أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 19th January,2001 العدد:10340الطبعةالاولـي الجمعة 24 ,شوال 1421

شرفات

شخصيات قلقة
هيندل 1685 - 1759م
المؤسس الألماني لموسيقى الإنجليز
حياته مليئة بالمفارقات الغريبة,, فهو الماني ومع ذلك احب لندن وعاش بها اغلب سنوات العمر,, هو الماني ومع ذلك يعتبر المؤسس الحقيقي للموسيقى الإنجليزية! ومن الطريف ايضاً ان هيندل لم يكن من اسرة موسيقية على عادة الموسيقيين آنذاك, لقد نما حبه للموسيقى على نحو غامض كأنه سر من الاسرار,, يهرب بآلته الصغيرة على سطح المنزل ويعزف بعيداً عن سطوة الأب.
يعزف الى هبوط الليل وهو يكاد ان يكتم اوتار الآلة حتى لا تفضحه! وعندما شاعت عبقرية هذا الطفل الموهوب توسط احد الامراء واقنع اباه ان يسمح له بدراسة الموسيقى الى جانب الدراسة العامة, كان هيندل يكره هذه الدراسة التي لا تعنيه في شيء، يحلم ان يتحرر من كل شيء عدا الموسيقى,, وبعد وفاة ابيه استمر في دراسته قليلاً كنوع من الوفاء لذكراه، ثم تركها ليلتحق باول وظيفة موسيقية تتاح له.
ومن اول خطوة عن مشوار الاحتراف تجلت شخصية هيندل الفنان,, فهو شاب طموح,, شديد الطموح,, شديد الاعتداد بالنفس,, مرهف الحس الى اقصى درجة,, كل هذه الخصال ترجمها هيندل عمليا حين شرع في تأليف اول اوبرا تحمل اسمه، وكانت صدمته شديدة حين نظر اليه مدير دار الأوبرا بعداء وازدراء,, اذ كيف يجرؤ هذا الشاب الغر على تأليف أوبرا؟!
كأن الامر بحساب السنين وليس بحساب الموهبة!! منذ تلك اللحظة ادرك هيندل ان هناك اعداء للنجاح، وهناك خصوم يتخفون وراء الستار ليطعنوا من الخلف,, ولأنه كان شديد الاعتداد بنفسه انقلب النزاع الموسيقي بينه وبين احد الاصدقاء الى مبارزة بالسيف كادت ان تودي بحياته!
إنه فنان صعب المراس لايقنع بالنجاح الظاهري، لذلك حين عمل مديراً للموسيقى في بلاط امير هانوفر ضاق ذرعا بتلك الوظيفة المرموقة,, وبالبلاط كله,, واستأذن امير هانوفر ان يسافر الى ايطاليا وهو يضمر النية على ألا يعود! وتأتي المفارقة الموجعة ان هذا الامير اصبح ملكاً لانجلترا جورج الاول ولأن هيندل حين يبعد عن لندن يصبح مثل سمكة خارج الماء اضطر الى العودة الى البلاط الملكي طالبا الصفح.
في لندن كان هيندل يعيش كتجسيد لفكرة المواطن العالمي,, فهو الماني الاصل وانجليزي بالتجنس وايطالي في اسلوبه الموسيقي,, التقط من التجوال في مدن اوروبا وشوارعها اسرار النغم ونجح في ان يصبح الموسيقار الرسمي للقصر الملكي إبان حكم الملكة آن والملك جورج الاول.
حياة نشطة من العمل الدؤوب والتأليف والتدريس، وموهبة جبارة لم يستنزفها شيء مثلما استنزفتها سهام الدسائس التي كانت تصوب اليه من كل ناحية, ففي عام 1728 افلس المسرح الذي يقدم عروض هيندل بفعل الدسائس ومؤامرات المنافسين والخصوم، فسقط هيندل فريسة للمرض والانهيار العصبي، وبعد فترة استشفاء ظهر في لندن مرة اخرى واستأجر مسرحاً جديداً.
ومرة اخرى تلمع انياب الخصوم وتنطلق سهامهم لإسقاط هيندل,, فسرعان ما تأسست فرقة مناوئة لفرقته وتحول الصراع بين الفرقتين من ساحة الفن الى حلبة السياسة، فالاسرة المالكة في صف هيندل وامير ويلز خصم الملك يقف مع الفرقة المنافسة، وينتهي الصراع الفني في ظاهره والسياسي في باطنه نهاية أليمة يفلس هيندل على إثرها ويرحل عن حبيبته لندن وهو يكاد ان يسقط ميتاً من هول الصدمة.
إفلاس,, فشل,, انهيار صحى تام,, ولاشيء في القلب سوى الحسرة والمرارة! هناك ايضاً لندن تسكن في قلبه الى الابد، فمهما باعدت السنون بينهما ثمة حبل سُري يشده نحوها مرة أخرى,, ففي عام 1837 عاد هيندل اليها بصبر السنين وصلابة الخبرة, كانت العودة بمثابة فرصة اخيرة ومحاولة يائسة للنجاح من جديد.
في هذه المرة استعان هيندل باشهر مغنيات الأوبرا ولاقى نجاحا طيبا وحماساً من الجمهور لم يصادفه في اي اوبرا من قبل، ولكنه نجاح متأخر ومؤقت, لقد ادرك هيندل - في وقفة حاسمة مع النفس - ان فشله اكثر من ليس بسبب الخصوم فقط، ولكن لان الرأي العام الانجليزي كان يناهض اوبراته ذات الاسلوب الايطالي، ويعتبرها دخيلة ومتكلفة مفضلا عليها اوبرا البالاد، وهو نوع شعبي من الاوبرات يتسم بالخفة والبساطة والغنائية.
كانت نقطة مضيئة ولحظة حاسمة من حياة هيندل الذي تتلمذ على يديه العديد من الامراء والفنانين والذي اثبت انه مؤلف موسيقي من طراز العظماء,, وهاهو - بعد كل مابلغه من مجد وماتعرض له من فشل - بعد كل هذا العمر عليه ان يبحث لنفسه عن قالب غنائي آخر يناسب الذوق الانجليزي بدلاً من ان يموت معنوياً كفنان.
بعد ان بلغ خمسة وخمسين عاما عليه ان يجرب ان يبدأ من جديد ويجد لموهبته وطاقته متنفسا آخر كأنه شاب صغير,, وبالفعل اتجه هيندل في السنوات العشر الاخيرة الى قالب الاوراتوريو وهو قالب من قوالب الغناء الديني واخلص لهذا الفن في تلك الفترة القصيرة نسبيا لدرجة ان الباحثين اعتبروها الفترة الذهبية التي ضمنت لهيندل الخلود بين عظماء النغم.
اخيرا استطاع هيندل ان يحرك مشاعر الجماهير وان يلمس في النفوس وتراً حساساً، فنفض عن كاهله آلام الشيخوخة وراح يعمل بلا انقطاع الى ان كُف بصره فجأة, كانت ضربة قاسية لهذا الفنان الذي عاش طيلة العمر يتعلم في مدرسة الاوبرا الى ان وجد بصمته الخاصة في فن الاوراتوريو.
هذا الفنان الذي رزح مراراً تحت وطأة هزائم الاوبرا صار كفيفا بعد ان ادرك النجاح الحقيقي متأخرا,, ورغم العمى واصل العمل دون انقطاع وهو ملازم داره ولايقابل احدا,.
يحاول ان يحكي صراعه مع الحياة في هذا اللحن الاخير,, ليرحل عن دنيانا وهو يقود الاوركسترا واقفا كالخيل رغم آفة العمى ,,, !!
شريف صالح

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved