أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 5th January,2001 العدد:10326الطبعةالاولـي الجمعة 10 ,شوال 1421

شرفات

شعر المتنبي في العيون
د, عبدالرحمن بن سعود بن ناصر الهواوي
لقد سبق أن ذكرنا أن الدموع تفرز بغزارة عند البكاء، وعندما يكون الإنسان في حالة نفسية معينة، مثل الحزن أو الغضب أو السرور,.
قال أبو الطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها شجاع بن محمد الأزدي:


1 حَذَراً عَلَيهِ قَبلَ يَومِ فِراقِهِ
حَتَّى لكِدتُ بماءِ جَفني أشرَقُ

يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: يقول: لكثرة بكائي وجريان دموعي (كان يبكي على فقد شبابه الذي ذكره في البيت السابق لهذا البيت)، كاد يشرق بها جفني، أي يضيق عنها، وشرق بالماء وغص بالطعام، وإذا شرق جفنه شرق هو، ويجوز أن يغلبه، فلا يبلع ريقه.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها محمد بن سيار التميمي:


2 تَلَجُّ دُمُوعي بالجُفُونِ كأنما
جُفُوني لِعَيني كُلّ باكِيةٍ خَدُّ

يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يقول: كلما بكت باكية كأن دموعها تمر بجفني كما تمر بخدها، فلست أخلو من بكاء ودموع، كما لا تخلو الدنيا من باكية تجري دموعها.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها المغيث بن علي العجلي:


3 سَقَيتُهُ عَبَراتٍ ظَنَّها مَطَراً
سَوَائِلا مِن جُفُونٍ ظنَّها سُحُبا

يقول العكبري عن هذا البيت المعنى: يقول: سقيت هذا الربع (ذكر أبو الطيب الربع في البيتين السابقين لهذا البيت) دموعاً ظنها مطراً سائلاً من جفون ظنها سحبا, وقال أبو الطيب في قصيدة يرثى بها أخت سيف الدولة:


4 يَظُنُّ أنَّ فُؤَادِي غَيرُ مُلتهبٍ
وأنَّ دَمعَ جُفُوني غَيرُ مُنسَكِبِ

يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: يريد: أتظن أني غير حزين! وليس هذا مليحاً في حق امرأة أجنبية أن يخاطبها بمثل هذا, وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها عبيد الله بن يحيى البحتري:


5 وَكُلمَّا فاضَ دَمعِي غَاضَ مُصطبرِي
كأنَّ ما سال مِن جفنيَّ مِن جَلَدِي

يقول العكبري عن هذا البيت: غاض: نقص والمصطبر: الاصطبار, والمعنى: يقول: كأن دمعي جار من جَلَدي، لأني كلما بكيت نقص صبري، فكأن دمعي من صبري.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها كافوراً:


6 رَعَى اللهُ عِيساً فارقَتنا وَفَوقها
مَها كُلُّها يُولَى بِجِفنَيهِ خَدُّهُ

يقول العكبري عن هذا البيت: العيس: الإبل البيض والمها: بقر الوحش، ويولَى: يُمطر، وهو من الوَليِّ: اي المطر الثاني، والأول الوسمي, والمعنى: يدعو لهذه الإبل التي حملت فوقها النسوة اللاتي دموعهن جرين على خدودهن لأجل الفراق جرياً بعد جري، فجعل بكاءهن كالمطر على خدودهن جرياً من أجل فرقتنا, وهذا كلام حسن.
وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها أبا العشائر:


7 أتَراها بِكَثرةِ العُشَّاقِ
تَحسِبُ الدَّمعَ خِلقَةً في المآقِي
8 كَيفَ تَرثي التي تَرَى كُل جَفنٍ
رَاءها غَيرَ جَفنِها غَيرَ راقي

يقول العكبري في شرح البيت السابع: المآقي: جمع مؤق، وهو مؤخر العين, والمعنى: يخاطب صاحبه يقول: أتراها لكثرة ما ترى الدمع في مآقي عشاقها، تحسبه خلقة،و فلا ترحم من يبكى؟ ولهذا قال: كيف ترثي؟, ويقول العكبري عن البيت الثامن: رقأ الدمع أو الدم: إذا قطع, والمعنى: يقول: هذه المحبوبة لا ترحم باكياً، وكيف ترحمه وهي ترى كل جفن من الناس إلا جفنها؟ غير راق بالبكاء؟ يريد: غير منقطع الدمع من البكاء، فهي لا ترحم أحداً، لأنها تحسب الدمع في أجفان العشاق خلقة.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها بدر بن عمار:


9 فَكانَ مَسِيرُ عيسِهِمُ ذَمِيلاً
وَسَيرُ الدَّمع إثرَهُمُ انهمالا
10 كأن العِيس كانت فوقَ جَفني
مُناخاتٍ فَلَمَّا ثُرنَ سَالا

يقول العكبري عن البيت التاسع: الذميل: سير وسط, والعيس: الإبل, والانهمال: الانسكاب, والمعنى: قال ابن جني: سبقت دموعي عيسهم, ويقول العكبري عن البيت العاشر: المعنى: يقول: كنت لا أبكى قبل فراقهم (يقصد أحبته)، فكأن إبلهم ببروكها كانت تمسك بكائي ودمعي عن السيل، فلما أثاروها للرحيل سالت دموعي، فكأنها كانت مناخة فوق جفني.
لقد أشار أبو الطيب في بيته الأول من أبياته العشرة السابقة إلى كثرة بكائه وجريان دموعه حزناً على ذهاب شبابه, وفي بيته الثاني ذكر الشاعر كثرة دمعه في عينيه من الحزن حتى ان كل باكية كأن دموعها تمر بجفني عيني كما تمر على خديها وشبه شاعرنا المتنبي في بيته الثالث كثرة دموعه بالمطر, وبين في بيته الرابع أن دموع عينيه قد انهمرت من شدة حزنه وألمه لوفاة أخت سيف الدولة.
أما في البيت الخامس فقد ربط الشاعر بين الدمع والصبر، وهذا يعني ان الحزين كلما قل صبره وجلده ازداد انسكاب دمعه, وشبه أبو الطيب في بيته السادس جريان دموع النسوة الظاعنات على خدودهن من ألم فراق أحبتهن بالمطر, وفي بيتيه السابع والثامن يتساءل عن تلك المرأة الجميلة التي كانت تظن أن الدموع في عيون محبيها من الرجال خلقة لا محبة لها,, أما في البيتين التاسع والعاشر فقد بين أبو الطيب أن دموعه لسرعة جريانها سبقت إبل أحبته في سيرها حزناً على رحيلهم، فكأن العيس لما كانت باركة كانت تمنع انسكاب دمعه، فلما ثرن للمسير سالت دموعه.
نعود مرة أخرى إلى أبيات الشاعر العشرة السابقة نجده قد ربط فيها بين الدموع والجفون، وقد سبق لنا ان ذكرنا أن العيون تحمى بالجفون، وأن الغدة الدمعية تقع خلف الجفن الأعلى فوق العين، وأن الدموع تفرز إلى العين عبر المجاري الدمعية الموجودة خلف الجفن الأعلى,,!
قال أبو الطيب في قصيدة يمدح سيف الدولة وقد أمره بإجازة أبيات:


1 القَلبُ أعلَمُ يا عَذُولُ بِدَائِهِ
وأحَقُّ مِنكَ بِجفنِهِ وبِمائِه

يقول العكبري في شرح هذا البيت المعنى: يقول للعذول: القلب أعلم منك بما فيه من بَرَح الهوى، فهو يطلب شفاءه وهو أحق بالبكاء، وأنت تنهاه عنه، ،القلب يأمر الجفن بالبكاء، طالباً بذلك شفاء ما فيه، فهو أولى بذلك منك، والبكاء فيه شفاء للقلب واستراحة, وقال الشاعر المتنبي في القصيدة التي منها البيت السابق:


2 وَهَب المَلَامةَ في اللَّذاذةِ كالكَرَى
مَطرُودَة بِسُهادِهِ وبكائِهِ
3 لا تَعذر المُشتَاقَ في أشواقِهِ
حتى يَكُونَ حَشَاكَ في أَحشائِهِ
4 إنَّ القَتِيل مُضَرَّجاً بِدُمُوعِهِ
مِثلُ القَتيل مُضَرَّجاً بِدِمائِهِ

يقول العكبري في شرح البيت الثاني: السهاد: الأرق, والسُّهُد (بَضَم السين والهاء): قليل النوم, والمعنى: قال أبو الفتح: اجعل ملامتك إياه في التذاذكها كالنوم في لذته، فاطردها عنه وبما عنده من السهاد والبكاء، أي لا تجمع عليه السهاد والبكاء، أي فكما أن السهاد والبكاء قد أزالا الإكراه، فلتزل ملامتك إياه,ورد عليه الواحدي وقال: هذا كلام من لم يفهم المعنى، فظن زوال الكرى من العاشق، وليس كما ظن، ولكنه يقول للعاذل: هب أنك تستلذ الملامة كاستلذاذك النوم، وهو مطرود عنك بسهاد العاشق وبكائه، فكذلك دع الملام، فإنه ليس بألذ من النوم، فإن جاز أن لا تنام جاز أن لا تعذل, ويقول العكبري عن البيت الثالث: المعنى: يقول: لاتكن عاذرا للمشتاق في شوقه حتى تجد ما يجده، فهذا معنى قوله: في أحشائه , يريد يكون قلبك في قلبه، أي تحب مثل ما يحب, ويقول العكبري عن البيت الرابع: المضرج: الملطخ بالدم، من ضرجت الثوب: إذا صبغته كالقتيل تعظيماً للأمر.
وقال المتنبي في قصيدة يعزي بها سيف الدولة عن عبده يماك:


5 وَمَن سَر"َأ هلَ الأرض ثُمَّ بكى أسّىً
بَكَى بِعُيونٍ سَرَّها وَقُلُوب

يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يريد: الذي سر جميع الناس، من السرور ثم بكى لحزن اصابه، ساء بكاؤه الذين سرهم، فكأنه بكى بعيونهم وحزن بقلوبهم، لما يصيبهم من الأسى والحزن, والمعنى: إنك إذا بكيت بكى الناس لبكائك وحزنوا لحزنك، فهم يساعدونك على البكاء جزاء لسرورهم.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها المغيث بن علي العجلي:


6 دَمعٌ جَرَى فَقَضى في الرَّبع ما وَجَبَا
لأهلِهِ وَشَفَى أنَّى وَلا كَرَبا

يقول العكبري عن هذا البيت المعنى: يريد أنه بكى في منازل الاحباب بدمع قضى لهم ما وجب وشفاه من وجده، ثم رجع عن ذلك وقال: كيف قضى ذلك ولا قارب ذلك ولا داناه، كلا، ولا قضى الحق ولا شفى, وذلك لكثرة بكائه، وغلبة الوجد عليه، ظن أنه بلغ بذلك قضاء حقهم، ثم رجع إلى نفسه فعاد عن ذلك ونفى أن يكون قضى حقهم أو قاربه.
وقال أبوالطيب في قصيدة يمدح بها كافوراً:


7 لا تجزِني بِضَنىً بي بَعدها بَقَر
تَجزِي دُمُوعِيَ مَسكُوباً بِمَسكُوب

يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يريد أنهن (محبوباته) لا ينالهن بعدي ضنى، يورثهن الفراق بعدي الضنى، فهو يدعو لهن ويقول: لا ضنيت هذه البقر وهن النساء، كما ضنيت، ولا جرت دموعهن كما جرت دموعي لأنه بكى عند الفراق فبكين فجزين دمعه بدمع، فدعا لهن أن لا يجزين ضناه بضنى كما جزينه بالدمع دمعاً.
وقال الشاعر في صورة جارية:


8 سَأَشربُ الكأسَ عَن إشارَتها
وَدَمعُ عَيني في الخَدّ مَسفُوحُ

يقول العكبري عن هذا البيت المعنى: يريد أنه يشرب الكأس كرهاً، ودمعه يسيل على خده، لا يقدر على مخالفتها، ولا يمكنه إلا امتثال الإشارة.
وقال أبو الطيب في قصيدة قالها وقد شى به قوم إلى السلطان فحبسه:


9 أَيَا خَدَّدَ اللهُ وَردَ الخُدُودِ
وقدَّ َقَدُود الحِسانِ القُدُودِ
10 فًهُنَّ أسَلنَ دَماً مُقلتي
وَعَذَّبنَ قَلبي بِطُولِ الصُّدُودِ

يقول العكبري في شرح البيت التاسع: خدد: شقق, والتخديد: التشقيق، وأصله الشق في الأرض والحفرة, وقوله: قدّ: قطع، وجانس بين الألفاظ, والمعنى: أنه دعا على ورد الخدود أن يشققه الله، ويزيل حسنه، وأن يقطع القدود الحسان, وقال أبو الفتح: هو دعاء على التعجب والاستحسان, ويقول العكبري عن البيت العاشر: المعنى: يقول: الحسان القدود: هن اسلن مقلتي دماً: وهن عذبنني بنار الصدود، وهو أشد العذاب.
لقد تطرق شاعرنا أبو الطيب المتنبي في أبياته العشرة السابقة إلى انهمار الدمع والحالة النفسية للإنسان، ففي أبياته من البيت الأول وحتى البيت الرابع برر بكاءه وخروج دمعه وسهره بأنه كان يحب ويعشق، فدموع العاشق الوله مثل دم القتيل ولهذا فهو لا يسمع لعاذل أو زاجر، بل هو يشعر بلذة مما هو فيه, وقد شبه شاعرنا الفذ في بيته الأول دموع جفنيه بالماء، وقد سبق لنا أن قلنا إن الدمع سائل مائي القوام, وأشار الشاعر في بيته الخامس أن سيف الدولة مع عظمه وعزته بكى حزناً على فقد خادمه يماك، وهذا يبين لنا أن البكاء حالة نفسية معينة لا يحس بها إلا صاحبها، فسيف الدولة بكى من اجل عبده وخادمه، وفي المقابل فقد يُفني نفوسا عديدة في حومة الوغى الحرب واشار في بيته السادس انه بكى في منازل أحبابه الدارسة، وهنا يتضح لنا أن بعض الاشياء والأمور المعينة قد تثير العاطفة في نفس المرء فيجهش بالبكاء لتوارد ذكريات محببة إلى عقله, وتمنى الشاعر في بيته السابع أن لا يحدث لمحبوباته الظاعنات ما حل به من بكاء وألم وأسى, وأشار في بيته الثامن إلى سيلان الدمع على الخد، أما في بيتيه التاسع والعاشر فقد دعا على النساء الجميلات ذوات الخدود الحمر والقدود الممشوقة لأنهن هن سبب عذاب قلبه وأسلن دموع مقلته دماً.
وقال أبو الطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:


1 وَلَو زُلتمُ ثُمَّ لَم أبكِكُم
بَكَيتُ على حُبِّي الزَّائلِ
2 أينكِرُ خَدّى دَمُوعي وَقد
جَرَت مِنهُ في مَسلكٍ سابِلِ
3 أ أوَّلُ دَمع جَرَىَ فَوقَهُ
وأوَّلُ حَزنٍ على راحِلٍ

يقول العكبري في شرح البيت الأول: المعنى: يقول: أحبكم وأحب حبكم، حتى لو ذهب الحب عني، لبكيت على فراقكم، فلو فارقتموني، ولم أبك على فراقكم سُلُواً عنكم، بكيت على ما فات وزال من حبي لكم، استغباطاً لذلك فيكم، واستعذاباً لما القاه بكم, وقوله ولو زلتم وتعقيبه في آخر البيت بالزائل، من أبواب البديع في الشعر، يعرف بالضدَّين, ويقول العكبري عن البيت الثاني: المسلك السابل: الطريق الجادة, والمعنى: يقول: أينكر خدي ما اسيل عليه من الدمع، وهو يسكن من ذلك إلى حال قد عرفها، وعادة قد ألفها، ويجري منه في طريق مسلوك، وسبيل معمور؟ لا ينكر خدي دموعي, ويقول العكبري عن البيت الثالث: المعنى: يقول: ليس دمعي بأول دمع جرى على فقد الأحبة، وليس حزني أول حزن على مفارق، بل هذا الذي لا أعرف غيره، ولا أود فقده.
وقال المتنبي في قصيدة يرثى بها ابا الهيجاء عبدالله بن سيف الدولة:


4 وَمِثلُكَ لا يُبكى عَلى قَدرِ سِنِّهِ
وَلَكِن على قَدرِ المَخِيلَةِ والأصلِ

يقول العكبري عن هذا البيت: المخيلة: السحابة التي يتأكد الرجاء في مطرها، والدلالة بالشيء الصادق مخيلة، واراد بالمخيلة هاهنا: الفراسة, والمعنى: يقول: مثلك لا يبكي عليه بقدر سنه، لأنك لم تبلغ مبلغ الرجال، فيوجب فرط البكاء عليك، ولكنك يُبكى عليك على قدر اصلك، لأنك من أصل كبير، ويبكى عليك على قدر الفراسة فيك، لأنا نتفرس فيك الملك، فلهذا يكثر البكاء عليك، لأنك جدير بالبكاء عليك، لشرف أصلك.
وقال الشاعر أيضا وفي نفس القصيدة التي منها البيت الرابع:


5 وَلَم أَرَ أعصَى مِنكَ لِلحُزنِ عَبرةً
وأثبتَ عَقَلاً والقُلوبُ بلا عَقلِ

يقول العكبري عن هذا البيت: أصل العبرة: تردد البكاء في الصدر، وتردد الدموع في العين, وامرأة عابر بغير هاء: إذا تهيأت للبكاء, والمعنى يقول: لم أر أحداً لا يطيع دمعه الحزن سواه، وإنه أثبت الناس عقلاً إذا أذهب الخوف عقول الرجال عند الحرب, يشير بذلك إلى استمهاله لأمرها واستقلاله بحملها, والمعنى: أنه صابر عند الشدائد، ثبت في الحروب,وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة ويعتذر إليه:


6 أشكُو النَّوَى وَلَهُم مِن عبرَتي عَجبٌ
كَذاكَ كانت وما أشكو سِوى الكِلَلِ

يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: يقول: أشكو الفراق، وهم يتعجبون من بكائي، كذلك كانت الدموع تجري، بحيث لم يكن بيني وبينهم بعد إلا الحجاب، حيث لا اشكو سوى الستر الذي بيني وبينهم، في حال دنو المسافة، حين كانت تحجب بيننا الكلل، وهي جمع كلة، وهي الستر, والمعنى: أنه يقول لاصحابه: لا تعجبوا من بكائي على فراقها، فقد كنت أبكي في هجرها، وما أشكو مانعاً دون الكلل التي تضمها، والستور التي تحجبها، والدار واحدة، والمنازل متجاورة، فكيف ظنكم بي؟ وأنا اشكو النوى التي تمنع منها، والبعد الذي يؤيس عنها.
وقال المتنبي في قصيدة يعزي بها سيف الدولة بأخته الصغرى، ويسليه بالكبرى:


7 إنَّ خَيرَ الدُّمُوع عَيناً لدَمعٌ
بَعَثَتهُ رعايَةٌ فاستَهَلَّا

يقول العكبري عن هذا البيت: الرعاية: حسن المحافظة, والاستهلال: الانسكاب, والمعنى: يقول: إن خير الدموع لدمع سببه رعاية العهد، وهو عون على الحزن، وذلك أن الدمع يخفف برح الوجد.
وقال الشاعر في نفس القصيدة التي منها البيت السابع:


8 كُلُّ دَمعٍ يَسيلُ مِنها عَلَيها
وبِفَكّ اليَدَينِ عَنها تُخلَّى

يقول العكبري عن هذا البيت: كل دمع تسيله، فإنما هو أسف على مفارقتها (الدنيا)، وكل حزن تبعثه، فإنما ذلك اشفاق على مباعدتها، ويحل اليدين المتمسكتين تترك وتزايل، وبفكها عنها تخلى وتباين، وهذا إشارة إلى الموت الذي يغلب أهل الدنيا على قربها، ويخرجهم عنها مع كلفهم بحبها.
وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:


9 وفاؤكُما كالرَّبع أشجاه طاسِمه
بأن تُسعدَا والدَّمع أشفاه ساجِمُه

يقول العكبري في شرح هذا البيت: الشجو: الهم والحزن، والطاسم: الدارس، والطامس ايضا، والساجم: السائل, والمعنى: يريد: أنه يخاطب اللذين عاهداه على أن يسعداه عند ربع الأحبة بالبكاء، فقال لهما: وفاؤكما لي بإسعادي على البكاء كهذا الربع، ثم بين وجه الشبه، فقال: أشجى الربع دارسه، كلما تقادم عهده كان أحزن لزائره، وأشد لحزنه، وأشفى الدمع للحزن سائله المنهل الجاري, يريد ابكيا معي بدمع ساجم، فإنه اشفى للغليل، كما أن الربع أشجى للمحب إذا درس.
وقال المتنبي في قصيدة قالها في صباه:


10 قَبَّلتُها وَدُمُوعي مَزجُ أدمُعها
وَقَبَّلَتني على خَوفٍ فَماً لِفَم

يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يقول: لما بكينا جميعاً امتزجت دموعها بدموعي، في حالة التقبيل,, يقول: دموعي مازجت أدمعها (محبوبته)، أي امتزجت بها، والمعنى:أنهما تقاربا حتى اختلطت دموعهما حال التقبيل,لقد تطرق ابوالطيب في أبياته العشرة السابقة إلى ضروب من الحالات النفسية التي يصاحبها جريان الدمع، ففي أبياته الثلاثة الأولى بين أبو الطيب أنه بكى بسبب فراق محبوبته له، وأنه لو لم يبك على فراقها لبكى على ما فات وزال من حبه لها، استغباطاً لذلك فيها، واستعذاباً لما يلقاه بها, وفي بيته الرابع وضح أن سبب البكاء على موت ابن سيف الدولة رغم صغر سنه كان بسبب وضعه وأصله وأنه ابن لسيف الدولة.
ويتوقع أن يكون له شأنه لو بقي حياً,, ! وأشار في بيته الخامس إلى أن بعض الناس بسبب موقعه ومكانته عند الآخرين لديه القدرة على حجب انسكاب دموعه رغم ما يحس به من ألم ومن مظاهر بادية على محياه من الحزن.
ووضح شاعرنا المتنبي في بيته السادس انه كان يبكي وهو قريب من محبوبته لعدم تمكنه من الوصول إليها فما بالك به وهي قد رحلت وفارقت ونأت، أما في بيته السابع فقد بين أن خير الدموع هي الدموع التي تنهمر رعاية للعهد والمودة,, وبين ابو الطيب في بيته الثامن أن الناس تحب الحياة والدنيا ويبكون عليها مع علمهم أن نهايتها الموت والفناء, أما في بيته التاسع فقد أشار إلى أن آثار الأحبة قد تثير أشجان المحب فتنهمر دموعه على الأيام الخالية وربط في بيته العاشر بين الخوف والدموع، فهو لما قابل محبوبته وقبلته وهي في حالة من الخوف فماً لفم امتزج دمعه بدمعها خوفاً من الفراق,,,وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها سيف الدولة ويذكر بناء مَرعَشَ:


1 فيا شَوقُ ما أبقى ويالي من النّوَى
ويا دَمعُ ما أجرَى وياقلبُ ما أصبَى

يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: يريد: ياشوقي، ما ابقاك فلا تنفد ويالي من النوى: استغاثة، كأنه يقول: يامن لي يمنعنى من ظلم الفراق, ويا دمعي ما أجراك! ويا قلبي ما اصباك!,, وهذا كله تعجب,وقال أبو الطيب في قصيدة قالها في صباه يمدح بها شجاع بن محمد الأزدي:


2 وَلَقد بَكَيتُ على الشَّبابِ وَلِمَّتى
مُسوَدَّةٌ ولِمَاءِ وَجهي رَونَقُ

يقول العكبري عن هذا البيت: اللمَّة من الشعر: ما ألم بالمنكب, والرونق: الحسن والنضارة, والمعنى: يقول: بكيت على الشباب ولمتي مسودة, يريد: أيام كانت فيها لمتي سوداء، ولوجهي حُسن، والغواني يطلبنني.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها علي بن إبراهيم التنوخي:


3 أحَقُّ عافٍ بِدَمّعِكَ الهِمَمُ
أحدَثُ شيءٍ عَهداً بها القِدمُ

يقوم العكبري عن هذا البيت: العافي: الدارس الذاهب, عفا: درس, والهمم: جمع همة, والقدم: خلاف الحدوث, والمعنى: قال أبو الفتح: سألته عن معناه؟ فقال: أحق ما صرفت إليه بكاءك همم الناس، لأنها قد عفت ودرست، فصار أحدثها عهداً قديماً, وقال الخطيب: احق عاف بأن يبكى عليه همم الكرام، لأنها قد عفت كما تعفو الربوع فهي أحق بدمعك من كل الدارسات، وجعل القدم أحدث الأشياء بالهمم، أي دروسها قديم، فلا همم في الارض, وقال الواحدي: أولى ذاهب دارس ببكائك الهمم التي قد درست وذهبت، أي أنها أولى بالبكاء من الدمن والأطلال، ثم ذكر قِدَمَ وجودها بالمصراع الثاني, فقال: لا عهد لأحد بالهمم، لأن المحدثات تتأخر عن القدم، وإذا كان القدم أحدث الأشياء عهداً بها، فلا عهد بها لأحد, وهذا كما تقول: أحدث الناس عهداً بها آدم، دل هذا على أنه لا عهد بها لأحد من الناس,ربط أبو الطيب في بيته الأول من أبياته الثلاثة السابقة بين شوقه لمحبوبته التي فارقته وابتعدت عنه، وبين جريان دمعه، فبعدها عنه وشوقه لرؤيتها هما سبب بكائه وجريان دمعه.
وبين في بيته الثاني أنه كان يبكي خوفاً على ذهاب شبابه، ولمته كانت مسودة ولماء وجهه حسن ونضارة، فكيف به الآن بعد ما ابيض شعر رأسه وذهب رونق وجهه, أما في البيت الثالث فقد بكى شاعرنا على همم الرجال التي ذهبت وعفت ودرست, ونلاحظ من أبيات شاعرنا هذه أنه ربط بين جريان الدموع، وعوامل نفسية متنوعة.
يتبع

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved