أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 5th January,2001 العدد:10326الطبعةالاولـي الجمعة 10 ,شوال 1421

الثقافية

قصة قصيرة
دوامة حيرة!!
خرج من منزله ليلا، لستنشق هواء عليلا يملأ به رئتيه التي لم تتقبل الهواء المصنع، كانت السماء صافية، والسكون يحتضن أرجاء القرية.
كان يسير بمحاذاة سور يقبع خلفه منزل عجوز هرم، عرف بانطوائه على نفسه، يعيش وحيدا قليل الكلام لا يخرج من منزله الا نادرا كان أهالي القرية يجلبون له الزاد والماء، فلم يكن عابئا ولا مكترثا بتحسين حياته ولا بتنويع مصادر دخله.
وبينما هو يسير بمحاذاة ذلك السور سمع صوتاً استوقفه، أرهف سمعه وكتم انفاسه ودفعه الفضول لمعرفة امر ذلك الصوت.
كان ذلك الصوت انينا يرتفع تارة ويغيب أخرى تعقب احمد ذلك الانين حتى اوصله باب منزل متهالك.
وعندما تزاملا عليه حب الفضول وحب الاستطلاع فتح احمد ذلك الباب فأحدث صريرا فرت معه بعض من القطط المستأنسة التي قد اتخذت من ذلك المكان مرتعا وملاذا آمنا في ظل ما توفر فيه من مقومات.
بينما ظلت بومه في أعلى السور ترشقه بنظرات مخيفة وكأنها تعاتبه عما احدثه من ازعاج اقتحم به سكون قاطني ذلك المنزل.
أمسك احمد الباب بكلتا يديه واغلقه بهدوء دخل وعلامات الدهشة مرتسمة على وجهه فهناك الكثير من قطع الاثاث البالية عندها ايقن احمد في قرارة نفسه انه قد مضى عليها سنوات دون استعمال حينما رأى العناكب وقد ضربت عليها بسياج من خيوطها الواهنة.
وفي احدى زوايا تلك الغرفة سرير خشبي يقبع على متنه عجوز طاعن في السن علكته السنون واثقلت كاهله التفت بتثاقل وقال: من هناك؟ رد عليه قائلا: أنا احمد وقد جئت عندما سمعت صوتك وأنت تئن وجئت لأرى ان كنت مريضا او تعاني من شيء واخدمك ان كان بمقدوري ذلك, اشار العجوز الى كرسي امامه وقال: اجلب لي ذلك الكرسي يا بني هب احمد واحضر الكرسي بعدما نفض اكواما من الغبار المتكدسة عليه.
قال احمد وهو يتفحص ذلك الكرسي الخشبي: هذا الكرسي صنع في غاية من الدقة.
هز العجوز رأسه قائلا: هذا الكرسي يا بني كنت اجلس عليه في سالف ايامي وقد صنعته بنفسي وصنعت آخر لزوجتي التي لم تنعم بالجلوس عليه.
وما كاد ينهي تلك الكلمة حتى تغيرت نبرات صوته وتحدرت من عينيه الغائرتين عبرات على خديه، فأدار وجهه كيلا يراه احمد.
قال احمد في نفسه عندما شاهد العجوز يبكي: لم يكن لسؤالي اي داع، ها قد أسدل الحزن عليه الستار، كان حرياً بي ان اعمد على تقليص حالة الحزن التي كانت تحتل مساحات شاسعة من حياته لا ان ازيدها.
اقترب احمد من العجوز وقال له: انا آسف كنت قد اعدتك الى المواجع.
رد عليه العجوز: لا عليك فلم اكن بحاجة لمن يذكرني بها فطيفها لم يكن يفارق خيالي أبداً.
أدار العجوز وجهه ثانية ومسح دموعه بأطراف انامله وقال: أنا من يأسف لك يا بني فقد أقحمتك في أمر لا يعني لك شيئا والقيت بعبء حزني على عاتق مشاعرك الهشة.
رد عليه احمد وحالة الاسى والحزن في صوته: لا بل اتخمت مشاعري حزنا عندما فقدت جدي ولكنني الآن اعتبرك مثله تماما.
ربت العجوز على كتف احمد وقال: بارك الله فيك وانا فخور بحفيد مثلك.
قال له احمد: حقا ما تقول؟ رد عليه العجوز: بكل تأكيد فأنت شاب سلس المعشر طيب الاصل اجتزت حاجز حزني وكنت المتنفس الوحيد لهمومي.
قال احمد: اذا كنت جادا فيما قلت فاقصص لي حكايتك.
نزل العجوز عن سريره ووقف بالنافذة ومكث طويلا على تلك الحالة.
(في هذه الأثناء كان أحمد يحدث نفسه في حيرة).
لماذا يكتفي بالصمت امام الحاحي عليه لمعرفة أحزانه؟ ما هو ذلك الشعور الجارف الذي يدفعني لنبش اسرار وحفايا حياته؟ لماذا أحس بالالام والاحزان تعتلج في قلبي كلما نظرت الى عينيه؟ سأقطف الكثير من السعادة ان شاطرته قليلا من الاحزان المتراكمة على كاهله.
آسف يا جدي، اعتقد اني بسؤالي هذا اقحمت نفسي في شؤونك الخاصة.
التفت اليه العجوز قائلا: ليس هذا ما اردته ولكنني لم اعمد في يوم من الايام لمشاطرة احد ايا كان لهمومي، رغم آلامها فأنا سعيد بحملها فهي انيس خلوتي وحديث مجلسي كما انك يابني لن تجني شيئا عند سماعك لها بل ستلقى بك في دوامة حزن ليست لها نهاية.
قاطعه احمد:ان كنت يا جدي قد تحملت اللف عبر تلك الدوامة الحزينة وانت رجل كبير فالاجدر بي وانا شاب قوي ان اخوض غمار هذه التجربة.
نظر اليه العجوز وقال: يا بني هي لا تعتمد على قوة البنية كما اعتقدت والا لما كنت ارخيت هامتي لها، بل تعتمد على العواطف وتندرج تحت بندها، وكما تعلم يا بني فالانسان ما هو الا كتلة من المشاعر والاحاسيس.
تنهد أحمد وقال: انا لا اعرف في تلك الامور شيئا فالحاحي عليك لمعرفة الوجه الآخر لحياتك لم يكن بدافع التسلية والتنقيب عما حدث.
ابتسم العجوز وقال: حسنا ولكن تعال معي.
قال احمد: الى اين؟ أجابه العجوز قائلا: اتبعني ولا تتفوه بكلمة واحدة والا سأغير رايي ولن أخبرك بشيء.
رد عليه احمد سريعاً: لا أرجوك اقطع لساني لو قاطعتك ثانية!!
(عندها استغرقا في حالة من الضحك).
بعيد لحظات وبينما العجوز مستغرق في الضحك قال له احمد: نعم، اضحك يا جدي فهذه الدنيا لا تساوي كل ذلك الحزن والانزواء.
هز العجوز راسه قائلا: أنت يا بني من ارشد الابتسامة الطريق لشفتي بعد ان فقدت طريقها ولسنوات طوال.
قال أحمد: هيا يا جدي حيث اردت اصطحابي قبل ان تنسى.
قال له العجوز: هيا اذن.
خرجا من المنزل، كانت السماء صافية آنذاك والقمر يرسل اسرابا من اشعته الفضية على ارجاء القرية جمعاء، مشيا بين الاشجار حتى وصلا الى جدول ماء صغير حيث الازهار ذات الرائحة الزكية التي تعطش لشم رائحتها كل من كان ذا حس مرهف.
(ارتميا على متن تلك البقعة بجوار الدلو بينما استلقى العجوز على ظهره) وبعد فترة تأمل أجال من خلالها ناظريه على صفحة الافق.
قال: انظر يا بني تلك النجوم المتلألئة والسحب وكأنها قطن مندوف مغروسة في السماء.
قال أحمد: نعم اراها يا جدي وليتنا نستطيع الوصول اليها!!
عندها نظر اليه نظرة ذات مغزى قائلا: يا بني هذه السحب لا يطولها كائن من كان وقد ضرب الكسلى بعدها المثل في الامور التي صعب عليهم نيلها فلا تنفع الاماني يا بني ما لم نلمسها ونعايشها على ارض الواقع.
نهض احمد بعدما كان مستلقيا وقال: كلامك يا جدي صحيح ولكنك سوف تنسينا المر الذي جئنا لأجله.
قال العجوز: أراك متحفزا!!
قال أحمد: نعم لأدخل ومن خلالها الى كهوف نفسك ودهاليزها المظلمة، وان لم اصل الى قاع حياتك بحبال قصتك التي ستقصصها لي فلن اصل مهما حاولت.
قال العجوز: هل انت مستعد لنبدأ؟ رد عليه احمد سريعا: في أتم الاستعداد يا جدي,, نهض العجوز الى الجدول ورمى حجرا كان بيده في ماء الجدول، فأحدث دوائر اخذت تتسع شيئا فشيئا، اشار العجوز الى احمد قائلا: ستدور يا بني في احداث قصتي كما تدور هذه الدوامة!
نهض أحمد وجلس بجواره وقال: لا عليك سأقاوم.
(استيقظ من نومه فجأة فلم يجد امامه سوى امه التي كانت في حيرة من حركاته التي صدرت عنه اثناء نومه).
فتح احمد عينيه في دهشةوقال: اين أنا؟ اجابته متعجبة: أين أنت؟! في غرفتك طبعا!
قال: ولكن اين العجوز واين جدول الماء,,؟ قاطعته امه قائلة: اي عجوز واي جدول تتحدث عنه؟! اتجهت للنافذة ثم فتحتها وقالت: هيا انهض واغسل وجهك فيبدو انك كنت تحلم.
قال احمد والحسرة والحيرة بادية عليه: آخ ليتني لم استيقظ من ذلك الحلم، ليتني عرفت قصة ذلك العجوز؟ سأنام لعلني استكمل ماتبقى لي من القصة.
(حاول مرارا النوم دون جدوى).
عندها قال في نفسه وهو يهز رأسه: الآن قد دخلت فعلا في دوامة ولم تكن دوامة حزن بل كانت دوامة حيرة، ترى ماذا اراد اطلاعي عليه العجوز؟ فجأة ارهف سمعه حيث سمع صوتا خافتا يناديه، آت من أعماق نفسه (دوامة الحيرة خير لك من دوامة الحزن التي مازلت ادور عبر منعطفاتها,, يا بني).
عبدالرحيم جار الله المالكي
الطائف

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved