أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 3rd February,2001 العدد:10355الطبعةالاولـي السبت 9 ,ذو القعدة 1421

الفنيــة

تمازج باذخ بين المفردة والنغم
مجنونها بوح متدفق من أفياء الرؤى الموسيقية
عوالم من تراجيديا الصراع بين هندسة البدر وعبقرية محمد عبده
* قراءة وتحليل: محمد المصطفى الجيلي
الحديث عن الهرم الشامخ فنان العرب محمد عبده حديث ذو شجون لا يكل منه القلم ولا يمل بل ينساب في دعة وسلاسة، ،ذلك لأن القلم يستنطق تداعيات مكنون ذخيرة ابداعية طالما اتخفنا بها هذا العملاق من مفردات جمالية ورؤى تتمرغ في طلاسم حضوره وترغمنا بها على ارتياد فواصل الروعة التي احاط نفسه بها وصارت تعرف على أنها جزء لا يتجزأ منه.
إذن فلا حاجة بنا ان نخوض في تفاصيل هذا المبدع لأن العلم ليس بحاجة للتعريف, ولكني سأتناول هنا مفردة من هذه الروائع التي تناقش جانبا من تلك الفواصل الجميلة المترفة بالإبداع, وفلسفتي في هذا التناول بجانب روعة هذه الاغنية، فإنني لاحظت أن كثيرا من أغاني محمد عبده تحمل من مادة دسمة ما يصعب ان تهضمها في وقت وجيز فالاغنية عند محمد عبده توخذ في شكل جرعات كل جرعة تناقش جزءا معينا من مكونات الاغنية كلمات لحن اداء توزيع وهكذا كما ان هذه الاغنية كاتبها مهندس الاغنية السعودية الامير الشاعر بدر بن عبدالمحسن ذلك الرجل المسكون بالابداع والشفافية مما يجعل البوح فيها يتدفق باحساس فريد يدلل من خلاله على افياء النغم والرؤى الموسيقية الذي اختطها محمد عبده على نسق الكلمة التي تضمنت الاغنية.
لذلك لم تكن الاغنية مجرد اتكاءة معتادة الانتاج متكررة التناول لا,, فهي اعمق بكثير من مستوى التوقع وترقب الدهشة, وكرست لنفسها بما حواها من مضامين لتظل احدى الدرر الخالدة لفنان العرب.
فالاغنية الخالدة مجنونها تكاملت فيها كل عناصر الابداع وتميزت بشكل واضح عن مثيلاتها بالرؤية الموسيقية التصويرية التي تناسقت تناسقا مذهلا مع الكلمات ومجنونها ليست مجرد أغنية عادية ويكفي ان تستمع لمقدمتها الموسيقية لتشعر بأنك امام ملحمة غنائية تنادي بفهم كل حاسة لديك لتستوعب تلك المفردات الشجية ومن ثم لا تلبث ان تختفي بحضرتها وتسكن إلى مقاطعها الخالدة في دهشة غريبة.
والآن دعونا لأن نرتاد مفردات ما تضمنته هذه الاغنية الخالدة:
لعيونها,,, بس لعيونها
قلبي سراب بدونها
قلبي سراب,,, وعيني سراب
ما اقول أعشقها بعقل,,.
مجنونها,,.
لقد وصل المحب درجات عظيمة من الوله والعشق وهو ينادي عيون حبيبته وتحدث بعذرية وشفافية كبيرتين عن تلكم العيون التي اوصلته لهذه المراحل المتقدمة من حالات العشق, وحتى وهو يخاطبهما ترك لنا لغزا خفيا,, فلا ندري ماذا يقصد بلعيونها,, بس لعيونها هل يعني أن حياته فدى لهذه العيون؟! أم ان هذه العيون هي المسؤولة عن وصوله لهذه الدرجة من الحب؟ ثم تركنا لحيرتنا وهويصف حالة قلبه وعيونه من دون تلك العيون إذ يقول قلبي سراب,, وعيني سراب ونحن نعلم ان اشد حالات الاحباط تصيب الانسان عندما يجد أن الحقيقة ليست مجرد خيالات وأوهام تماما كما في مسألة السراب, ثم تأتي مناجاة في شكل تساؤل بينه وبين نفسه لانه الوحيد الذي يعرف جواب هذا التساؤل ما أقول أعشقها بعقل وكان هذا واضحا من رده مجنونها أي أنه بات يعشقها لدرجة الجنون.
وتكرار كلمة مجنونها من محمد عبده مع الصيغة اللحنية التي وضعها محمد عبده هنا له دلالات طربية غاية في الروعة والجمال وكأنه أراد بطريقة ال)Ritando( هذه من تشديد التأكيد على عمق هذه المفردة مجنونها وتنقية امشاج مكوناتها لترسخ بعدها العاطفي وتفاصيل عظم هذه اللوحة الفريدة من الكلمة التي اقترحها كاتب النص الامير الشاعر بدر بن عبدالمحسن.
ثم يترك محمد عبده بعد آخر هذا ال)Ritando( يترك المقطع الموسيقي ينساب في دعة وكأنه يعمل على افاقته من لحظات الجنون التي خاضها قبيل لحظات واسترجعته الى واقعه وإلى رشده,, قبل أن يقول:
الباحة مريت في أحلى الفصول
صيف وشتاء,.
وناظرتها,.
وقلبي يقول هذه العيون إلى متى
حبيبتي ياكثرها عيونك على هاالليل
وين ما التفت اشوفها
حبيبتي يازينها عيونك على هاالليل
سحرني برق سيوفها,.
ما أقول أعشقها بعقل,.
مجنونها,.
وهنا يستحضر المحب ذكرى تحمل الكثير من الوله لهذه العيون,, في وصف راقٍ وجميل وفريد في نفس الوقت استلهم فيه الشاعر خياله الواسع وتناول مفردات تحمل الكثير من الشفافية والالق وهو يخاطب تلكم العيون ويقابل هذه الكلمات الراقية سلاسة غريبة ومدهشة في اللحن تؤكد بأن هذا المبدع محمد عبده يتناول السيناريو الكامل للمقطع الشعري ويوازيه بلغة موسيقية تناسب محتواه ومضمونه إلى درجة بعيدة والشاهد على ذلك أن من يستمع لأي مقطع من مقاطع الحان محمد عبده يحس وكأنه امام موسيقى تصويرية تتناسق تناسقا رائعا مع مقتضيات الكلمة التي يصنع منها عبر هذه الموسيقى لوحة درامية عبقرية.
ثم تتجول في دهاليز المفردة واللحن إلى ن نصل:
قمري,, يا شمس الذهب
سفري وراء عيونك تعب
قلبي تعب,,, وصبري تعب
ومن الهدب لين الهدب,,.
بحر ومراكب من لهب
أمواج تبحر برضاه
وأمواج تلعب بي غضب
وهذا المقطع يمثل قمة تراجيديا الصراع وعنفوان التمازج الباذخ بين الكلمة واللحن وخاصة عند الكلمة الاولى قمري حيث يعقبها جملة موسيقية يعجز القلم عن وصف جزئياتها وصدى انفعالها التراجيدي مع هذه المفردة, أما السكتة التي تسبق هذه اللزمة الموسيقية فتحمل بداخلها اكثر من معنى غامض يقف المستمع امامها وهو لا يملك إلا الدهشة والاعجاب لأنها أراحت الجملة الموسيقية بشكل مذهل فأصبحت كالاطار بالنسبة للصورة.
ومن الهدب لين الهدب
بحر ومراكب من لهب
وهنا تتويج غير معلن لما حوى القصيدة من جمال وطلاوة وقوة في نفس الوقت بالاعلان صراحة عن عنفوان وسطوة هذه الاعين لناظريها فشبه الشاعر بأن ما بين الهدبين عبارة عن بحر ومراكب من لهب يحرق كل من يحاول ان يخترق هذا الجدار وكل هذا الابداع يقابله ذات الرؤى المتناسقة للحن والجمل الموسيقية الرائعة.
وأخلص في الختام بأن مجنونها لم تكن مجرد أغنية عادية فهي من طراز خاص فيها تناغم فريد بين المفردة والنص اللحني بشكل مدهش كذلك استخدم فيها محمد عبده لتقنية لحنية مميزة وفرضت نفسها لتصبح في مصاف الاغنيات الخالدات.

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved