أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 13th January,2001 العدد:10334الطبعةالاولـي السبت 18 ,شوال 1421

متابعة

من أعلام علماء القصيم
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
** تحدثت في مقالات ماضية وما زلت عن الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله وما كنت أظن أني سأضطر أثناء حديثي عن الشيخ إلى الحديث عن تلميذه النجيب وخليفته البارز الذي جلس في مجلس شيخه منذ ما يقارب من نصف قرن فخلفه في إمامة الجامع الكبير بعنيزة والخطابة فيه والتدريس في ذلك الجامع العامر.
رحل الشيخ السعدي رحمه الله في منتصف عام 1376ه وترك فراغاً كبيرا في بلده وما جاوره وأصبح طلابه كالأيتام الذين فقدوا عائلهم وما ظن أشد المتفائلين في ذلك الوقت ان يأتي من يسد هذا الفراغ الذي تركه الشيخ بعد رحيله.
ويعتقد كثير من الناس أن الشيخ السعدي رحمه الله هو الذي أوصى بأن يكون الشيخ محمد العثيمين الخليفة من بعده في الخطابة في المسجد والتدريس وهذا ليس بصحيح إذ كان يخلفه حال سفره في المسجد الشيخ عبدالعزيز بن محمد البسام رحمه الله المتوفى سنة 1413ه وعندما طلبت من الشيخ محمد العثيمين رحمه الله معلومات عن شيخه حال كتابتي لبحث الماجستير عن الشيخ السعدي رحمه الله أحالني للشيخ المذكور وقال لي: إنه أعلم به لأنه كان يخلفه في الصلاة حال سفره ومرضه لكن تنصيب الشيخ محمد خليفة لشيخه كان من قبل أحد زملائه الكبار بل وأحد شيوخه في سن الصغر وهو الشيخ محمد بن عبدالعزيز المطوع رحمه الله قاضي عنيزة في الفترة (1375ه 1379ه) المتوفى سنة 1387ه .
وكان هذا منه رحمه الله من الفراسة النادرة ومما يذكر له فيشكر عليه إذ أصبح الشيخ محمد بعد ذلك أبرز تلاميذ الشيخ وأقدرهم على القيام بهذه المهمة فتوافد طلاب العلم على مسجده والتف الطلاب على حلقته وقصدوه من شتى بلاد الدنيا حتى أصبح ذلك المسجد خلية نحل طوال أيام السنة فترى طلاب العلم حملوا كتبهم وأعدوا دفاترهم وبروا أقلامهم وتزاحموا على مجلس الشيخ والمتأخر عن الحضور لا يكاد يجد له مكاناً إلا في مؤخرة المسجد بحيث لا يكاد يرى الشيخ من كثرة طلابه، هذا سوى من يجلس هنا وهناك في زوايا المسجد من المستمعين الذين يحرصون على استماع حديث الشيخ كلما سنحت لهم الفرصة وقد بلغ الشيخ رحمه الله رحمة واسعة درجة من العلم والشهرة والقبول لم يبلغها إلا ثلة من العلماء يعدون على أصابع اليد الواحدة.
نسبه ومولده:
هو أبو عبدالله محمد بن صالح بن محمد العثيمين عرّف رحمه الله بنفسه في حديث ماتع فقال: ولدت في مدينة عنيزة ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة 1347ه وبدأت في قراءة القرآن على جدي من جهة أمي الشيخ عبدالرحمن بن سليمان آل دامغ رحمه الله فحفظت على يديه القرآن الكريم ثم اتجهت إلى طلب العلم فتعلمت بداية الخط والحساب وبعضا من فنون الآداب وأتذكر في تلك الفترة أن الشيخ الجليل عبدالرحمن السعدي رحمه الله أقام اثنين من طلبة العلم لديه ليقوما بتدريس الطلبة الصغار من أمثالي وكان يقوم بتدريس عدد من فنون العلم فقرأت على يديه مختصر العقيدة الواسطية ثم قرأت في الفقه منهاج السالكين للشيخ عبدالرحمن السعدي ثم قرأت في متني الألفية والاجرومية كذلك قرأت على الشيخ عبدالرحمن بن علي بن عودان الفرائض والفقه ثم تتلمذت على يد شيخي وأستاذي الشيخ السعدي فقرأت عليه التفسير والفقه وأصوله والفرائص ومصطلح الحديث والتوحيد وشيئاً من النحو والصرف والحقيقة أن انتقال والدي رحمه الله إلى الرياض كشف لي مدى الحب الذي يكنه لي الشيخ السعدي إذ أصر فضيلته في طلب بقائي بجواره في عنيزة للاستزاده من العلم وكاتب والدي كثيراً فوافق رحمه الله فبقيت بجوار الشيخ السعدي وأجدني اليوم متأثراً به كثيراً سواء في طريقة عرضه للدروس والعلم أو تقريبه بالأمثلة والمعاني كما تأثرت بأخلاقه رحمه الله فقد كان يمازح الصغير ويضحك مع الكبير وكان من أحسن من رأيت أخلاقاً.
ثم قرأت على شيخي الثاني سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز فابتدأت قراءة صحيح البخاري ثم بعضا من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية والحقيقة كان تأثري بالشيخ عبدالعزيز رحمه الله لعنايته بالحديث وأخلاقه الفاضلة وبسط نفسه للناس.
وبعد هذه السنوات من التعلم جلست للتدريس في الجامع وعندما فتحت المعاهد العلمية بالرياض عام 1372ه كنت من أول الملتحقين ولما علم المسؤولون في المعهد عن مستواي العلمي أدخلوني السنة الثانية بعد ان استشرت الشيخ علي الصالحي أحد طلبة الشيخ السعدي وكان المعهد في تلك الفترة ينقسم إلى قسمين خاص وعام فكنت في القسم الخاص وكان يسري في تلك الأيام نظام دراسة السنة المستقبلة أثناء العطلة ثم يجري الاختبار مع بداية العام الثاني فإذا نجح الطالب ينتقل إلى السنة التي تليها وقد اختصرت زمن دراستي في المعهد بهذه الطريقة إلى سنتين عينت بعدها مدرساً في معهد عنيزة العلمي لكني واصلت دراستي منتسباً في كلية الشريعة مع مواصلتي طلب العلم على الشيخ عبدالرحمن السعدي وبعد وفاته رحمه الله توليت إمامة الجامع الكبير في مدينة عنيزة ومارست التدريس في مكتبة عنيزة الوطنية إضافة إلى التدريس في المعهد العلمي ثم انتقلت للتدريس في كلية الشريعة وأصول الدين بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم.
هذا حديثه المختصر رحمه الله عن نفسه وأقول زيادة على هذا الحديث:
قراءته على الشيخ عبدالرحمن بن عودان رحمه الله عندما كان قاضيا في عنيزة (1361ه 1369ه) وتلميذي الشيخ السعدي اللذين نصبهما لتدريس الصغار أمثال الشيخ محمد هما: علي بن حمد الصالحي ومحمد بن صالح المطوع عرض على الشيخ رحمه الله القضاء مرارا لكنه رفض بل صدر قرار بتعيينه رئيساً لمحاكم الأحساء وبعد مراجعات وشفاعات أعفي.
تصديه للتدريس:
كما بين رحمه الله تصدى للتدريس في وقت مبكر وانفرد به بعد وفاة شيخه وطار صيته وانتشر ذكره في نهاية التسعينات الهجرية فتوافد عليه طلاب العلم وكانت حلقته تضم المئات من طلاب العلم من بلده ومن البلدان المجاورة سوى الطلبة الغرباء الذين جاوروا مسجده ولازموا حلقته.
والحقيقة ان العجب لا ينقضي من بذل الشيخ لنفسه وإقباله على التدريس وبذل اوقاته فيها فهو ملازم للمسجد للتدريس لا يكاد يتركه إلا في موسمي رمضان والحج حيث ينتقل إلى مكة المكرمة للتعليم والفتوى.
فهو يقضي طوال وقته في التدريس في الجامعة أو المسجد بل خصص وقت الظهر الذي يجعله الناس للراحة للرد على استفسارات الناس وما يرده من الفتاوى عن طريق الهاتف.
وإن المتأمل في حاله رحمه الله يراه جامعة مستقلة ففي الإجازات الصيفية حال استعداد كثير من المدن بالدورات العلمية الصيفية التي يجندون لها الأعداد الكبيرة من العلماء وطلبة العلم لتدريس سائر فنون العلم وربما يجد المنظمون لهذه الدورات الحرج الكبير في تسديدها نجد الشيخ رحمه الله دورة علمية متكاملة يعلن عنها كل صيف تبدأ في الساعة الثامنة صباحاً وتنتهي عند صلاة الظهر مع استمرار برنامجه اليومي المعتاد وهذا لا يطيقه إلا من آتاه الله من القوة والصبر والجلد مثل ما منّ الله به على الشيخ رحمه الله والذين يرون إقبال الشيخ على التدريس في الحرم في شهر رمضان وبذله لوقته واجتهاده في ذلك رغم المشقة الظاهرة عليه يبدون إشفاقهم على الشيخ مما يرون من الإرهاق الظاهر عليه.
ففي العشر الأواخر من رمضان في ايام الصيف يقضي ما بين صلاة التراويح إلى صلاة القيام في التدريس ثم بعد صلاة القيام تنهال عليه الأسئلة ويحاصره السائلون فلا يكاد يصل بيته إلى قرب الفجر ثم يدرس بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس ولا أدل على ذلك من استمراره رحمه الله على هذا المنوال حتى مع ازدياد المرض وشدة وطأته حيث انتقل في شهر رمضان الماضي من المستشفى في الرياض إلى بيت الله الحرام وألقى دروسه كالمعتاد مما ظن معه كثير من الناس أن ما ألم بالشيخ قد زال.
زهده وتواضعه:
الشيخ رحمه الله عاش حياة الزهد والورع فقد كان رحمه الله بعيداً عن الدنيا رغم إقبالها عليه وترى أثر هذا الزهد والتواضع في ملبسه ومركبه ومسكنه وسائر حياته كان إلى وقت قريب قبل انتقال مسكنه يذهب إلى مسجده على قدميه رغم بعد المسافة وقد عرف الناس ذلك فكانوا يستغلون هذا الطريق للالتقاء بالشيخ واستفتائه فلا تراه في سائر الأوقات إلا وتتبعه الجماعات التي تتناقص بعد انقضاء حاجاتها.
كان رحمه الله متواضعاً للصغير والكبير وأذكر ذات مرة وقد أكرمنا الله بمجاورة الشيخ لنا في أحد مواسم الحج أنه قدم من المسجد ونحن برفقته وبعد صعوده الدرج خرج أحد أبنائي الصغار فلما رآه الشيخ نزل من الدرج للسلام عليه فأسرعت وحملته إليه لأمنعه من النزول فقبله ثم نزل لتقبيل الآخر فتعجبت من هذا الخلق وشكرت له هذا التواضع وهذا ديدنه رحمه الله مع جميع الصغار.
ومما يجدر بالذكر أن الشيخ رحمه الله لم يسافر خارج المملكة طوال عمره إلا مرة واحدة في إجازة الصيف الماضي لتشخيص المرض الذي أصابه وكان يرى أن بقاءه في الداخل اكثر نفعا وأجدى لكنه كان شديد الحرص على مقابلة المسلمين من شتى بلاد الدنيا عند قدومهم للحج أو العمرة وأذكر أني دعوته ذات مرة لتناول طعام العشاء وكان رحمه الله لا يرد الدعوة إلا عند عدم استطاعته لإجابتها فوافق على ذلك ثم أرسل لي أحد تلاميذه بعد صلاة العصر للاعتذار وطلب تأجيل الموعد لأن هناك وفداً من المسلمين الأمريكان طلبوا لقاء الشيخ فخشي الشيخ أن يمتد الوقت بهم فاعتذر وفعلا بقي معهم الشيخ إلى قرب منتصف الليل وهذا يدل على حرصه رحمه الله على مقابلة المسلمين والوقوف على مشاكلهم رغم عدم سفره إلى بلادهم.
مؤلفاته:
ترك الشيخ رحمه الله العديد من الكتب النافعة والرسائل المفيدة منها ما كتبه وألفه بنفسه ومنها ما جمعه تلاميذه من دروسه ثم عرضت عليه فأجازها حيث أصبحت هذه الكتب من أهم المصادر الحديثة التي يعتمد عليها طلبة العلم لتعمق الشيخ في بحث المسائل ومتابعته للدليل ومنها:
* تلخيص الحمية.
* مجالس رمضان.
*شرح الواسطية.
*القول المفيد على كتاب التوحيد.
* الشرح الممتع على زاد المستقنع.
* تسهيل الفرائض.
* القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى.
*رسالة في الحجاب.
*رسالة في الدماء الطبيعية.
* حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة.
*المنهج لمريد الحج والعمرة.
*الضياء اللامع من الخطب الجوامع.
وغيرها من الكتب والرسائل النافعة، هذا سوى الكتب التي جمعت فيها فتاواه والتي صدر منها العديد من الأجزاء.
ويذكر ان الشيخ رحمه الله أحد أعضاء هيئة كبار العلماء في هذا البلد وتستضيفه إذاعة القرآن الكريم في برنامج نور على الدرب وغيره للإجابة على أسئلة المستمعين وقد فاز رحمه الله بجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام سنة 1414ه
دعوة للباحثين:
ان ما تركه الشيخ من تراث علمي ينبغي أن يوجه طلاب العلم للاستفادة منه وإبرازه وهذا يوجه على وجه الخصوص إلى الذين يسعون لتسجيل رسائل علمية في التخصصات الشرعية فنذكرهم بأن تراث الشيخ العلمي خصوصاً في تخصصي الفقه والعقيدة يحتاج إلى دراسة متخصصة إذ كل منهما يحتاج إلى رسالة دكتوراه تامة تامة تامة.
وفاته ومشهد جنازته:
اصيب رحمه الله بمرض السرطان واكتشف سريانه في جسده في الإجازة الصيفية الماضية فسافر إلى امريكا ورجع بعد أيام قضاها هناك وقد رفض رحمه الله أخذ العلاج الكيماوي خصوصاً أن المرض لم يكتشف إلا بعد ان استفحل فعاد إلى بلده مستسلماً لقضاء الله وقدره وما زال المرض في ازدياد حتى أدخل على أثره المستشفى التخصصي بالرياض وبقي فيه حتى انتقل في بداية شهر رمضان إلى مكة حيث أعد له مكان داخل الحرم ربط بالشبكة الصوتية للحرم حيث ألقى دروسه من على سريره وقد كشف هذا المرض محبة الناس للشيخ وعظم تعلقهم به من كثرة زيارته والسؤال عنه, انتقل بعد عيد الفطر إلى المستشفى التخصصي بجدة حيث قضى فيه بقية أيامة حيث وافاه أجله بعد عصر الأربعاء 15/10/1421ه وبعد إعلان خبر وفاته وانتشاره قصدت الوفود مكة المكرمة وبدأ الناس يتوافدون على الحرم من بعد صلاة الظهر حتى أصبح الحرم والمنطقة المحيطة به أشبه بحاله في ايام العشر الأواخر من رمضان وما أن حانت صلاة العصر حتى اكتظ الحرم بالمصلين فالمطاف والأروقة والساحات المجاورة لم تسع الناس ولما انتهت صلاة الميت وحُمل رحمه الله على الأعناق انهمرت الدموع واختلطت الأصوات وضج الناس بالبكاء فمصابهم واحد وبقي تتناقله الأيدي من المطاف إلى باب الملك عبدالعزيز في وقت جاوز الثلاثين دقيقة رغم أن المسافة أمتار معدودة لكن لكثرة الزحام وتدافع الرجال.
ورغم الترتيب الأمني الدقيق والتواجد المكثف إلا أن الجنازة لم تصل إلى السيارة إلا بعد جهد جهيد ووقت طويل.
وبعد نقله إلى مقبرة العدل توجه الناس إليها راكبين وراجلين حتى اكتظت الشوارع بالمشاة ولكثرة الأعداد منع الكثير منهم من دخول المقبرة لضيق المكان ولو سُمح للجميع بالدخول في ساعة واحدة لربما حدث ما لا تُحمد عقباه لشدة الزحام, وبعد دفنه عزّى الناس بعضهم بعضاً وارتفعت الدعوات الخالصة للفقيد بالرحمة والتثبيت.
وقد حانت صلاة المغرب والمقبرة ما زالت تغص بالوافدين ولا شك أن هذا من علامات القبول إن شاء الله فكما جاء في الحديث أنتم شهداء الله في أرضه خصوصاً أن هذه المحبة خالصة لوجه الله لا يشوبها أو يكدر صفوها ترغيب ولا ترهيب.
نسأل الله تعالى أن يغفر لشيخنا وأن يرحمه وأن يوسع له في قبره ويفسح له فيه وأن يجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
د, عبدالله بن محمد بن رميان الرميان

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved