أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 26th October,2000العدد:10255الطبعةالاولـيالخميس 29 ,رجب 1421

الثقافية

فوضى الشعر,, وشعر الفوضى
نهار جديد
عبدالله سعد اللحيدان
ما الذي جعل الشاعر العربي الحديث منذ منتصف القرن العشرين تقريباً، حتى الآن يختلف عن سابقيه ويتميز عنهم، وكيف اختلف وتميز وبماذا، وكيف تم اكتشاف هذا التميز والاختلاف، ومتى، وما النتائج التي ترتبت على ذلك؟
لو استعرضنا بدايات كل الشعراء، وفي معظم العصور والأمكنة، وجدنا بداياتهم متشابهة في ميلها إلى التعبير عن الحزن والوحدة والقلق والحرمان والأحلام والهروب والبحث عن الأمان، تجمعها سمات وخصائص مشتركة، وان جاءت في أشكال تختلف ظاهرياً بفعل العوامل المؤثرة في بدايات وانتاج كل واحد منهم وظروف هذه البدايات وهذا الانتاج.
في العصور السابقة، والى ان جاء القرن العشرون، كان الشعر العربي واحداً، وكان كل شاعر ينسج على منوال سابقيه ويرى في كل قديم قدوة ومثالاً ونموذجاً وقاعدة ويُحاكم شعره بشعر من تقدم عليه زمناً، ولم يختلفوا، لا في الاشكال ولا في المضامين ولا الأغراض ولا الطرائق، مما يؤكد عدم اختلافهم في معرفة الشعر وماهيته وتعريفه، أي انهم كانوا جميعاً أصحاب وعي واحد ورؤية واحدة وموقف واحد وطريقة واحدة، وإن وصل عددهم إلى الآلاف وامتد بهم الزمن أكثر من خمسة عشر قرناً واختلفت أمكنتهم وظروف انتاجهم.
وعندما جاء القرن العشرون، ومضت منه عقود غيرت وجوه الأزمنة وحدود الأمكنة وظروف الانتاج، وتغيرت معها الرؤى والمواقف وطرق التعبير، وتنوعت وتعددت إلى حدٍّ لم يعد معه ما يؤطر الابداع الانساني مفهوما واحدا أو وعيا واحدا أو طريقة واحدة، وعم الاختلاف والتناقض، وسادت المفارقات والانحرافات عن الطريق الواحد؛ كان الشعر وبحكم طبيعته أكثر وأسرع المتأثرين بهذه التطورات والمجسدين لها، وإلى درجة حمله لراية الريادة الرؤيوية الاستشرافية المستقبلية لمختلف مفارق هذا الطريق الذي أصبح طرقاً لا تعد ولا تحصى مع تفرد وخصوصية كل منها في اختلافه عن الآخر.
فهل اختلف الشعر العربي الحديث وتميز عن كل ما سبقه من أشعار العصور العربية السابقة بسبب الفوضى، وهل هي ما جعله يمتاز ويتطور، وهل يمكن أن نعزو كل انجازاته الجديدة إليها، وهل لا يزال متميزاً بها أم تجاوزها أو انحرف عنها وعاد إلى طريق منظم، وهل يشارك فيها أو في قيادتها أم يتبعها، وأين موقعه الآن منها.
الشعر العربي الجديد وأقصد بالجديد شعر التسعينيات، حتى الآن، مثله مثل هذه الفوضى التي تسود العالم بشكل واضح وقوي منذ أكثر من قرنين، في الحياة والفكر والابداع، لم يعد يملك فلسفة أو رؤيا واحدة أو موقفاً واحداً ولا طريقة أداء واحدة، بل رؤى وفلسفات وقضايا ومواقف وطرق أداء وانفعالات وتجارب وخبرات بشرية وفنية وطاقات شعرية دلالية وايحائية وتعبيرية وإيقاعية ولغوية كلامية بعدد شعرائه.
ومثلما اختلفت الفوضى، اختلف الشعر العربي الحديث، أول ما اختلف عن كلاسيكية القدامى الذين كان معظم انجازهم لا يتعدى التعبير عن مظاهر واحداث الحياة العامة ووصفها من الخارج وتسجيلها عبر قوالب لغوية وتراكيب أدائية بلاغية وبيانية وكلامية ومفردات معجمية ودلالات جاهزة ومتوارثة شاعراً عن شاعر، فاختلف الشعر العربي الحديث عنها بمحاولاته ونجاحاته في التحرر من كل قالب أو قاعدة أو عرف سابق.
ثم أحرق كل المراحل اللاحقة متجاوزاً الرومانسية وغيرها مما تم استيراده من رمزية وسريالية وغيرها، ومتحرراً من كل منهج أو مدرسة أو اتجاه.
ومثلما فعلت الفوضى، صاحب الشعر العربي الحديث الوعي الحديث وتطوراته والتغيرات المتسارعة في أبعاد العصر وقيمه ومثله وتعدديته، ومتحرراً، أيضاً، من كل توجه أو قناعة أو سلطة، فكرية أو ايديولوجية أو ادارية.
ولم يعد الشاعر العربي الجديد يصف الحياة من الخارج، ولا ينزوي على نفسه أو يغرق في أحلام لا وعيه أو يمارس عرض الأزياء الشعرية أو يداعب المشاعر الحسية البوهيمية، بعد أن فرضت عليه جدليات هذه الفوضى أن يجربها ويعانيها حتى يصل إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه من مناطقها الحرة ويكتشف كل ما يستطيع من غاباتها البكر ولآلئها المرصودة المستقبلية الغامضة، ويجادل عناصرها وظواهرها وخلاياها الدموية النابضة بالحياة والأسرار، وإلى أن أقام معها علاقة من نوع خاص، ومع التعددية والتجاوز لكل ما سبقه من اتجاهات مع الالتزام بحريّته وايمانه برسالته ودوره الرؤيوي الاستشرافي الريادي المستقبلي في الآن نفسه.
وفي داخل هذا الجيل؛ كما في أي جيل واحد، وحتى بين أصحاب الاتجاه الواحد؛ نجد تمايزاً وفروقات واضحة، وفي طريقة كل واحد منهم في اظهار ردود فعله على قضايا قد تكون مشتركة، على الرغم من وحدة المدار العام لرؤيتهم الشعرية، كون كل واحد منهم يتخذ مداراً خاصاً لرؤيته الشعرية، كموقف خاص، وضمن اطار المدار العام، وهذا ما يفسر تمايزهم في الانسجام مع هذه الفوضى وفي الالتزام بحريتهم ووعيهم بها وبما يحيط بوجودهم من ظروف وقضايا واسئلة وفي عدم الهروب من الواقع والمجتمع والحركة الانسانية في الآن نفسه، كون الفروقات موجودة بين كل انسان وآخر في التكوين النفسي والجسدي والحاجات الناجمة عنهما وفي القدرات والامكانيات والثقافة وظروف الانتاج، ومستوى الإيمان بالكلمة وقدراتها على الايحاء والاثارة والتغيير واقناع الإنسان بأنه يجب أن يكون حراً في اختياراته، وعدم التعارض بين فوضى التجريب والحرية والالتزام ووضوح الأهداف.

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved