أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 24th October,2000العدد:10253الطبعةالاولـيالثلاثاء 27 ,رجب 1421

مقـالات

قوانين التَّماس بين (السياسة والإعلام)(7/8)
د, حسن بن فهد الهويمل
والمتماسون مع القضايا المصيرية أكثرهم مصابون بخواء الفكر، ومأخوذون بغسيل المخ، ومجندون لتضخيم الإشاعات وترويجها، مغرمون بالركض في فجاج الأحلام، وكأن أحدهم (دون كيشوت) الحالم بتغيير الواقع بإمكانيات الماضي، وقوانين التماس تقتضي وعي الذات بما هي عليه، ووعي الآخر، والتقدير والتوقيت، والفعل المؤسساتي, إذ لم يعد للتشريع السياسي الفردي ولا للاجتهاد الشرعي الفردي ولا للفتيا الفردية مجال في زمن عرَّته الاتصالات وكشفته الأقمار والقنوات، (السياسية) و (الاجتهاد) و (الفتيا) يجب أن تكون مؤسساتية ليأمن الناس على حرياتهم وأفكارهم وعباداتهم, والتماس مع الدساتير التي لها أبعادها: المعرفية والتاريخية والتكوينية لا يجوز إلا بمعرفة تامة وإمكانيات استثنائية وعبر مطابخ مؤسساتية, والفكر السياسي الإسلامي له أعماقه التاريخية والمعرفية والتجريبية، ولا يجوز التماس معه عاطفياً، لا من الإسلاميين ولا من غيرهم، وفي الحديث : (إنما دواء العي السؤال) وفي الذكر الحكيم: (واسألوا أهل الذكر) ومن التجريب السياسي الإسلامي المغيب قول عمر: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) وقوله لمعارضه: (لا خير فيك إن لم تقلها، ولا خير فينا إن لم نقبلها), ومن قبله أبو بكر قال: (رحم الله من أهدى عيوبنا إلينا)، وقال في خطبة التنصيب: (لقد وليت عليكم ولست بخيركم), هذه أطراف من سياسة الإسلام، وتلك بعض حاكميته، وأخلاقيات حكامه وتصورهم للحكم، وأي خير في الدساتير الوضعية لم يكن في الإسلام ما هو خير منه؟, وما اتخذ باسم الإسلام وليس منه، أو ما فهم من الإسلام على غير مراد الله، أو ما جاء من خطأ أو تقصير لا يخول أحداً التحول إلى غير الإسلام، كما لا يخول تحميل النص الإسلامي مسؤولية الخطأ في الفهم أو الخطأ في التطبيق أو التقصير فيه، إذ هناك ملل ونحل ومذاهب شتى يلعن بعضها بعضاً، ويكفر بعضها بعضاً، وما أحد منها يقبل التعاذر والمؤاخاة أو الرد إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف، بل كل معجب برأيه مصنم لشيخه مدع انه الطائفة المعصومة المنصورة وهناك طوائف تدعي الحاكمية الإسلامية وأحزاب تتصرف بهمجية ووحشية باسم الإسلام، وهناك تطرف باسم الإسلام،وقتل مستحر باسم الإسلام، وحروب أهلية مجنونة باسم الإسلام، وتسلط على المرأة باسم الإسلام، وتقييد للحريات المكفولة إسلامياً باسم الإسلام، وهناك نفعيون وانتهازيون يشرعنون مقترفاتهم باسم الإسلام، ومن وراء ذلك استعمار ماكر مخادع يوطِّئ أكناف إعلامه لهذه المقترفات على أنها التطبيق الأصوب للإسلام، وهدفه تعميق الاشمئزاز العالمي من هذه التصرفات المنسوبة للإسلام, واقرؤوا إن شئتم ما كتب من دراسات بالعشرات عن صورة العربي في الإعلام الغربي والرواية الغربية من مثل:
صورة العرب في عقول الأمريكيين.
صورة العرب في الصحافة البريطانية.
صورة العربي في الأدب اليهودي.
الشخصية العربية في روايات أمريكا اللاتينية.
صورة العرب في القصة العبرية.
فهل من اثارة تثبت قبول الإسلام لمثل هذه المقترفات؟ الإسلام بريء ممن يخالف مقاصده ورحمته ورأفته وفي الحديث :(من يحرم الرفق يحرم الخير)، والله كتب الإحسان على كل شيء، وكل نفس رطبة فيها أجر، والبغي تدخل الجنة لأنها سقت كلباً، والمرأة تدخل النار لأنها حبست هرة، ومثير إعجاب الصحابة يدخل النار لأنه جزع فقتل نفسه متكئا على ذؤابة سيفه، والكلمة تقال في سخط الله تهوي بصاحبها في النار، وقاتل الذمي الكافر لا يرح رائحة الجنة، ومؤذية مؤذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومصاحبة الوالدين الكافرين في الدنيا معروفاً واجب إسلامي، والبر والإحسان للكافر غير المحارب مطلب إسلامي، وطعام الكتابيين، والمحصناة من نسائهم حل لنا، والزكاة تدفع لفقراء الذميين على بعض المذاهب, والأنصار يعجبهم اللهو، والرسول صلى الله عليه وسلم يخرج بعائشة لتنظر إلى الأحباش وهم يرقصون في المسجد، وفي المقابل حرم الحر والحرير والمعازف:


والدين يسر والخلافة بيعة
والأمر شورى والحقوق قضاء

ومن ثم فلا مجال لمصطلحات وممارسات همجية باسم الإسلام، وهي ليست منه في شيء، ولا مجال للمقارنة بين (الحكومة الدينية) و (الحكومة المدنية).
فالإسلام حكومة مدنية ودينية في آن, وهو الذي يحدد مشروعه ويصف مفرداته، وما يشيعه العلمانيون عن المؤسسات الإسلامية والفكر السياسي الإسلامي من حرب الشائعات، والفكر السياسي الإسلامي لا يتيح مجالاً (لولاية الفقيه) بانتظار المعصوم، ولا (السلطة المتدين) باسم الدين، ولا لفورية العودة إلى الحاكمية الإسلامية والاقتصاد الإسلامي في دول تورطت زمنا في العلمانية.
الإسلام يؤمن بالمرحلية والممارسة التكتيكية والتيسير، ويراعي مشاعر الناس ومصالحهم، وإن اضطره ذلك إلى الإبقاء على المفضول دون الفاضل، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (لولا أن قومك حدثاء عهد بكفر لأعدت بناء الكعبة على قواعد إبراهيم) وما منعه من ذلك إلا ما رسخ في أذهانهم من مشروعية المفضول، وإذ لا يتيح الفكر السياسي الإسلامي المشروعية لعدد من الأنظمة، تراه لا يمكن (للارهاب والعنف)، ولا (للغلو)، ولا (للثورات الدموية)، ولا (للتسييس الثوري للإسلام) ولا لعسكرة الأمة كافة ولا لتسييس العسكر, الحكم والسلطة لله الذي يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولا يمكن في الأرض إلا لمن أقام شعائره وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر, وأنظمة الحكم والدساتير لا تقبل التلفيق, الحكم: إما أن يكون لله، أو ليكن علمانياً خالص العلمانية، ثم ليكن شجاعاً في تقبل الديموقراطية في المنشط والمكره، لا أن يجعل هناك خيارات تغيب فيها الديموقراطية عند الحاجة, وهل يجوز لأحد أن يستأثر بالحكم عن طريق الغلبة والسطو على الشرعية عبر أي طريق، ثم يقول هذه هي الديموقراطية؟ ولو قامت الديموقراطية لكان هو أول ضحاياها,
ولعلي أذكر عشاق الدساتير الوضعية ممن يتماسون مع الفكر السياسي الإسلامي دون قواعد بما يجري في دول تدعي تطبيق الدساتير الوضعية من تعسف لا يمت إليها بصلة، ولنأخذ على سبيل المثال تركيا المتذبذبة بين دعوى الديموقراطية والعلمانية من جهة، وسلطة العسكريين القمعية من جهة أخرى، لقد قمعت حزب الرفاه ونفته، وهو المتصالح مع العلمانية والديموقراطية، والنافذ إلى الحكم بإرادة الأمة وبمقتضى الديموقراطية لا بقوة السلاح، لا لشيء أكثر من (أن نشاطاته تمس النظام العلماني للدولة) كما يشاع، وإذا رضي الشعب أي شعب بمرشح الحزب وبمشروعه، فلماذا تحمى العلمانية بقوة السلاح؟ وهل تتحقق الديموقراطية بفرض نظام علماني لا يحفل به الشعب ولا يراه؟ والعلمانية في العالم الإسلامي كافةعلمانية رسمية إعلامية، وليست شعبية، لأن عاطفة الشعوب العربية إسلامية، وممارساتها إسلامية في كل شؤون الحياة: كالزواج والإرث والزي والعلاقات والعادات والهوى، وتلك مصيبة العالم الثالث ومفكريه وعسكره المتسيس, فهل أحد من علماني العالم الإسلامي يستطيع أن يتخلى عن كثير من الأحكام الإسلامية في الممارسة لا في القول؟ إن الروائيين الذين يشيعون الفاحشة عبر أدب الاعتراف، والنقاد الذين يدافعون عن الرذيلة ويباركونها من أولئك الساقطين باسم حرية التعبير يأبونها لنسائهم وبناتهم، وهل أحد ممن يدافع عن محمد شكري وإداورد الخراط وطاهر ومقلديهم يرضى لزوجته أو أخته أو ابنته ما يبيحه لداعر يسجل عبر كلام رخيص أحط الأخلاق؟
ورسول الله صلى الله عليه وسلم خصم الشاب وهداه بهذا التساؤل العقلي حين جاء يستبيحه الزنا، والذين يتغنون بالديموقراطية من الحكام المتسلطين يأبونها لشعوبهم مثلما يأبى المبدعون والنقاد السقوط لمحارمهم، فلماذا يبارك المسلعنون لبلاغتهم ديموقراطية الادعاء ويدافع النقاد عن التفسخ الروائي، والمفكرون الإسلاميون الرافضون للادعاء والرذيلة يوصفون بأقذع الأوصاف، ويهدد قادتهم باتخاذ جماجمهم منافض للسجائر، وكل هذه المتناقضات يعيشها المتماسون مع القضايا ممن يصفون أنفسهم بالنخبويين، والحق أنهم جوف فارغون، وهل أحد من المغثين بطفح كلامهم الإعلامي من يستطيع أن يؤشر بإصبعه على واقع ديمقراطي (ثالثي)، حرمنا منه، ونعم به هو, والخطاب الثوري والنقد الحداثي يعملان على إخراجنا من عدل الإسلام وقيمه الأخلاقية بفرض العلمانية وشرعنة الفجور، دون أن يحققا لنا الدخول الصادق والكامل في علمانية الغرب وديموقراطيته، وشيوعية الجنس عنده، وقانا الله كل هذه الشرور وحقق لنا خير ما عندهم، ولو فعل الخطاب التوهيمي ما يدعو إليه لما عطلت الديموقراطية ممن يعبدونها على حرف، كما في (تركيا) المسلمة شعبياً، العلمانية رسمياً، الديموقراطية ادعاء، حتى لقد عبر (يلماز وهو شاهد من أهلها) عن استيائه من هذا الإجراء قائلا: إن إجراء من هذا النوع في دولة ديموقراطية مدعاة للأسف
وقد أبدت دول كبيرة غير إسلامية تخوفها من هذا الإجراء، وحذرت (تركيا) وقادتها من أنها قد تتعرض بسبب تصرف عسكرها العلماني لمثل ما تعرضت له (الجزائر) حين طرحت مشروعها الديموقراطي بمحض إرادتها, ولما أدى إلى ما لا يراه الممسكون بزمام الحكم حجبوا الديموقراطية تحت وابل من الضغوط الخارجية والتخوف الداخلي، وها هي الآن تكاد تفقد مشروعية الوجود وأهلية الممارسة، وها هو القتل الهمجي وتصفية الثارات القديمة المتعددة الدوافع باسم الإسلام المغيب، وها هو العالم المتماكر يفكر في التدخل ليكف أيدي الحكومة القائمة عن فعلها المشروع، كي يعود الاستعمار من جديد بعدما أخرج بمليون شهيد، وما يحاوله الرئيس المنقذ (بو تفليقة) ومن قبله (بو ضيان) قد لا يؤدي إلى نتائج تحقن الدماء وتوقف همجية القتل، هذا الإجراءات التعسفية في (تركيا) و (الجزائر) وفي (السودان) بعد إجهاض ديموقراطية (سوار الذهب) تحميها ترسانة البلاغة، وتتم في ظل التهجين الديمقراطي والعلماني، وهل أحد من متداوليها ادعاء يستطيع ان يقول ما يعتقد، ثم يأوي إلى أهله آمناً مطمئناً؟ لقد قالوها من وراء جدر البلاغة وترسانات الزعيق تحدياً للحاكمية الإسلامية وسخرية بحكم المؤسسات، وما أحد منا قال شيئا عما يراه ويسمعه عند أولئك حفاظاً على الود وتقديراً للغة والمصير المشتركين, وها هي القنوات المشبوهة والصحف الفضائحية تزرع في خواصرنا، وتلغ في سمعتنا باسم حرية الكلمة المتاحة لأذية الغير، وكأننا نشكل بأسلوب الحكم لدينا عار القرن وسبة الدهر؟ والهاربون من جحيم حكامهم لما يعرفوا بعد أن للفكر السياسي الإسلامي مقتضيات تستدعي الحرية المنضبطة القائمة على معرفة حدود القول، والمؤكدة على هيبة السلطان واحترام أهل الحل والعقد والذكر، والملتزمة بمتطلبات البيعة المقابلة للعقد الاجتماعي، فالحاكم له حرمته، وله حدود التعامل معه، ومصلحة الأمة لها ضوابطها، والخروج على السلطة قولاً أو عملاً له ضوابطه وروادعه ومحاذيره، وما نعانيه من تقصير في المبدءين السياسيين: الإسلامي أو الديموقراطي ناتج من خطأ التطبيق، أو من التقصير في الفهم أو الفعل، وعلى ضوء هذا قد يقول البعض: ليس الخطأ في النظام الديموقراطي من حيث هو، وإنما الخطأ في التطبيق، ومن حقنا ان نقول لأولئك : هل الاعتراض على السياسة الشرعية ومستلزماتها من حيث هي إسلامية أو هو على التطبيق من حيث هو عمل إجرائي؟ لقد كررنا وما زلنا نكرر أن الاعتراض على الإجراء مشروع ومطلوب، ولا خير في القادرين إن لم يقولون كلمة كلمة الحق، ولا خير في المسؤولين إن لم يقبلوها، ولكن لم يكن أحد من أولئك حث على إبقاء الحاكمية وناشد تلافي أخطاء التطبيق، والدولة أي دولة مجموعة مؤسسات يحسن بعضها ويسيء البعض الآخر.
وليس هناك رجل رشيد يعترض على النقد الموضوعي، والمتماس الواعي كالطبيب البارع يتجه في مباضعه صوب الجرح ليحسم المرض والألم معاً، وما من تشريع طبي يسمح (بموت الرحمة) فضلاً عن القتل العمد، وإخواننا الناقمون يودون لو ندهن فيدهنون، ولكن أنَّى لهم ذلك، ومع هذا فإن العدل مع الذات ومع الغير وإن كان عدوا مطلب إسلامي، والله ينصر الدولة العادلة الكافرة، ويخذل الدولة المسلمة الظالمة، لأنه جل وعلا حرم الظلم على نفسه، وجعله بيننا محرماً، ولو أن الناقمين قبلوا تطبيق السياسة الشرعية، واقتصرت مؤاخذتهم على الخارجين عليها ممن يدعونها لكانوا من الناصحين، غير أن لحن القول يوحي بما في صدورهم من حقد دفين على الإسلام وأهله, والدليل على أن القنوات والصحف المناوئة تنفذ خطة مرسومة، تراهم يتخطفون الشائعات ويستهلون بها أخبارهم ويستدرجون الناقمين ويتعامون عن الحقائق, لقد جاءت (انتفاضة الأقصى) تعرية فاضحة لكل المزايدين، فأين المصداقية من أولئك حين ينقلون اطرافا من المظاهرات التي لا تتعدى طموحاتها ما عليه المملكة في موقفها من العدو؟ فالمتظاهرون يطالبون بإغلاق السفارات ولا سفارات عندنا، ويطالبون بإغلاق المكاتب الاقتصادية ولا مكاتب عندنا، ويطالبون بعدم التطبيع ولا تطبيع لدينا، ويطالبون بالدعم للانتفاضة، ولم يسبقنا إليه أحد، تطارد كمراتهم المتظاهرين وفق ما رسمته الدولة، ويتغافلون عن نقل صلاة الغائب في الحرمين الشريفين على شهداء الانتفاضة، وهي الأهم إسلامياً من الهتاف وإحراق العلم الإسرائيلي، ثم أين هم عن حملة التبرعات التي تفوق المتوقع؟ وأين هم من الإخلاء الطبي وتعليق الأوسمة؟ والمناوئون للحاكمية الإسلامية والفكر الإسلامي والقيم الإسلامية يصفون الغيورين بسوء الظن وسوء الفهم، ويرونهم أذى يؤجر من يميطه عن الطريق، وماذا فعلوا عند أزمات الأمة وأحداثها الجسام ومناسباتها السعيدة؟ وكل عداوة يرجى برؤها إلا عداوة من عاداك في الدين, والمتابع لحال النخب الممكَّن لهم في المشاهد الإعلامية يراهم يفيضون بالثناء على المذاهب والأفكار الغربية والأناسي المشبوهين ويطردون الغربة عنهم، ولا يذكرون منجز أمتهم ومبادرات إعلامهم وبوادر حضارتهم بخير, لقد خرجوا من يقين إسلامهم، ولم يقبلهم الآخر إلا سماسرة وأبواقاً فصاروا أعرافاً أو جنساً ثالثاً، ولقد تحملت الشعوب المنكوبة من نخبها نتائج تخللهم في نفايات الآخر، وتأذت من مغامرات فجة زجتها في أتون الثورة، ولم تخرج منها إلى دفء الدولة، فظل العالم الثالث ثائراً يتآكل مردداً ببلاهة: (اخنقوا رقاب السلاطين بأمعاء العلماء)، هذا العالم البائس بممارسة بعض نخبة يخلق عداوات بين (السلطة) و (الشعب) مثلما خلقت الشيوعية عداوات بين (الفقراء) و (الأثرياء)، فظلت تصفيات السمعة والأجساد قائمة, نشأت الريبة بين الحكام والمحكومين فضاعت الحرية، ونشأت العداوة بين الأثرياء والفقراء ففقدت الرحمة، وانكمشت الأموال، فتآزر الفقر والبطالة على سحق الكرامة وتنشئة الأجيال على الحقد والجريمة، وقامت الدكتاتورية والفقر مقام الحرية والرخاء، وليس في السياسة الشرعية مجال لمثل هذه العداوة والتسلط، لقد أقبل فقراء المدينة يشكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذهاب أهل الدثور بالأجور، لأنهم يتصدقون ولا يتصدق الفقراء، وكانت وصية الرسول التطمينية: إن الله قد جعل للفقراء ما يتصدقون به من تسبيح وذكر، وحين علم الأثرياء زاحموا الفقراء صدقات القول، وانفردوا بصدقات العطاء، فما كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ان قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو القائل شر الأمراء من يكرهون الناس ويكرههم الناس أو كمال قال، وهو المغلظ عقوبة الأمير الكاذب، فالإسلام يؤاخي بين الأمراء والأمة، وبين الأغنياء والفقراء.
فالصفاء والمحبة والإخلاص بين ولي الأمر والشعب لا يمكن ان تكون كما هي في النظام الثوري الذي يجرم السلطة ويتهم أهل الحل والعقد، ويمجد الخارجين على الشرعية دونما تقويم لخروجهم، ويخون الموالين، ويستعدي الفقراء على الأغنياء، وعلاقة الأثرياء بالفقراء في الإسلام القائمة على التعاطف والمحبة والعطاء والتكافل لا يمكن ان تسود في ظل الحقد والحسد ورفض التفاضل, والنظام الشيوعي يطارد الأثرياء ويصفهم بمصاصي الدماء، وهو مع من تبعه من الغوغاء يدعون إلى الثورة،والثورة عداء مستحكم بين السلطة والأمة، ولو نهضوا بمهمة الإصلاح ومعالجة الأمور بالتي هي أحسن والاشتغال بالمساحات الممكنة والمتاحة لكان خيراً لهم, الإسلام تلافى الصدام، وحاول أن يؤاخي بين الحاكم والمحكوم، وكره الفتنة، ولعن من أيقظها، وأكد على السمع والطاعة، ،وحذر من الخروج، وجعل يد الله مع الجماعة، وأوصى بقتل من جاء ليفرق كلمة المسلمين، وشبه الخارج بالقاصية من الغنم، فالإسلام ضد الشحناء وضد التفرق والإعجاب بالرأي، والشاعر العربي حين أبدى لقومه نصحه، ولم يتبينوه إلا في ضحى الغد، قال: (وما أنا إلا من غزية) مؤكدا الانضواء وتغليب المصلحة العامة.
وإذا لم يف الحاكم بمقتضيات البيعة ألزم الأمة بإعطائه أكثر من فرصة، حقنا للدماء، واتقاء للفتنة، وحين كف الله أيدي الأمة عن أن تتطاول على الحاكم، تكفل بنصرها ورفع الظلم عنها، حتى لقد قال للمظلوم :(وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) وكل ذلك لا ينافي قوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) ولا ينافي: (ولمن انتصر بعد ظلمه) وفي النهاية (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق)، (والظلم ظلمات يوم القيامة)، والدخول في المعمار وإصلاح ما يمكن إصلاحه أفضل من رشقه بالحجارة، وماذا جره الخارجون على عثمان بن عفان رضي الله عنه ، لقد فتحوا باب شر لم يغلق حتى الآن، وفي المقابل كيف عالج أبو بكر معارضة عمر لقتال المرتدين؟ وماذا كان من عمر؟ كانت المعارضة وكان الإذعان، فكان الثبات والقوة والعدل، والوالي المصلح يستشير ولكنه يحسم بالعزم والتوكل، ولا يتيح فرصة للمراهنين على واحدية الحل.
وما أورع عمر حين قال: (لست بالخب ولا يخدعني الخب) ويجب ان يكون حراس الفضيلة كذلك، لا يزلقهم تزوير الماكرين، ولا وعود المثاليين ولا لدد المخاصمين، وفي الحديث المتفق عليه: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخَصِم)، والمتماكرون مع الحاكمية الإسلامية من هذه النوعية, إن تصدي العلمانيين والثوريين لأنماط الحكم في الدول الإسلامية ليس دفعاً للظلم ولا رفعاً للمعاناة، ،ليس هو من المعارضة المشروعة، ولو فعلوا مثل ذلك لكانوا خير مصلحين أخرجوا للناس، ولكنهم في نقدهم لا يعولون على الممارسة الإجرائية، ولا ينظرون إلى النتائج، إنهم مستبدلون, وماذا هم واجدون لو نظروا إلى مقترفات الأنظمة المتبنية لمختلف الدساتير في عالمهم الثوري، ممن جاء رموزها إلى الحكم دون بيعة أو انتخاب، وهل الثائرون على الشرعية أهل (دين، وعلم، وعدالة)؟ وهي صفة أهل (الحل والعقد) في السياسة الإسلامية، أحسب أننا نَهِمُ ونُوهِم لو قلنا بشيء من ذلك.

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved