أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Wednesday 26th July,2000العدد:10163الطبعةالاولـيالاربعاء 24 ,ربيع الثاني 1421

مقـالات

مفهوم السلوك الإجرامي وأهداف العقاب
من أصدق المؤشرات على درجة الوعي الفكري واتجاه التغير الاجتماعي 3-5
مضواح بن محمد آل مضواح
وفي الماضي القديم كان يمكن لأي مجتمع أن يحيط نفسه بسور يعزله عن المجتمعات الأخرى ، مكتفيا بإنتاجه الغذائي والثقافي ، لكن الأمور تغيرت في هذا العصر ، فقد تقلصت المسافات بين الأمم وتداخلت المصالح واتجهت المجتمعات نحو تكوين منظومة متجانسة تتأثر بما يحدث في المجتمع الواحد منها تأثرا معنويا وماديا ، وأصبح لزاما على أي مجتمع يرغب العيش في أمان أن يشارك في مسيرة الحضارة الإنسانية من خلال التعامل مع أفراده ، ومع المجتمعات الأخرى كافة ، بسلوك منسجم مع قواعد السلوك الإنساني والآداب الحضارية للتفاهم الدولي ,, ولقد أصبحت المفاهيم والتعاريف واحدة من أهم المؤشرات على مدى هذا الانسجام ، وعلى مستوى التقدم الفكري للمجتمع الذي نشأت فيه ، وقدرته على تقبل التغيرات ، ومرونته في اعادة صياغة مفاهيمه على أسس من ماضيه الثقافي وحاضره العالمي ، فلقد أثبت الواقع التاريخي لتطور الفكر الإنساني أن المفاهيم والتعاريف ليست إلا مجرد مصطلحات يستمر العمل بها إلى وقت تظهر فيه الحاجة إلى تغييرها أو إعادة صياغتها تمشيا مع التطور الحاصل في الفكر والمعرفة .
والمفاهيم في العلوم الانسانية غير ثابتة ، وهي معرضة للنقد والاختلاف ، يضاف إلى ذلك أن السلوك الإجرامي ليس فعلا ثابتا له أوصاف محددة ثابتة في كل زمان ومكان ، حتى يكون من السهل العثور على مفهوم له يرضي مختلف الثقافات ، فالتعاريف في العلوم الإنسانية بعامة ، وفي مجال علم الإجرام بخاصة ، ليست إلا اصطلاحات اجتماعية فلسفية لغوية معرضة للنقد والاختلاف حتى داخل المجتمع أو التخصص الواحد ، ورغم ذلك فإن هناك حقيقة لا يرق الشك إليها وهي أن مفهوم السلوك الإجرامي وأهداف العقاب من أصدق المؤشرات على درجة الوعي الفكري واتجاه التغير الاجتماعي في أي مجتمع ، فقد كان تفسير السلوك الإجرامي في العصور القديمة ينبثق من أسس باثولوجية وأسطورية ، فالجريمة عندهم تنتج بسبب دخول أرواح خفية شريرة إلى جسم الفرد ، وتأمره بمعصية طوطم معين ، من خلال قيامه بفعل اجرامي ، وكذلك بسبب وجود قوى شريرة تتحكم في الكون ، وتعمل على أذى الإنسان ، من خلال قدرتها على إحداث الكوارث الطبيعية كالعواصف والفياضانات والزلازل والبراكين ، وتسخير أشخاص من البشر للقيام بأفعال الشرور والإجرام ، وظل هذا الاعتقاد سائدا حتى مرحلة متقدمة من التفكير الإغريقي ، إذ يرى ( افلاطون plato ) ان سبب الجريمة هو دخول الشيطان إلى جسم الإنسان وإجباره على فعل السلوك الإجرامي ، كما يرى قدماء الإغريق أن الطبيعة والجريمة محكومة بمشيئة الآلهة وأن المجرم ما هو إلا شخص أصيب بلعنة لاهوتية ، لذلك فإن الهدف من العقاب في تلك العصور كان محصورا في الانتقام من الجاني , وليس هذا مستغربا في مجتمعات تنعدم فيها القوانين والاتجاهات أو المفاهيم الإنسانية ، على اعتبار أن القانون أو الدستور يتولد عنه مسار افتراضي يمكن الناس من إنجاز التعاملات في حياتهم اليومية - في الظروف الطبيعية - في تفاهم وانسجام إلى أقصى درجة ممكنة ، وكذلك على اعتبار أن الاتجاهات والمفاهيم الإنسانية ، في هذا المجال ، هي إطار يتم من خلاله التعامل مع من وقع في ظروف غير طبيعية حدت به إلى الخروج عن ذلك المسار المنظم للحياة الاجتماعية بهدف مساعدته وإعادته إلى اتجاهات مجتمعه ,إلى ذلك نجد أن أسلوب الانتقام كان سائدا في العصور القديمة كرد فعل تجاه الأشخاص المذنبين ، وبمعنى أوضح كان الانتقام هو الهدف العقابي الأوحد ، وتدرج هذا الأسلوب في ثلاث مراحل تطورية بدأت بالانتقام الفردي ، فكان الفرد المجني عليه ينتقم لنفسه بنفسه ، وحين أصبح المجتمع يتكون من وحدات أكبر ، هي العشائر التي تتشكل إثر اتحاد مجموعة من الأسر ، ظهرت المرحلة الثانية وهي الانتقام الجماعي ، أو الانتقام تحت إشراف الجماعة المتمثلة في الأسرة أو العشيرة ، واستمرت هذه المرحلة حتى نجحت العشيرة في استقطاب أو ضم أسر وعشائر أخرى لتشكل القبيلة ، فاقتضت قدرة الخالق عز وجل بعث رسله الى البشر لمساعدتهم في الاهتداء إلى الطريق القويم ، ولما لم يكن البشر كلهم مهتدين ، فقد استمرت الأديان الوثنية والخرافات في التأثير على مجريات الحياة ، إذ كان يقوم فرد واحد مثل حاكم القبيلة بتوجيه الشعور الديني ، ويصدر احكامه العقابية الانتقامية في قالب ديني لإرضاء الآلهة والسيطرة على مشاعر العامة وتوجهاتهم ، ومن هنا ظهرت المرحلة الثالثة من مراحل الانتقام ، وهي الانتقام الديني , ومن الواضح ان الانتقام في المرحلة الاولى كان يعتمد على عامل القوة والقدرة الفردية للمجني عليه على الانتقام ، مما يجعل الغلبة لعامل العنف في ارتكاب العمل الإجرامي ورد الفعل عليه ، وطبيعي أن يزداد عدد الأفعال الإجرامية في أي مجتمع إذا تساوت فيه وسيلة ارتكاب الجريمة ووسيلة الرد عليها , أما المرحلة الثانية فيبدو أنها كانت أخف مراحل الانتقام قسوة على الجناة ، لأن اشتراك الجماعة في النظر لا بد أن ينضوي على شيء من التداول أو الشورى من شأنه إزاحة قدر من التسلط الفردي في الانتقام كما وكيفا وتمثل المرحلة الثالثة نكسة أو ارتداد لفكر الجماعة إلى الفكر الفردي في العقاب ، لأنها جمعت بين المعتقدات الخرافية الوثنية والتعسف الفردي في العقاب ، الأمر الذي يؤهلها لأن تكون من أسوأ المراحل التي عانى منها المذنبون والبشر بشكل عام عبر العصور ,, وعلى الرغم من مرور العقاب في العصور القديمة بهذه المراحل الثلاث - وكان يفترض أن تكون كل مرحلة أفضل من سابقتها - إلا أن العقاب في تلك العصور ظل يتميز بالقسوة والوحشية فالتعذيب والقتل هما أساس أي رد فعل تجاه الجناة وبوسائل مختلفة ، كدفن الجناة أحياء ، أو تعريضهم للوحوش والتماسيح ، أو ربط الجاني إلى حصانين يجريان في إتجاهين متعاكسين ، أو وضعه على الخازوق ، وتميزت أيضا بأنها بدنية وتنفذ مباشرة ، مما دفع البعض إلى الاعتقاد بأن عقوبة السَجن لم تكن معروفة ، وأن السِجن كان يستخدم لايواء من لم يحاكموا بعد ، أو من ينتظرون تنفيذ العقوبات فيهم .
وفي العصور الوسطى لم يخرج تفسير الظاهرة الإجرامية عن نمط الفكر السائد في أوربا إبان عصر الظلام ، ذلك الفكر المتولد عن سيطرة الكنيسة ونظام الإقطاع وتركة العصور القديمة من الأفكار والمفاهيم السيئة ، فقد كان تفسير السلوك الإجرامي في العصور الوسطى يرى أن الجريمة اعتداء على القانون الكنسي ، وأنها ناتجة كذلك من تأثير الشيطان والأرواح الشريرة والجن ، ويظهر أن الجريمة كانت تعتبر في المقام الأول اعتداء على حقوق الكنيسة قبل أن تكون اعتداء على الإنسان وحقوقه ، على الرغم من أنه كان من المفترض ، إبان العصور الوسطى ، أن تتبلور وتتطور المفاهيم والأنظمة الحسنة التي كانت قد ظهرت في أواخر العصور القديمة ، كمثاليات المدينة الفاضلة والديمقراطية في الحكم ، غير أن الفكر الإنساني أصيب بالانكماش والجمود بسبب السيطرة الكلية للكنيسة الكاثوليكية على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية مما جعل الفكر في العصور الوسطى خليطا هجينا من الأفكار اللاهوتية والفكر الإغريقي القديم غير المنقح فكان العقاب خليطا من العقاب القانوني والكنسي ويتنافى مع الخلق الإنساني والعقل السليم والمنطق ,, واستندت الكنيسة في قسوة عقوباتها إلى فكرة التطهير ، إذ كانت تبرر تلك القسوة بأنه كلما كان العقاب أشد قسوة كان التطهير من الذنب الإجرامي أعمق وأشمل ، دون الالتفاف إلى هدف إصلاحي مما هو معروف اليوم في العالم المتحضر ,
وفي بداية القرن السابع الميلادي ظهر الدين الإسلامي ، فقد بعث الله سبحانه وتعالى رسوله محمد ، صلى الله عليه وسلم ، بالدين الحق ، قال تعالى في سورة التوبة ، آية رقم 33 :(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ), وقد ورد في الشريعة الإسلامية عدد من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة الدالة على مفهوم إسلامي للسلوك الإجرامي والعقاب , فالله تعالى قد حرم على آدم ، عليه السلام ، بعض الأفعال حتى قبل وجوده على هذه الأرض ، قال تعالى في سورة البقرة ، آية رقم 35:(وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ), لا شك أن الله تعالى سن شريعته الغراء لمصلحة بني البشر ، فلم ينه الله عن فعل إلا كان في إتيانه مضرة على الإنسان ، قال تعالى في سورة الأعراف ، آية رقم 22:(فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين),وقد أكدت الشريعة الإسلامية عن أن سبب حدوث السلوك الإجرامي هو الشيطان الرجيم ، يدخل جسم الإنسان ويأمره بفعل الجرائم ، قال تعالى في سورة البقرة ، آية رقم 268:(الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم),وورد في صحيح مسلم أن الرسول ، صلى الله عليه وسلم قال ، في حديث شريف:( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم).
والشريعة الإلهية لم تكتف بالتجريم ، بل سن كثيرا من العقوبات على عصيان تعاليم الشارع ، ويتضح في القرآن الكريم أن أول عقوبة عملية تعرض لها أدم ، عليه السلام ، هي طرده من الجنة ، قال تعالى في سورة الأعراف ، آية رقم 24:(قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين), ويتضح في القرآن الكريم ، أيضا أن أول فعل للإنسان خالف فيه أوامر ربه ونواهيه كان أثناء وجوده في الجنة قبل أن يتأثر بالعوامل البيئية والثقافية على الأرض ، وهذا يشير ، بوضوح ، إلى الضعف المركب الذي أوجده الله تعالى في النفس الإنسانية بالفطرة ، وهنا يلحظ أن القرآن الكريم قد سبق النظريات التي تحدثت عن الفطرة كأساس للسلوك الإنساني ، كما قال أرسطو في العصور القديمة ، وكما جاء في بعض النظريات في العصور الحديثة لعلماء ومنهم:(توماس هوبز - وليام ماك دوكال - فرويد), كما أن في الآيات السابقة دلالة على دور التقليد في حدوث السلوك الإجرامي ، وهي نظرية جاءت متأخرة على يد العالم( تارد) في العصر الحديث ويتضح ذلك أيضا في قوله تعالى في سورة الأعراف ، آية رقم 20-21:(فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين), لقد أدى كل ذلك إلى بلورة مفهوم للسلوك الإجرامي وأسبابه عند المسلمين منذ بدايات القرون الوسطى ، وما يزال ، فالجريمة تحدث بسبب إغواء الشيطان وفتنه لآدم وبنيه مستغلا ما يوجد في فطرته من عوامل موجهة لسلوكه وما أودعه الله في بيئته من عوامل الإغراء ، قال تعالى في سورة الكهف ، آية رقم 7:(إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا).
لقد ورثت مجتمعات العصور الوسطى عن مجتمعات العصور القديمة ، في المجتمع الغربي ، كثيرا من الرؤى والمفاهيم في مجال العقاب كدفن الجناة أحياء ، أو تعريضهم للوحوش والتماسيح ، أو إلقائهم في زيت يغلي ، أو ربط الجاني إلى حصانين يجريان في اتجاهين متعاكسين ، أو وضعه على الخازوق ليخترق أحشاءه حتى الموت ، ففي عام 1400م دفنت مجموعة من الجناة في أوربا أحياء كعقوبة طبيعية لهم على جرائم اقترفوها ،إضافة إلى ما استحدث في العصور الوسطى من عقوبات بدنية قاسية لا تستهدف الاستئصال كصلم الأذن وجدع الأنف والجلد علنا ، أو الوسم بالحديد والنار ، أو افقاد بعض الحواس والأطراف ,, إلى ذلك كان القانون في العصور الوسطى مفرطا في سعة إطار الأفعال المعاقب عليها ، ليس هذا فحسب ، بل كان كذلك في كثرة الأفعال التي يعاقب عليها بالإعدام ، فالتشريع الإنجليزي كان يحتوي على مائتي فعل من الأفعال التي يحكم على من ارتكب أيا منها بالإعدام ، وكان القضاة أشد قسوة من اللجوء إلى الاجتهاد والتشدد في العقوبات البدنية ,, ففي فرنسا وصل عدد من حكم عليهم قاض فرنسي بالإعدام خلال أربعين عاما عشرين ألف شخص .
أما الهدف من العقاب في الإسلام فلم يكن إذلال الجاني والانتقام منه كما كان سائدا لدى المجتمعات الأخرى في العصور القديمة والوسطى ، وحتى في العصور الحديثة في بعض المجتمعات ، بل كان هدف العقاب في الإسلام هو تحقيق حياة آمنة وسليمة للفرد والمجتمع من خلال حمايته للنفس ، والعقل ، والدين ، والعرض ، والمال ، قال تعالى في سورة المائدة ، آية رقم 45:(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ، والأنف بالأنف والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون), وقال تعالى في سورة البقرة ، آية 179:(ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) بالإضافة إلى الهدف الديني من العقوبة وهو إقامة شرع الله في أرضه ، قال تعالى في سورة المائدة ، آية رقم 45:(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون).

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved