أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 20th July,2000العدد:10157الطبعةالاولـيالخميس 18 ,ربيع الثاني 1421

الثقافية

ظاهرة ستيفن كنج
في داخل كل منا طفل,, وغول
محمود قاسم
إنه ظاهرة بكل ماتحمل الكلمة من معاني,.
ستيفن كنج ، المولود عام 1947، يشكل أهم ظاهرة أدبية في الولايات المتحدة وفي بقاع متعددة من العالم منذ أكثر من ربع قرن,, أي قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من العمر,.
وعندما لمع الكاتب في بداية حياته في السبعينات، كان التصور أن كنج ، هو واحد من شهب الرواية الشعبية الحديثة، يمكنه أن ينطفئ بسرعة وان تبرد جذوته، سواء باستهلاك نفسه، أو بظهور أسماء جديدة، يمكنها أن تقلل من أهميته، أو أن تقلص من حجمه.
لكن كل هذه التصورات بدت كاذبة.
ويوماً وراء يوم، تتحول هذه الظاهرة الشهب إلى توهج، ولمعان، فيزداد الاقبال على إبداعه، وترتفع أرقام مبيعات رواياته الجديدة إلى أعلى سلم التوزيع,, ويتهافت المنتجون على مايكتبه ويحولون قصصه إلى أفلام تحقق نفس التوهج، وترشح لجوائز أوسكار عديدة.
وفي أوائل عام 2000 فاجأ كنج العالم بأن أعلن أنه سوف يكون أول كاتب يؤلف روايته الجديدة مباشرة على على شبكة الانترنت، معلناً بذلك عن ظهور لون جديد من الوسط الإبداعي, ظل الجميع متخوفاً منه، وحذراً من التعامل معه، فإذا بالكاتب الأكثر توزيعاً في العالم يخترقه بكل قوة غير مهاب للعواقب، وكأنه المجهول الغامض الذي يتسيد عالمه الروائي.
ستيفن كنج، ليس مجرد روائي، بل هو أيضاً كاتب سيناريو، ودفعه جنون المغامرة إلى التمثيل السينمائي والإخراج,, حصيلته الآن أكثر من مليون قارئ لكل رواية، و 30 فيلماً، ومليارات الدولارات وأيضاً متابعات نقدية حولته من مجرد روائي يكتب قصصا عن الرعب إلى أديب تنعكس مواقفه من الحياة على ابطاله، مثلما حدث في فيلم الميل الأخضر الذي أخرجه فرانك دارابونت مؤخراً,.
سنبدأ حديثنا عن كنج من حيث عطائه الحديث، فإذا كان الكاتب قد اهتم دوماً بالتوغل داخل القوى الخفية في الكائنات الحية، وبخاصة الانسان، مثل التخاطر وتحريك الأشياء عن بعد (التلكيسيس) والإشراق، والتواصل الروحي في روايات عديدة، منها كاري ، و إشراق ، والوباء ، فإن الكاتب مع كل رواية جديدة كان يبحث عن قوى جديدة مختلفة، وظواهر مختلفة، قد لايمكن تسميتها علمياً، لكنها موجودة لدى بعض البشر.
وهذه الظواهر قد تكسب أصحابها قوة وجأشاً، لكنها في نفس الوقت تعد بمثابة وبال عليهم تأتى لهم بالكوارث، والفواجع، وتنتهي بالموت والجنون داخل دهاليز مليئة بالغموض، والدماء.
وقبل أن نتحدث عن إبداع الكاتب في العقد الأخير، فانه من المهم الاشارة إلى ما ذكرته مجلة لير حول الكتاب الأكثر مبيعا في الثمانينيات، حيث حصل عام 1989 على 26 مليون دولار عن حقوقه عن أربع روايات يعتزم تأليفها, حيث تباع من رواياته مليون نسخة في طبعتها الأمريكية الأولى, وأنه يظل دوما على قمة المبيعات, ففي دراسة نشرتها مجلة بانوراما الايطالية ان كنج يبيع من كل رواياته 10 ملايين نسخة وأن هناك مسافة واسعة بين مبيعات رواياته، وأعمال كتاب الرواية، البوليسية، والجاسوسية، والعلمية، على رأسهم مايكل كرايتون، جون جريشام، جون لوكاريه، وتوم كلانس، وويلبور سميث وآخرين.
يحاول كنج دوما البحث عما هو مثير في الكوامن الخفية للانسان، وعن القدرات الخارقة التي وهبها الله لبعض البشر، وتجيء أهمية هذه القدرات انها مُنِحَت لبشر طيبين، مغلوبين على أمرهم، يقعون دوماً في أزمات بسبب مواقف الآخرين، الشريرة، وهم لايستخدمون هذه القدرات الا عند الضرورة القصوى، وكأنهم بذلك ينفذون قصاصاً لابد أن يتم بأي شكل، طالما أن العدالة لم تمس هؤلاء الأشرار بطريق أو بآخر,.
ومن هنا تأتي أهمية أعمال الكاتب، فهي ليست مجرد روايات ممزوجة بالدماء والرعب مثل ألوف الروايات الموجودة على أرفف المكتبات، ولكن كنج يحاول دوما أن يعطي لسلوك أبطاله معنى، خصوصاً في علاقة كل منهم بالحياة والكون، ويحاول المؤلف أن يعرض الكثيرين منهم لصدمات حياتية وأن يقفوا قبالة الموت كي يفهموا معناه، يتجاوزونه أحياناً، ويدخلون دهاليزه الغامضة في أحيان أخرى.
ولعل الخاتمة التي جاءت في فيلم الميل الأخضر قد عكست هذه الرؤى,, فالرجل العجوز بول، الذي تجاوز المائة يقول بعد ان روى حكاية مسافة الميل الأخضر التي تفصل بين زنازين المحكوم عليهم بالاعدام، وبين غرفة مقعد الاعدام، أن لكل إنسان منا ميله الأخضر الذي يمشي عليه بين الميلاد والموت، وإنه مهما طال الميل أو قصر فهو محدود المسافة ولابد من البداية,, وأيضاً النهاية.
إذن,, فالحكاية ليست مجرد إثارة تخويف القارئ، أو الدخول معه إلى دهاليز غامضة، بقدر ماهو تواصل انساني، وإلقاء الضوء على فكر انساني، ومعاني ذوات قيمة، طالما أن هذه الظاهرات تسكن الانسان في داخله، غير بادية عليه من الخارج، وهي أمور نادرة للغاية، لايهبها الله الا لقلة بالغة الندرة من البشر وهي موجودة رغم دهشة الناس خصوصاً الذين يتعاملون معها على أنها مجرد أشياء فيما وراء الواقع.
وأصحاب هذه الظاهرات قد يكونون من البكارى، أو الأطفال مثل كاري في رواية تحمل نفس الاسم، وهي فتاة تنتقل من الطفولة إلى مرحلة البلوغ، شديدة الخجل، تعيش مع أم تعاني من كبت شديد بسبب هجران زوجها لها، فتعكس تجربتها على صغيرتها، وتحاول منعها مخالطة الشباب، مما يجعل أقرانها يسخرون منها ويدفعون بواحد منهم إلى التظاهر بأنه يحبها، وسيخطبها، ويختارونها ملكة جمال حفل المدرسة، وفي قمة لحظة سعادتها، يرمون فوقها بدماء الخنازير، وعلى الفور تتنامى دون أن تملك لنفسها القدرة على التراجع، ظاهرة تحريك الأشياء عن بعد، ووسط صراخها، تنغلق الأبواب وتندلع النيران في المكان الذي يتحول إلى جحيم.
هذه واحدة من أولى روايات الكاتب المهمة، التي تحولت عام 1976 إلى فيلم أخرجه بريان دي بالما، فهز مشاعر الناس، مثلما فعلت الرواية, وتحولت مرة أخرى إلى فيلم بعنوان كاري عام 1999 لكنه لم يلق نفس النجاح,, بالطبع لأن السينما أخذت شكل الحدوتة دون التعمق في معناها الذي يقصده الكاتب.
وبعد أن تحول كنج إلى ظاهرة، كان السؤال هو: هل هو كاتب روايات المفاجآت، التي تتبع نفس عائلات الرواية البوليسية، وقصص التجسس، وهل تقاس عظمة الإبداع بكمية المباع منه للناس ودافع عنه البعض بأنه موهوب حتى اطراف أظافره، كما أن لديه تقنية خاصة في الكتابة جعلت مذاقه مختلفاً.
وحسب ما جاء في مجلة الأكسبريس - 30 ديسمبر 1988 - بمناسبة صدور الطبعة الفرنسية من رواية iT فان كنج كان يضع عينيه على إبداع وسلوك كتاب موهوبين من طراز د سالينجر، وتوماس بينشون اللذين اعتزلا العالم دون سبب ظاهر، وهربا من كاميرات المتلصصين، وصارا بمثابة ظاهرات غامضة للناس، لماذا يتصرفان على هذه الشاكلة، وهل هو نوع من الجنون، أم خروج عن المألوف المهووس؟
وعلى سبيل المثال، فان رواية iT تقع في 1100 صفحة، أي لابد أن تتمتع بتقنية خاصة في الكتابة كي تدفع القارئ إلى التهامها, وقد قسم الرواية حسب الحروف الهجائية, وأبطال الرواية هم كالعادة، أطفال، أو أبرياء، عددهم سبعة، يمارسون بعض الألعاب الغريبة، التي منعهم الآباء من ممارستها، تبدو في أول الأمر مسلية تبعث على الضحك والتسلية لكنها تتحول إلى ألعاب دامية، وكأنما صارت تحس، وتتألم، عليها أن تعاقب من يلعبون بها، بل وأن تطاردهم للتخلص منهم, ويخلص الكاتب في روايته أن في داخل كل منا شيئين لا يموتان: الطفل البريء، والغول المتوحش.
فالطفل يتحرك فينا كي يدفعنا إلى العودة للبراءة كلما توغلنا في أروقة النضج الحسي، والعمري, أما الغول فهو الذي يرفض العودة إلى طفولته، ولديه ألعابه، وهذيانه ورغباته ومتاعبه, وفي الرواية فان الأطفال السبعة يصبحون من الغيلان عندما يتجاوزون مرحلة البلوغ.
ويوحى الكاتب أن عالمه ليس قائماً على الخرافات، ولكنه توغل حقيقي في عالم النفس، تلك المتاهات المتداخلة، سحيقة الأغوار، فيقول: مجلة لوسوان 31 يوليو 1989 (أنا مستعد أن أذهب أبعد ماينبغي حتى يقتنع القارئ أنه قد وقع بين يدي محلل نفسي مجنون, فالكتابة بالنسبة لي هي توغل في التحليل النفساني, وهي وسيلتي القديمة لطرد الأرواح الشريرة عن كوامني, فأنا أطارد أرواح فرويدي, وككاتب, أستطيع أن أجول فوق الورق بمعاناتي، وبمشاعري بعدم الأمان، وبالرعب المرير الذي يصرف عليه الآخرون الملايين من أجل التخلص منه بالذهاب إلى العيادات النفسية, أما أنا فأدفع لنفسي لأشفى من أمراضي .
ولم يضع كنج نفسه أسيراً لتوليد الرعب لدى قرائه، ففي روايته ميزيري نحن أمام كاتب روائي يكتب القصص الشعبية، وله ملايين القراء يعيش مع زوجته في بيت هادئ، بلا متاعب، يقرر أن يقتل الشخصية الرئيسية في رواياته التي أحبها القراء، واسمها ميزيري , ويحس المؤلف بأنه قد تحرر من قبضة هذا البطل عليه, وانه يجب أن يؤلف كتاباً حقيقياً, ويتعرف على ممرضة أحبت ميزيري كثيراً، تطارد المؤلف، وتدفعه إلى أن يكتب رواية جديدة، يعيد فيها إحياء بطله الميت، ويرفض، فتطارده وتهدده بالقتل فيمتثل لها، ويكتب رواية جديدة، لكن ميزيري الذي يظهر من جديد ليس هو نفسه الذي كان في الروايات السابقة).
انها ليست محنة المؤلف نفسه، بل هي أيضاً محنة كنج الذي فعله ود ان يتخلص من أشباح الرعب والظاهرات الخفية، فلم يستطع، لذا فإن المؤلف هنا محبوس داخل زنازين متداخلة، الواحدة منها تفتح على الأخرى، فإذا تصور أنه خرج من واحدة منها وجد نفسه في أخرى، حتى إذا سعى للافلات من جدرانها، فوجئ بانه في إطار أسوار الثالثة.
إذن,, فستيفن كنج يمتلك شيئين مهمين معا، تقنية الأسلوب شديد الجاذبية، وأيضاً الموضوع البراق، وبذلك استطاع أن يجد لكتاباته مساحات واسعة لمتابعة أعماله, وقد بدا هذا واضحا في الملف الذي أعدته عنه مجلة لير التي لاتفرد مثل هذه الملفات إلا لكتاب كبار من طراز البير كامي، ومرجريت دوراس، خصوصاً أن الذي أشرف على هذا الملف - مارس 1990 - هو بيير آصولين الرجل الأول في المجلة، وكان كنج آنذاك في الثالثة والأربعين من العمر, واعتبرته المجلة آنذاك حالة متطورة من إدجار الان بو، وأنه علامة في تاريخ الادب الذي سار فيه كل من روبرت بلوش مؤلف رواية نفوس معقدة ودونان كويل مبتدع شخصية شرلوك هولمز .
وقد أشارت المجلة أن الكاتب يسعى دوما إلى طرد الخوف من داخله الذي ترسب فيه منذ طفولته، أخاف أن أصير مجنونا, فالظلام يخيفني كثيراً,, أحس أنني قد أصبح مجنونا بين ليلة وضحاها, فقد تسير في الشارع، وتسقط فجأة، أحس أحياناً أنني قد أتحول إلى كرة يدفعها صبية الشوارع بأقدامهم ,, مشاعر أنني قد أصبح مجنوناً متأصلة في داخلي .
ويؤمن كنج أن الخوف ظاهرة انسانية موجودة في داخل كل منا بدرجات، وان هذه النسخ المباعة من رواياته، والمشاهدين الكثيرين الذين يذهبون لرؤية أفلام مأخوذة عن قصصه إنما يطردون الخوف من أعماقهم برؤية آخرين يعيشون في ظروف نفسية وحياتية أصعب.
وأهم مافي هذا الملف الذي فتحته المجلة، أنها نشرت أسباب اعجاب القراء بهذه الروايات، حيث كتب أكثر من عشرة من قرائه تفسيرات لهذا الاعجاب, حيث رأى الرسام (33 سنة) ما أحبه في ستيفن كنج أن عالمه الفنتازي يدور في إطار الحياة اليومية وبأشخاص عاديين، ولاشك أن أطول إيقاع الأحداث يسمح باظهار العنصر النفسي العميق لابطاله، فنحن نرى فيهم المواقف الانسانية في قمة تطرفها, بالإضافة إلى التحليل النفسي العميق, أكثر من بقية الأدباء الذين ينتمون إلى هذا العالم، فكتاباته السهلة مليئة بالتركيز، وأحداث رواياته تدور في مدينة مين التي عاش فيها طفولته، وهو في حاجة إلى أن يؤصل جذوره، وهذا يعجبني كثيراً .
ستيفن كنج لايزال يعيش في ولاية مين في مدينة بانجور التي لايزيد عدد سكانها عن ال 35 ألف نسمة التي ولد بها عام 1947، لأب عمل خبيراً كهربياً في غرب الولايات المتحدة، وأم وفرت سبل الراحة لأسرتها كانت تردد لابنها دوماً: لوكنت بنتاً لعدت إلى روما فاقداً عذريتك وقد بدت الأم شديدة الصرامة مع ولديها من أجل أن يكونا مواطنين صالحين , وفي عام 1960 اكتشف ستيفن كنزا لايقدر بثمن، يتمثل في مكتبة أبيه المهملة، وبدأ الكتابة على غرار الروايات التي يقرؤها، ولم يكف عن الكتابة والقراءة منذ ذلك الحين، ونشر روايته الأولى ساحرات ساليم عام 1972, ثم تتابعت رواياته التي تحولت إلى أفلام جلبت له شهرة أوسع، منها كاري ، ثم إشراق و المنطقة الميتة ، و كرستين ، و المطاردة ، ميزيري ، كوجو ، مشعلة النيران ، عين القط ، حكايات من الجانب المظلم ، السائرون نياماً ، الرصاصة العقدية ، شوشانك ، وكان آخرها الميل الأخضر ، وهناك الكثير من هذه الأعمال التي رشحت للعديد من جوائز الأوسكار وحصلت عليها بالفعل.
والغريب أن السينما بدت بالنسبة لستيفن كنج ظاهرة خفية بالغة السحر، حيث جذبته بقوة فاتجه إلى الاخراج عام 1992 في فيلم السرعة القصوى , كما قام بكتابة سيناريو مأخوذ عن روايته باسم العرض المعلن وقام في نفس الفيلم بالتمثيل في دور رئيسي، وهو من اخراج جورج روميرو وكانت هذه العلاقة على حساب صلته بالأدب، حيث لم يعد نفس الكاتب غزير الانتاج في السنوات الأخيرة, وصار الناس يرون أعماله على الشاشة أكثر مما يقرأون له أعمالاً جديدة، ولعل تجربته الأخيرة بتأليف رواية للنشر فقط في الانترنت لم تترك صداها بعد، لكن لاشك أن كل هذا يمثل ظاهرة اسمها ستيفن كنج .


أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved