معجم الأخطاإِ الشائعة,, على أن عباس أبو السعود أورد في كتابه أزاهير الفصحى بيتاً من المفضليات لعبدة بن الطيب يقول:


يسعى ويجمع جاهداً مستهتراً
جداً وليس بآكل ما يجمع

قال أبو عبدالرحمن: كسر التاء الثانية لا يُأَكِّدُ أن ذلك هو المروي حتى يكون ذلك بتنصيص على الشكل، أو بوجادة تشكيل إمام معتمد,, والمحقق في هذا أن من أراد حصول الولع عبر بصيغة المبني للمجهول، ومن أراد إظهار الولع وماهو خلاف المبالاة وما لديه من أباطيل عبّر بصيغة المسمى فاعله (وهو استهتر بفتح التاأين)، فقولك استحصد الزرع بمعنى ظهرت منه حال توجب ذلك، واستحصف الشيء بمعنى استحكم اي بلغ غاية الظهور من الحصافة، ولهذا أورد أبو إبراهيم الفارابي في كتابه ديوان الأدب 2/432 المستهتر بفتح التاء الثانية في مادة استفعل (بفتح التاء أوالعين) منبهاً إلى ورود المادة على صيغة هذا الفعل,, ولو لم يرد النص من هذا الإمام لكان في صحة معنى الصيغة غنى عن ذلك، لأنني بينت كثيراً في مباحثي أن العربي يحول المادة إلى معنى الصيغة الذي يريده وفق المقاييس الصرفية.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved