أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 1st December,2000العدد:10291الطبعةالاولـيالجمعة 5 ,رمضان 1421

شرفات

المهدية بنت البحر
كثيرة هي الأشياء الجميلة في تونس وأكثرها جمالا مدنها التي تجمع بين سحر الصحراء وصفاء سواحل البحار وروعة التلال المكسوة بالخضرة في ضواحي تونس تتكامل الصورة الجمالية للمدن الساحلية المتعانقة مع التلال المخضرة دائمة بالأشجار التي تبرز تلك المدن لتجعل منها لوحة ربانية ملؤها البحر والجبل والخضرة وإذا قضيت عشرة أيام في أحضان تلك المدن التي ترفد تونس العاصمة بالجمال والالهام والهدوء فقد توفرت لي والزميل الدكتور عبدالرحمن العرابي الحارثي رئيس تحرير الندوة فرصة فريدة لزيارة مدينة تونسية من نوع آخر تجمع بين سحر الصحراء وجمال البحر، فمن خلال دعوة كريمة من الأستاذ الدكتور الجراح راضي حمزة اضفت إلى ذاكرتي المتخمة بالمدن مدينة حالمة ذات تاريخ عريق تلك هي مدينة المهدية,, المدينة التي تقول عنها الكاتبة علياء حمزة انها وليدة الأنشقا المدينة المنزوية داخل شبه جزيرتها هي المدينة الملكية التي خص عبيدالله المهدي نفسه بها وابتغى لها ان تنافس رقادة، مدينة البذخ فتبزها.
ففي عام 912 من زمننا هذا هجر عبيدالله المهدي رقادة تاركا اياها لرياح السباسب ولنهابي الحضارات المنطفئة وانشأ على شبه الجزيرة التي سماها القدامى كاب افريكا مدينة نسبها إلى اسمه وأراد لها ان تكون في مستوى عزمه ومطامحه، مهدية، أو مرصودة وعاصمة لهذه السلالة.
غير ان المهدية لم تظل عاصمة ملكية إلا زمنا وجيزا إذ سرعان ما قدم إليها ابو يزيد، صاحب الحمار وأشاع العصيان عند أبوابها فكان ان انتفض سكانها الذين أثقل ابتزاز الفاطميين كاهلهم وأحّل النظام السابق مجددا.
ومن حينها غدت المهدية المشدودة إلى أعماق بحرها الحاضن اياها والمتمددة في حميمية حول مقبرتها جامعة بذلك بين أحيائها وبين موتاها منكمشة على نفسها وأولت العالم ظهرها وتخفت خلف أسوارها الهائلة التي لا تتخللها إلا السقيفة الكحلة ولا يطاولها إلا البرج الكبير فيما يحرسها الجامع الكبير جامع المهدي حتى انها غدت تنسى احيانا ان الزمن لا يتوقف.
المهدية المدينة المرصودة
ولأن المهدية مدينة محروسة وذات حظ زاهر، فإن طريق بني هلال قد جانبها فلم تطأها سنابك خيلهم التي تطفئ الحياة حيثما وقعت، وبالعكس من ذلك فإن القراصنة الأشداء قد جعلوا طرقهم البحرية تمر منها بل حولوها إلى قاعدة انطلاق لهم وجلبوا لها بذلك الرخاء والخير العميم.
إلا ان التاريخ لم يبتغ ان تظل هذه المدينة خارج دوامة الزمن على الدوام، بل انه صب عليها من حين لآخر الوانا من ويلاته وثبوره، ومن ذلك ان روجر الصقلي قد استولى عليها عنوة في القرن الثاني عشر، وان جحافل جند شارلكان قد احتلتها خلال القرن السابع عشر ثم عاد البحر ليبسط نفوذه مجددا على هذه المدينة التي هي ملك له.
وبعد ان انزاح عنها المحاربون والقراصنة نشر السلم بساطه على بحرها.
المهدية مدينة الوفاء
في المهدية ينزاح الزمن قدام تكرار الحركة ذاتها.
هل يكون ذلك لأن المهدية هي في منأى عن الطرقات الكبرى؟ أم يكون ذلك لأنها أولت بقفاها لليابسة واقبلت بوجهها شطر الأفق البحري؟ أيا كان التفسير فإن الديار هنا ماتزال على حالها لا تعرض على المارين إلا جدرانا صماء ملساء وماتزال غرفها كما كانت من قبل تنتظم حول صحن الدار لا تنظر سواه بل تتخفى عن العيون عند اطراف سقيفه متعرجة ولا تبدي بهرج زينة سقوفها الخشبية وابهة خزفها البديع إلا لأهلها والأقرباء والمحظوظين من الزوار، وداخل هذه الديار ما يزال الناس يعيشون، وهذا ما لاحظته في منزل عائلة الدكتور راضي حمزة حيث انبهرت بغرف المنزل وخاصة غرف النوم والمعيشة التي يشعر الإنسان انه سلطان زمانه.
وهكذا فإن لكل ساعة من النهار ولكل فصل من السنة نسقهما الثابت الذي لا يتغير ولا يتحول: نسق العادة والتقاليد، بل ان العادات والتقاليد تكتسي هنا طابع الشأن اليومي المعتاد الذي يحرص عليه الجميع، فالناس هنا أكثر من سواهم حيثما كان مستقرهم حرصا على التقيد الصارم والشره بتقاليد إعداد العولة تجهيز العرائس وصنع الحشايا الصوفية بل ان الطقوس المتبعة في المهدية خلال الأعراس وحفلات الحناء والطهور ماتزال بحق لوحات انترولوجية بينة المعالم تنتظم حول أعرافها الصارمة والتي لا محيد عنها هذه الحفلات الفاخرة والبهيجة.
المهدية المدينة المتشبثه بتقاليدها
يحتل التمسك بالتقاليد بكل مظاهرها لدى أهل المهدية مرتبة الحفاظ على ميثاق الشرق ولعل المهدية هي إحدى المدن التونسية القليلة التي ماتزال مختلف مكونات الكسوة التقليدية تنسج وتطرز فيها حثيثا استجابة لطلبات يعجز العرض عن مواكبتها كلها تصدر عن المتساكنين وليس عن سواح.
وليس للموضة حظ في المهدية، فالرضيع يدثر عند ولادته في الرداء التقليدي وهذا الرداء ذاته هو ما تلتحفه المرأة وهي عروس شابة، وهو أيضا كفنها عندما يحين اجلها.
وإذا كنت من هواة التجول في الأزقة باكرا وقدمت إلى المهدية دون ان يكون لك بها سابق دراية فإنك قد تخال نفسك في حلم وانت تفاجأ عند منعطف بسرب من النساء المكسوات ذهبا وحليا وهن يعدن من عرس أو حفلة حناء ماشيات والطمأنينة بادية عليهن.
ومثلما يتمسك أهل المهدية بالتقليد في ملبسهم فهم يتمسكون بها في مسكنهم أيضا، فهم ما يزالون يحرصون على ان تنتظم بيوتهم حول صحن مفتوح، ولا يقبلون بالشقق وحتى بالفيلات إلا كحل لمن لا حل له.
بل ان أهل المهدية يتشبثون بالتقاليد حتى في مأكلهم ومن إمارات ذلك انهم يفاخرون بأن أشهى وأفوح وأنعم كسكسي بسمك يمكن للمرء ان يتذوقه هو كسكسي بالحوت مهدوي .
المهدية المدينة البحرية
تعيش المدينة ذات البحرين على ايقاع أمواج بحريها، فإن تهب الريح من الشمال او من الجنوب يعني انه في الإمكان او ليس في الإمكان ان يركب الراغب في الصيد البحر، كما يعني ان وجهة الراغب في السباحة يجب ان تكون هذا الشاطي او ذاك.
والمهدية هي أيضا أكبر موانئ الصيد البحري في تونس وصناعة المصبرات فيها لم تنفك تعلب سردين المهدية الشهير الذي لا أشهى ولا ألذ منه.
أما السياحة فهي وان تباطأت في اكتشاف شواطئ المهدية المترامية الأطراف وذات الرمل الأصفر الذي يداعب أقدام البساتين التي تبسط خضرتها حتى مشارف الماء المالح فإنها قد ركزت فيها حوالي عشرين فندقا ووضعت لاستغلالها سياسة تطوير سياحي فطنة وحذرة حدت من الإحداثات الجديدة,, ومع إنشاء الفنادق وتنامي الحركة السياحية ظهرت في المهدية عديد المطاعم الصغيرة ومراكز التنشيط والترفيه وغيرها من المنشآت المعدة لاستقبال الزوار.
وإذا ما كان الزائر من فئة الميالين الى مشاركة أهالي المدينة عيشهم ففي وسعه ان يضبط تفاصيل يومه على ايقاع يوم هؤلاء، ترشف قهوة في ساحة القاهرة الجميلة، ساحة النقاشات الساخنة، فغداء في دار الشط ملتقى المهادوة ثم جولة عند الغروب عبر دروب المقبرة البحرية الخلابة، التي ترتادها النساء للتفسح في سكينة وطمأنينة ويقبل عليها الأطفال للعب، وأخيرا عشاء عند الميناء مع صيادي السمك في الليدو ولينتبه الزائر الشغوف بالاطلاع إلى ان مغادرة المهدية لا تصح دون حضور سوق الجمعة، السوق الأسبوعية التي تقبل عليها النساء ليبعن كسواتهن القديمة في ظلال السقيفة الكحلة الندية.
جاسر عبدالعزيز الجاسر

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved