أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Wednesday 17th January,2001 العدد:10338الطبعةالاولـي الاربعاء 22 ,شوال 1421

مقـالات

ماذا يخسر المجتمع ,, ؟
منعطفات
د, فهد سعود اليحيا
كُتبت هذه المقالة أساساً للتواكب مع اليوم العالمي للصحة النفسية 10 أكتوبر الماضي.
ولكن لأسباب مبهمة تبعث على الاحباط والتوتر والاكتئاب لم تر النور في ذلك اليوم ولا بعده.
وبكل تأكيد، لم يكن لتحرير العزيزة الجزيرة أي دور في ذلك, بل في الحقيقة أنهم لم يروها إلا هذه المرة, ولقناعتي بأهمية الموضوع ها أنا أنشرها جزأين، وأرجو أن يشاركني القارئ قناعتي بأهميته، فإن لم يحدث فالعفو والسموحة.
***
عندما وضع بياجيه نظريته في النمو العقلي المعرفي للأطفال، في مطلع القرن العشرين، قسم المراحل إلى أربع هي:
1 المرحلة الحسية الحركية (من الولادة حتى العام الثاني).
2 مرحلة ما قبل العمليات (27 سنوات).
3 مرحلة العمليات الملموسة (711 سنة).
4 مرحلة العمليات الصورية (11 حتى مرحلة الرشد).
وما يهمنا هنا هو مرحلة العمليات الملموسة إذ يتصف تفكير الطفل بالقدرة على فهم العلاقات المباشرة بين الأشياء، ولكن بدون قدرة على التجريد، إذ ان قدرته مرتبطة بأشياء عيانية او ملموسة , فإذا وضعت عصيراً في كوب طويل، ووضعت نفس القدر من العصير في كوب عريض قصير، فإنه سيصر على ان محتوى الكوب الطويل هو الأكثر, وعندما تقول لطفل تلك المرحلة أمسك الدرب فسيتحير كيف يمكن إمساك الدرب، وربما حاول أن يبسط يديه على الطريق، فهو ليس بقادر على فهم المعنى المجازي.
طفولة المجتمعات:
وشاءت حكمة الله عز وجل ان تتشابه المجتمعات في نموها الجمعي مع الإنسان الفرد في جوانب كثيرة؛ منها مراحل النمو العقلي والوعي, ومجتمعات العالم الثالث تسود فيها مفاهيم المرحلة الملموسة، حيث ليس للفكر المجرد مكان، ولا قبول للمفاهيم التجريدية قبول.
بل العكس، هناك عداء كبير لها، بينما الباب مفتوح على مصراعيه للفكر المباشر الجامد.
والعالم العربي بشعوبه ينتمي، ولا فخر، للدول النامية بكل جدارة، حيث ليس بالإمكان أحسن مما كان، ولم الاستعجال، وما فعلناه للناس يخب عليهم,, إلى آخره بكل اللهجات.
بين عقليتين:
انظروا لأي كتاب باللغة الإنجليزية متوسط الحجم بل وحتى الكثير من صغيرة الحجم لتجدوا في آخر الكتاب فهرساً أبجدياً بالإضافة إلى بيان محتويات الكتاب في مقدمته.
وهذا أمر نادر الوجود في الكتب العربية, وأمامي كتاب ضخم بعنوان نظريات الشخصية يقع في أكثر من سبعمائة صفحة، ويتكون من عدة فصول، وفي كل فصل العديد من العناوين الفرعية, وكما يتوقع القارئ ليس هناك فهرس، بل وأدهى من ذلك أن بيان المحتويات لا يحمل إلا عناوين الفصول، مغفلاً العناوين الفرعية, وبين يدي كتاب بالإنجليزية بعنوان اضطرابات الشخصية ويقع في ثلاثمائة صفحة، ويحوي فهرساً من عدة صفحات لم يغفل شاردة ولا واردة.
الفرق بين هذين الكتابين هو الفرق بين الفكر الغربي، والفكر العربي الحالي, فالفكر الغربي بحثي، يشحذ الذهن، ويطلب منك البحث هنا وهناك، ولذا كانت الفهارس ضرورة أما الفكر العربي الراهن فهو جامد قائم على الحفظ والتلقين: اقرأ الكتاب كله واحفظه، لتجد ما تبحث عنه مستقبلاً إذا عنّ لك ان تبحث عن مدخل معين أو مادة بذاتها, ستقلب صفحات الكتاب وتقول: أنا متأكد انه هنا, يمكن في القسم الأوسط، أو الربع الآخير, أنا متأكد .
ومن طبيعة الفكر الملموس المباشر غير القادر على التجريد انه لا يقبل تماماً فكرة ان الوقاية خير من العلاج، إلا بعد ان يحصد الناس الجدري، وتفتك بهم الكوليرا، فيتجهون للتطعيم، ولايقبل الفكر المباشر ان تصرف مبلغا هائلاً على بيتك مقابل أمان من انهياره مستقبلاً، أو درءاً لتكاليف صيانة أكبر من كلفة البيت، ولا يقبل ان يرضى بدرهم اليوم مقابل مائة ألف في العام القادم، ولكنه يرضى فرحاً بعشرة آلاف الآن، وليكن الطوفان في العام القادم.
هل هم مجانين؟
هذه النظرة الضيقة التي تحكم مجتمعاتنا العربية، السعيدة بجهلها وتخلفها، تتجلى في أقسى صورها في مجال الصحة النفسية, وحينما سقط أول صاروخ سكود في الرياض إبان حرب الخليج، حضر إلى قسم الإسعاف اثنا عشر شخصاً, اثنان منهما كانا بحاجة لجراحات صغيرة عاجلة تمت في قسم الإسعاف، أما العشرة الباقون فكانوا يعانون من ردود أفعال نفسية, نصفهم تم علاجهم في قسم الإسعاف، والنصف الآخر أدخل لقسم الطب النفسي.
وعندما بدأ التحضير للحرب البرية أخليت أسرة المستشفيات، وجاءتني مكالمة صاخبة من مسؤول، وهو طبيب في نفس الوقت، تأمرني بإفراغ القسم النفسي من نازليه، وأنهى كلامه بقوله بسرعة، ليس لنا وقت للمجانين عاد! ,أما مسؤول في بلدية الطائف فقد تقدمت له إدارة مستشفى شهار الشهير، باقتراح ان يقوم النزلاء بعمل المزارعين في حديقة المستشفى، وهم بالمناسبة نزلاء مستقرو الحالة، وبقاؤهم في المستشفى ليس لسبب طبي ولكن لرفض الأهل أخذ أقاربهم، المرضى سابقاً.
وكان رد المسؤول بالرفض الصارم، وقال لا فض فوه معللاً موقفه: ما قدرنا على العقال، نقدر على المجانين , والمشكلة ان المسؤول منح لنفسه القدرة على التشخيص وفرز العقلاء عن المجانين ولا أدري ماذا سيفعل سيادته لو علم أن 20 من بين كل مائة شخص ممن يعملون في مثل إدارته يعانون من مشاكل نفسية (أي مجانين حسب وصفه).
الاضطرابات النفسية ونزلات البرد:
نعم! الاضطرابات النفسية أوسع انتشاراً من أمراض البرد, ولو ذهبت شتاء إلى السوق وأخضعت كل من فيه للاختبار النفسي، لوجدت أن 20% يعانون من مشاكل نفسية.
بينما ستجد أن من يعانون من الرشح وأمراض البرد لا يزيدون على 57%.
من يعاني من أمراض البرد يمكن التعرف عليه بسهولة، أما أولئك ال 20% فهم على رأس العمل نظرياً ويديرون الأسر ويقومون بتربية النشء كما يتصور لنا، كيف ستكون إنتاجية هؤلاء في العمل؟ كيف يرعون مصالح البشر في مواقعهم؟ كيف ستكون أوضاعهم الأسرية؟ ماذا يحل بأطفالهم؟ لا أحد يدري طالما أن لا كحة هناك، ولا عطس، ولا أنوف سائلة.
ربما هو تفريق اعتباطي:
من حكمة الخالق ورحمته، أن جميع الأمراض ذاتية الحد (Self-Limiting) ولولا هذا لفنيت البشرية, كان الطاعون يعصف بالمدينة فيقضي على نصف سكانها ثم يختفي من تلقاء نفسه, تصول الكوليرا بمقاطعة ما وتجول فتفتك بمن تفتك ثم تزول, يخرش الجدري وجوه البشر وجلودهم، ثم يرحل تاركاً توقيعه على الوجوه وأحياناً في الأعين, والأمراض النفسية ليست استثناء (نفضل تسميتها اضطرابات نفسية لا أمراضاً، فهي اضطراب في الوظائف) فلم التمييز الأخرق ضد الاضطرابات النفسية؟ عنصرية حتى في الأمراض؟
في دراسة تتبعية موسعة لمنظمة الصحة النفسية استمرت سنتين، شملت من يعانون من الاكتئاب، ولا يتلقون علاجاً, وخلصت الدراسة إلى ان 40% منهم يشفون (دون علاج)، و 40% آخرين يحولون إلى الاكتئاب المزمن، أما 20% فيتحولون إلى توعك المزاج المزمن (Dysthymia) أي أن 60% لن يكونوا منتجين عملياً أو وظيفياً، ولن يكونوا بحالة نفسية جيدة ومستقرة.
جابر عثرات الكرام:
قبل أن أسترسل، أقول ان هناك نقاطا من الضوء الساطع، مثل نجوم لوامع في ليل قاتم, وعلي هنا أن أشيد بالسيدة الفاضلة حصة العذل وجهودها الرائعة, فهي تتبنى علاج عدد من ذوي الاضطرابات النفسية، كما تدعو صديقاتها للقيام بالشيء نفسه, بل وأكثر من ذلك تكرس جزءا من كتابتها الصحفية، ونشاطها الاجتماعي لدعوة أهل الخير لتبني هذه الفئة المعذبة، المنسية من قبل الناس، والتي نسيتها المشاريع الصحية، وضيعتها شركات التأمين الطبي، والتي منعها حياؤها والعوامل الاجتماعية من طلب المساعدة علناً.
شعار اليوم:
جعلت منظمة الصحة العالمية من الصحة النفسية والعمل شعاراً ليوم الصحة النفسية لعام 2000، وهو اختيارعبقري، عله يفتح أعيننا على ما يفقده المجتمع من جراء تجاهله أهمية الصحة النفسية, فالعمل يتخذ أهمية فريدة في الصحة النفسية، والعلاقة تبادلية طردية إن إيجاباً، أو سلباً بينهما, فالاضطرابات النفسية، ومشاكل الإدمان، وانحراف السلوك، اكثر انتشاراً بين العاطلين عن العمل, إذ ان العمل ليس لكسب العيش فحسب، ولكنه يحقق مردوداً معنوياً عالياً، ويشعر المرء بقيمته كفاعل منتج في المجتمع, وعلى الجانب الآخر تعطل الاضطرابات النفسية العمل، ويهدر الكثير من المال، بما يفوق تكاليف العلاج بكثير,وإذا علمنا ان شركات التأمين الطبي لا تشمل تكاليف علاج الاضطرابات النفسية سيتكشف لنا بعد جديد للخسائر,والأدهى من ذلك، أننا نتجه إلى تخصيص الطب، ومد مظلة التأمين الصحي، لتشمل كل المواطنين والمقيمين، وأرجو أن تفلح هذه المقالة في جذب انتباه المسؤولين كي لا نفاجأ بعد سنوات بأن الصحة النفسية لم تعتبر جزءا من الصحة العامة.

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved