أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 10th September,2000العدد:10209الطبعةالاولـيالأحد 12 ,جمادى الثانية 1421

الثقافية

الشيخ والصحراء
لا أظن همنغواي الشيخ والبحر التي نال بها جائزة نوبل، لا أظنه إلا معلما أرهقه التعليم من أعلاه حتى أخمص أخماص قدميه، رجع متعبا منهكا تمام الساعة الواحدة ظهرا بعد صراخ وعويل وتشقيق جيوب ولطم خدود مع كل أحد بلا استثناء الا الطلاب ومن نحا نحوه من المدرسين الذين شاركوه همه فشققوا وصرخوا ولطموا وفعلوا فعله!.
رجع الى بيته وتناول لقمة عجلى، وثنى بشربة حرى، ثم ذهب لفراشه وأراد النوم فما وجد لذلك سبيلا، تقلب ذات اليمين وذات الشمال فلم يظفر بطائل فما كان منه إلا أن امتطى صهوة قلمه وسله وأراد أن يشفي غليله ممن أقظ مضجعه فألف الشيخ والبحر وما قصد بالشيخ إلا هو، ولا بالبحر إلا قظاظ المضاجع!!
أليس البحر رائعا؟
ألا يستحق هذا القظاظ أن يوصف بالبحر؟
ألم تقل العرب المستعجمة: هو كالبحر في الهلكة لأن الداخل له مفقود والخارج منه مفقود أيضا!!


هو البحر من أي النواحي أتيته
فلجته التعبيس والخصم ساحله

ألم يقل شنتر بن عداد :


أنا الكره في أحشائي الحقد كامن
فهل ساءلوا المسكين عن هجماتي !!

بل هو كل هذا!!
فليلبس هذا الوسام عن جدارة، وليتبجح به، وليشمخ بأنفه، وليعلقه على مكتبه الفخم الوثير!!
وراح همنغواي يكتب ويكتب، ويمزق ويتمزق، ويذكر معاناة الشيخ ومجهوده الكبير مع السمكة البائسة التي اصطادها بعد جهد جهيد وتعب شديد، حتى انتهى وقد انتهت روحه معها، بعد أن تناوشتها الأنياب والأضراس والمناشير الحداد حتى أصبحت شذر مذر، وأثرا بعد عين، وعظما بعد لحم، وضغثا على إبالة.
طار النوم وما وجد مقيلا، وتمخض همنغواي فولد رواية الشيخ والبحر .
ثم اطلع نوبل مكتشف الشوكة والسكين على جهد هذا المسكين فأعطاه جائزة أدب التنفيس!.
اذا فلا تثريب عليّ ولا حرج ولا مشاحة في أن أكتب الشيخ والصحراء وقد اخترت الصحراء لأني عشت في ربى نجد بين الشيح والعرار والقيصوم، وعلى سهولها ووهادها ترعرعت ومنها تعلمت، فأنى لي ببحر أصطلي بناره؟ ولعل جزيرتنا تمن علينا بنوبلة تسير بذكرها الركبان، وأي فرق بين الشيخ والبحر والشيخ والصحراء؟ لا فرق إلا أن معاناتي في الصحراء ومعاناته في البحر!! وصيدي ظبي وصيده سمكة، هو غريب الوجه واليد واللسان وأنا مغرق في العروبة أصيل في معرفة علوم الرجال، وما ذنبي إن كنت نزيل الصمان أو الدهناء ويحجزني عن البحر مئات الفراسخ وهو يتقلب بين جبال كلمنجارو وشلالات نيجارا؟ فليس لي وأنا شيخ إلا لهيب الصحراء.
تأبطت بندقيتي الساكتون وهي آلة حربية عجيبة، سهلة الحمل، قوية الأثر، تجعل الضحية تموت ألف موتة قبل أن تموت!! تستخدم في غزو الأعداء خصوصا الجرابيع والضباب والسحالي التي ليس لها هم إلا ما يريد عنتر (الذباب الأزرق) وهذه الآلة العجيبة برغم تأثيرها القوي إلا أنها لا تؤثر!! لكن تدغدغ العواطف وتلهب الحماسة في الطراد واعتلاء الوهاد!
خرجت من خيمتي مع الصباح والقماري في وكناتها، بمنجرد قيد الأوابد أهزل ذهبت وكلي أمل بصيد وافر، فما راعني إلا أفراخ بالصمان زغب الحواصل لا ماء ولا شجر، فحاولت أن استفتح بواحدة لكنها كانت على حذر فطارت وطار معها الأمل فلا رجعت ولا رجع الأمل, حاولت كرة أخرى ولكن بلا نتيجة، ثم كررت وفررت وأقبلت وأدبرت كجلمود صخر حطه السيل من عل والنتيجة صفر, فلما جاء الضحى واشتدت حرارة الشمس وازداد لهيبها لذت بعوسجة استظل بظلها الأفيح واستلقيت على ظهري وأخذتني سنة من النوم، فما انتبهت إلا وقد زالت الشمس، وتذكرت صبيتي الذين يتضورون جوعا وكيف سأغديهم هذا اليوم, وماذا لو طرقني طارق وأراد القِرى ولم يجد؟ فستكون مسبة الدهر عليّ وعلى أمة العرب جمعاء!! وسيتلقفها الأعداء من بني الأصفر، وستسري سريان النار في الهشيم, فشد ذلك من عزمي فبخبخت وخرجت في الهاجرة اتنقل من مكان لآخر بحثا عن طلبتي، وأصبت بضربة شمس، ولفحة هواء من رياح الدبور، لكني تحاملت ومشيت ثم خطوت بعدها حبوت حتى لاح لي صيد سمين ينبئ عن مجد حافل بالكرم أنسي به ذكر حاتم الطائي وكل من ذكرهم الجاحظ في كتابه عن رجالات الاقتصاد فقلت: الآن الآن, وصعدت بصري وصوبت بندقيتي نحو الظبي وضغطت الزناد فخر صريعا يتضرج في دمائه فلحقت به وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وذكيته، ثم حملته وقفلت راجعا الى حيث لاذت أم عامر.
وفي رحلة العودة رحلة الأحلام لاقيت الأهوال والشدائد، هاجمني أسد، وكمن لي قاطع طريق، وناوشت ذئبا، وقاتلت ضبعا، وساورت حية في أنيابها السم ناقع، وحارشت ضبا، وطاردت جربوعا، بل حتى الحشرات كانت لها مناوشة! فأي فريسة سهلة كنت لها؟! وأي معاناة عانيتها؟! وأي اجهاد وجهد وجهاد لاقيته؟!
لقد بلغ السيل الزبى فما عدت أطيق، وجاوز الحزام الطبيين فما فيّ روح, وهممت أن ألقي ظبيتي، وأن أنجو بنفسي، لكني أبو العزمات وأخو الشدائد، فتحاملت وحملت مزودتي وصيدتي التي لم يبق منها إلا الحنجرة والمصران الأعور! وامتطيت صهوة أهزلِ أغذ السير طلبا للخلاص, فما راعني إلا عدو ليس الى رده سبيل، ولا عنه محيد أو فكاك، أعداد هائلة، وكتائب متتابعة، وجيش عرمرم وبحر خضم تتلاطم أمواجه بعضه فوق بعض من الذبان العنتري تريد صيدي:


ولو أني بليت بهاشمي
خؤولته بنو عبد المدان
لهان عليَّ ما ألقى ولكن
تعالوا وانظروا بمن ابتلاني

وحاولت جهدي أن أتقيه لكنه ألح وكان الأقوى، وقد قالت عربنا: ألح من ذباب فانهزمتُ!!
ظفر بالغنيمة فرجعت كسيرا حسيرا أسفا على جهد يوم بؤت به بشسع نعل أبي, لكني أبو العزمات وأخو الشدائد والأهوال وما كان لحادثة تافهة أن تفل عزمي أو تثنيني عن مقارعة الخطوب, وعزمت على العود غدا والعود أحمد، والله أسأل منه التوفيق والاعانة.
عبدالعزيز بن محمد بن علي الثبيتي
الرياض
athbiti @ hotmail. com
أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved