أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 10th September,2000العدد:10209الطبعةالاولـيالأحد 12 ,جمادى الثانية 1421

مقـالات

المعلمي رجل الأمن اللغوي
د, أحمد بن محمد الضبيب*
خسارتنا بوفاة الفريق يحيى المعلمي خسارة مضاعفة,, لم نفقد بوفاته أديبا، أو مفكراً أو عالماً وحسب، وإنما فقدنا شخصية بارزة، مكافحة في ميدان الدفاع عن الفصحى، والحفاظ على التراث العربي الأصيل.
وهذه المهمة من أصعب المهمات وأكثرها خطرا، في زمن اختلطت فيه المفاهيم، وساد فيه البهرج من الكلام، واتسعت فيه الفتنة بالأجنبي لغة وسلوكا، واستولت فيه على الناس هزيمة نفسية، قادتهم إلى التفريط بالأسس، فأخذوا ينظرون الى لغتهم بازدراء، والى تراثهم باستخفاف، إنه عصر اللامبالاة بكل ما هو وطني وعربي وإسلامي، والانسياق وراء كل ما هو غريب ووافد، تعيش فيه الفصحى أحلك عصورها، بين لغة أجنبية تطردها من جميع مواقعها الشرعية في دور التربية والتعليم، والسوق والتجارة، والعمل، وعامية تنخر في جسدها، وتستولي على منابرها الثقافية، وآخرها منبر الشعر العربي حتى انصرف مفهوم الشعر عند الناس الى الشعر العامي، وتوارى الشعر الفصيح أو كاد، وتصدر السخف والغثاء وسائل الإعلام وصفحاته.
في هذا العصر، وفي ظلال هذه الظروف كان وجود يحيى المعلمي بيننا مهما وضروريا، لأنه كان بما يملك من علم غزير، وما يتميز به من عزيمة متقدة وما جُبل عليه من خُلقٍ رفيع، يقرع الجرس بين آونة وأخرى فينبه ويحذر، ويتصدى للمتهاونين ويرفع صوته بكلمة الحق.
عندما تعرفت على نتاج الفريق يحيى المعلمي أول مرة,, كنت أظن لعدم معرفتي الحقيقة به انني بازاء رجل عسكري تقاعد من وظيفته الأمنية، فأخذ (يُسَليِّ) نفسه، ويقطع وقته بالتأليف والكتابة، كما يفعل الكثيرون الذين دخلوا الأدب من باب الهواية الواسع ولم يكن لعملهم الوظيفي أي صلة بهوايتهم، وسبب هذا الظن أنني كنت وما أزال أشاهد كثيراً من المؤلفات التي تصدر عن بعض المؤلفين ولكنها لا تنبع من تخصص او ملكة، بل إن بعضها قد صدر في ظروف غامضة، يشك الإنسان ان تتعدى العلاقة فيها بين الكتاب ومؤلفه وضع اسم الأخير على غلاف الكتاب, ولقد عشت عن كثب قصة من هذا النوع عندما كنت عميدا لشؤون المكتبات في جامعة الملك سعود (1394ه 1400ه) فقد تقدم أحدهم وكان شاعرا نبطيا الى الجامعة يطلب شراء كمية من نسخ كتاب ألفه, وعندما نظرت في الكتاب وجدته كتابا يلخِّص التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى عصرنا الحاضر,, ويأتي على ذكر تفاصيل للدول والخلفاء من الأمراء والحكام والحوادث, قلت للمؤلف (الذي لم يكن يحسن الحديث بالفصحى أو الكتابة بها): أعرفك شاعرا نبطيا، فكيف تحولت مؤرخاً؟! فغمغم وهمهم,, فقلت له: إنني أرى أنك أوغلت في حقل ليس من شأنك أو تخصصك، ولا استطيع ان أغامر بوضع كتاب على الرف في مكتبة جامعة الملك سعود دون ان أثق بما فيه من محتويات, كما أني لا أستطيع تبادل كتاب من هذا النوع مع الهيئات العلمية ما لم يكن صحيحا علميا.
قال: ما العمل؟!
قلت: سأحيل الكتاب الى قسم التاريخ في الجامعة، وسوف ينظر المختصون فيه، ويكتبون تقريرا عن صلاحيته,, فإذا كان صالحا اشتريت منك النسخ المقررة، وإن لم يكن كذلك فاعذرني في عدم الشراء,, لم يعجبه كلامي,, وبعد وقت ليس بالطويل جاءني تقرير الزملاء في قسم التاريخ,, فإذا بالكتاب مليء بالأخطاء التاريخية، والتداخل بين التواريخ والدول,, وكانت التوصية ان الكتاب لا يصلح بتاتا أن يكون مرجعاً في التاريخ الإسلامي.
راجعني المؤلف بعد ذلك,, فأخبرته الخبر، وأبديت له اعتذاري عن عدم الشراء، فانسحب غاضبا,, وبعد مدة وصلني منه ظرف بداخله صورة رسالة مرسلة إليه من أحد مسؤولي جامعاتنا, يشكره فيه على إرسال كتابه القيم إليه، ويَعُدّه إضافة جيدة للمكتبة العربية، ويطلب منه ان يؤمن للجامعة مائتي نسخة منه، وتحت هذه الرسالة كتب المؤلف بخط يده: مع التحية الى الدكتور أحمد الضبيب الذي يوفر الميزانية لشراء الكتب الأجنبية!! .
في دنيا النشر والتأليف والتحقيق مآس كثيرة,, فليس كل مؤلف مؤلفاً بحق وليس كل كتاب او محقق هو في الحقيقة الكاتب والمحقق, وإذا سلمنا بوجود الرغبة في التأليف، فأين العلم والملكة والمنهج وغير ذلك من شروط التأليف؟ هؤلاء (المؤلفون) يخادعون الناس والقراء,, وما يخدعون إلا أنفسهم, فما أكثر الأخطاء التي تنسب إليهم في هذه المؤلفات دون ان يشعروا بها,, فيسيئون الى العلم والى أنفسهم مثل هؤلاء المؤلفين يجهلون أقدراهم، ويستخفون بأقدار قرائهم, ولكنهم لن ينجوا من محاسبة العلم والتاريخ لهم, هذا اذا لم تستقر مؤلفاتهم في زوايا الإهمال والنسيان.
عندما تعرفت على نتاج المعلمي أول مرة كنت أظنه من المؤلفين المغامرين، ولكني بعد ان التقيت به وتابعت أعماله رحمه الله وجدت فيه أديبا أصيلا، متين الثقافة: عميق المعرفة بالتراث، شديد التمكن من اللغة والاعتزاز بها، ووجدته أيضا بارع التذوق للشعر، متمكنا من موسيقاه وعروضه، وعلمت أنه كان شاعرا مجيدا، ولكنه لم يستمر مع الشعر، ولم يكثر منه, ثم وجدته بعد ذلك يضع نفسه وإمكاناته في خدمة لغته وأمته، لقد حول موقعه الأدبي والثقافي الى موقع (أمني) يحافظ من خلاله على اللغة، فيتصدى للضلال الفكري والتلوث اللغوي ومن هذا الموقع داهم أوكار الانحراف اللغوي، في الصحافة، والتأليف، وشن الحملات على الشعر العامي الذي استفحل أمره، واستطار شره، ولعله الوحيد الذي بلغ به الحماس الى حد التعبير الفوري باللسان، والتغيير عن وجهة نظره من خلال الهاتف مع أشخاص لم يكن لديه سابق معرفة بهم, ولعمري إن ذلك يقتضي شخصية ذات عزيمة صادقة وجرأة فريدة لانتهاب ما يقابلها من عنت في سبيل التعبير عما تعتقده, وهو لا يكتفي بالتنبيه بل يتخذ وسائل متعددة منها ما دله عليه حسه الأمني ففي سبيل إثبات الخطأ وتقريره في ذهن المخطىء يسلك أحيانا أسلوبا نفسيا يثير به عاطفة المخطىء كي يرتدع عن عمله, وقد قص علينا في إحدى مقابلاته قصة تصور ذلك فقال:
وقد رأيت مرة لوحة بجوار احد الفنادق الكبيرة، مكتوبا فيها عبارة: (هل لك في فنجان قهوة,, ولما لا؟) وتحتها ترجمتها باللغة الانلجيزية، فطلبت مدير الفندق بالهاتف، وطلبت منه تصحيح العبارة، وأن يكتب (ولم لا؟) فأجابني بأن الناس تفهم المقصود من اللوحة, فاتصلت بمساعد مدير الفندق، وقلت له إنكم كتبتم في اللوحة (why note) فاهتم المساعد، وطلب رقم هاتفي ليرد على ملاحظتي، وبعد قليل اتصل بي وقال: إنه لم يجد في اللوحة خطأ فهي مكتوبة (why note) فقلت له: هذا صحيح، ولكني أردت ان اختبر مدى اهتمامك بتصحيح الخطأ,, فقال لي: لو وجدنا في اللوحة خطأ لنزعناها فورا، وأعدنا كتابتها, فقلت له: حقا، ولكن زميلك العربي لم يبال بالخطأ في النص العربي (المجلة العربية: ذو القعدة 1420ه).
وهكذا لم يجد المعلمي وسيلة لإقناع المستهترين بسوء سلوكهم نحو لغتهم سوى ضربهم باللغة الأجنبية التي يحرصون عليها أشد الحرص، ويشعرون بالخجل من الخطأ فيها، بينما لا تهتز لهم شعرة عند الخطأ في لغتهم الأم، فيبين لهم بطريقة ساخرة كيف هانت عليهم هذه اللغة والى أي مدى من التخلف هم فيه يرتكسون.
ولقد ترك المعلمي تراثا كبيرا من المؤلفات التي تتناول شتى الموضوعات في الثقافة العربية,,, ولا شك انه سيخلد بيننا بأعماله,, ولكن هذا الجيل سوف لا ينسى له مواقفه الصلبة ومعاركه في سبيل اللغة والتراث,, كما لا ينسى له انه كان سامي الخلق، عفَّ اللسان,, لم ينزلق في خصوماته الى مهاوي الابتذال، وإنما كان دائما يملك نفسه عند الغضب، ويتعالى على الشتائم والإسفاف,.
لم يترك المعلمي كتبا وأعمالا مجيدة وحسب وإنما ترك أيضا ذرية صالحة يمثلها ابنه المهندس عبدالله، الذي يبهرك بفصاحته وحسن أدائه للغة وتدفقه الجميل، عندما يتحدث بالفصحى المعربة بأسلوبه الذي لا يمل سماعه,, إنه مثل مشرق للتوازن في حياة العربي المسلم المتمكن من لغته ومن لغة الأجنبي,, والمشارك في علوم العصر ومتطلباته، المعتز بنفسه وقيمه والمستفيد من معطيات هذا العصر دون التفريط بالأسس والمبادىء.
ان نجاح الفريق يحيى في تربية ابنه هذه التربية السليمة أكبر دليل على حسن نيته، وعلى التوفيق الذي حباه الله به,.
وأخيرا,, يا أبا عبدالله، لقد فقدناك في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إليك,, ولكن قضاء الله نافذ لا مرد له,, فرحمك الله,, وفسح لك مكانا في جنات النعيم.
ورّاق الجزيرة,.
سعدت ان خصصت الجزيرة ضمن خطواتها التطويرية صفحة للتراث بعنوان وراق الجزيرة وتابعت ما نشر على هذه الصفحة من مقالات وعروض وأخبار، ولا شك أن ذلك كله يمثل اضافة نوعية الى رصيد الحركة الثقافية في بلادنا.
إن حركة تحقيق التراث ونشره في المملكة تمثل ظاهرة ثقافية بارزة ولذلك فإن كثيرا من القراء المهتمين بالتراث يتطلعون الى الإعلام التراثي في الصحافة السعودية,, ولا ننسى في هذا المجال الجهود التي قام بها مؤسس صفحات الإعلام التراثي في صحفنا المحلية الرائد الجليل الاستاذ الدكتور محمد يعقوب تركستاني فقد بدأ هذا المشروع في جريدة المدينة المنورة سابقا ثم انتقل بعد ذلك الى جريدة البلاد ,
وقد بلغ ملحقه التراثي الآن سنته الثالثة والعشرين, نشرت فيه كثير من البحوث السديدة في التراث، كما نوه بكثير مما صدر من المؤلفات التراثية، فتحية للدكتور محمد يعقوب تركستاني بهذه المناسبة التي نتذكر فيها جهده وكفاحه من أجل إعلام تراثي في الصحف اليومية، وحبذا لو جمعت صفحات هذا الملحق بطريقة التصوير وصدرت على قرص مدمج فإن فيها من الفائدة لمحبي التراث ما لا يخفى على كل متابع, ولعل مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية أجدر المؤسسات للقيام بهذا المشروع,, وتحية لصفحة وراق الجزيرة وللمشرف عليها الاستاذ يوسف محمد العتيق، مستبشرين بما سوف تحمله إلينا في قادم الأيام من مقالات وعروض,, متمنين ان يتسع صدر الجزيرة وصدر المشرف على الصفحة كي تتضاعف المساحة الى صفحتين في الأقل,, إن لم يكن أكثر,
وفق الله العاملين وسدد خطاهم.
* عضو مجلس الشورى

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved