أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 6th February,2001 العدد:10358الطبعةالاولـي الثلاثاء 12 ,ذو القعدة 1421

مقـالات

عندما يبحث الوطن عن منفى,,!
شعر أسامة عبدالرحمن
د,حسن بن فهد الهويمل
1/3
هذا عمل شعري أنتجه شاعر جهوري الصوت حاد المزاج قوي الانفعال، لا يعرفه بهذه الروح المتعالية الرافضة المثالية الخائفة المخيفة إلا الأقلون، وهو من الغرباء الذين لا يألفون ولا يؤلفون، لأنه غارق في مثاليته، منعزل في رؤيته، شديد التأثر حين يسمع كلمة لا تعجبه، إذ ربما يقولها الإنسان العفوي فيه أو عنه تهوي بقائلها بعيدا عنه سبعين خريفا، وهذه الحساسية المفرطة حجبت شعره عن النقاد، وجعلتهم يمرون به أو يسمعونه، وكأنه لا يعنيهم، والديوان الذي اشتريته دون تردد لشاعرنا الكبير أسامة عبدالرحمن، ليس هو أول مقروئي له، وأرجو ألا يكون الأخير، وحين أقول عنه: إنه شاعر كبير، فإنني لا أقدم بين يدي نجواي تزلفا أو تقية، ولا أضع متاريس تقيني لفحات الامتعاض وسلقات اللسان، فقد لقيت من قبله ومن بعده ملاكمين تطيش أكفهم وسهامهم، وما زادني ذلك إلا قوة في الحق وثباتاً على الرأي، وأسامة قد فعل معي بعض ما يفعلون، ولكنه كنَّى ولم يبن مثلهم، وما زدت أن قلت: لك العتبى حتى ترضى, غير أني لم أتنازل عن رأيي قيد أنملة، وإن ظل في غضبته المضرية، وأذكر أنه نفى عني أبسط حقوقي النقدية، وعاب على الذين تعاملوا معي على هذا المفهوم، واتهمهم بتبادل المنافع، والانفعال قد يؤدي الى الأسوأ، لأنه نوع من الغضب، أو هو الغضب كله.
وأسامة على الرغم من حساسيته وحدة مزاجه، يملؤني إكباراً واحتراماً، لما يتمتع به من خلق رفيع، وهم أخلاقي ممض، وشعور جماعي متقد، وألم مرير يجترحه واقع أمته الذي لا يسر، ولكن الإكبار والاحترام لا يغيران من رأيي في شاعريته، حتى يغير ما في شعره من أشياء قد لا أراها وإن رآها غيري، ولعلي في هذا استعير مقولة البنيويين الذين يميتون الشاعر، حتى لا يكون لعلاقتهم به تأثير على أحكامهم ولا لهيبتهم منه حائلاً دون قول الحق، وحتى يخلو لهم وجه الشعر، وكأنه مجهول القائل، وأسامة عبدالرحمن المثالي العنيد الغاضب يحول بين الناس وما يشتهون من شعره الحماسي التنفيسي الصاخب بهذا الاحساس المتوتر، ويبتئس بما يقولون، وهو قد تجاوز القنطرة، وأثبت وجوده بوصفه شاعراً لا غبار على شاعريته، وما عليه من بأس بعد هذا، وإن نفاه خصومه من دولة الشعر، وكم من شاعر سلبه الخصوم حقه الأبلج، فظل مكانه وانتفى خصومه, ووثائق أسامة الشعرية قادرة على انتزاع موقعه المتقدم في رحاب الشعر، شاء الناقدون أم سخطوا، وعليه وعلى كل الوجلين من النقد أن يفهموا أن من أراد ارضاء الناس جميعا أسخطهم جميعا، وأن مالا تقبله ذائقة عمرو تهيم به ذوائق زيد وسعيد ومبارك.
والمؤسف ان بعض المبدعين والنقاد لا ترحب صدورهم للرأي الآخر، وكأنه قادر على تصفيتهم جسداً وسمعة، وفات أولئك المتخوفين أنهم بعطائهم تجاوزوا بشخصياتهم من العادية الى التاريخية ومن الذاتية الى الموضوعية، والشخصية السياسية والفكرية والأدبية لا يمكن ان تتموضع حتى تكون استثنائية، ومتى دخلت سدة التموضع خرجت من حساسيتها الذاتية واستقطابيتها الطفولية، وأصبحت ملكاً للتاريخ، تقف الذاتية منها في حيادية تامة، وقد أدرك المتنبي عظمة التموضع ومشروعيته حين قال:


أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم

وهو يعني عدم الاكتراث من اللغط حول ما يقول، وهو يمنح الآخرين حرية القول بعد أن داهمهم بشوارده، ودخل عوالمهم، وفرض نفسه عليهم موضوعاً شاغلاً، وما أسعد الذين يختلف الناس حولهم، وما أتعس الذين لا يحركون ساكناً, عندي عن المتنبي مئات الدراسات وعشرات الشروح، وليس عندي لبعض من هم في مستواه إلا ديوان فقط، والسبب اختلاف الآراء وتباين الذوائق, فهل تمتلئ نفس أسامة عبدالرحمن بهذا الشعور فينام ولو بإحدى مقلتيه لا بكل جفونه، بحيث يقرأ ما يقال عنه دونما تأثر أو انزعاج، وليس هناك من بأس حين يصيخ للقول ويتبع أحسنه, أحسب أن اختلاف وجهات النظر محسوبة له ولشعره، والقضايا والظواهر لا تتحرر إلا بالجدل والاختلاف، وطول الجدل مؤشر على اتساع فضاءات القضية لتضارب الآراء وتباينها, والشعراء الذين اتفق الناس على مستواهم الشعري ذبلوا واضمحلوا, فهذا شعر أبي العتاهية لا يختلف حول مستواه اثنان، فهو من الوضوح والموضوعية والنمطية بحيث لا يكون حمَّال أوجه، وما من أحد يحب أسامة عبدالرحمن إلا ويود أن يختلف الناس حوله، وحديثي التطميني ليس موجهاً لأسامة وحده، ولكنه حديث عام يمهد فيه الناقد طريقه، وقدر الناقد أنه يفقد كل يوم صديقاً، ولا يجد بداً من أن يتفق مع المبدع أو يختلف، وهو حين يختلف تسلقه ألسنة حداد، ويقال في حقه مالا يستحق، وهو كما قال الناقد عبدالواحد لؤلؤة: كالنافخ في الرماد, ومع ما أمارسه من تطمين له ولغيره لن يبلغ منه خصومه ما بلغ مني خصومي، وكم أتمنى أن يقرأ ما كتبه عني الحداثيون والمستغربون ومن أغروهم بي من شباب مبتدئين، وما أوجف به دعاة العامية، وأحسب أنني مع كل قولهم وسخريتهم وتنقصهم وسلبهم أدنى حق من حقوقي قد حققت من الخير ما يكاد يميتهم غيظاً، وما زلت أشفق عليهم وأحفظ لهم حقهم، وأتمنى لو كانوا محاورين موضوعيين لنضيف بالاختلاف المشروع الى مشهدنا ما هو بحاجة اليه، ولكنهم لم يفعلوا.
عرفت أسامة كاتباً مرتفع النبرة، وعرفته شاعراً صاخب الصوت، وشعره شعر جماهيري إنشادي إعلامي يسرق الأضواء على المنابر، ولكن الأضواء تنضوي عن بعضه حين يكون بين دفتي الديوان، أقول قولي هذا وأستغفر الله أن أكون متحاملاً، وأثق أن طائفة من النقاد يرون ما لا أرى، ويجدون في شعر أسامة المكتوب أضعاف ما يجدونه في شعره المنشد، وإذ لا أحس من أولئك بهضم، فإنني أتمنى أن يحمل أسامة ذات الشعور وأن يمضي لسبيله، إن لم يستطع النوم بملء جفنيه.
أذكر أن العقاد وهو يتحدث عما في مكتبته من كتب يصفها بأنها قمقم مليء بالعفاريت، وان الكتب تغفو على الرفوف ولا توقظها إلا الأكف، وهي حبيسة لا تلوي على شيء، وأعمال أسامة تحتل في مكتبتي مساحة طويلة، وهي كما وصف العقاد عفاريت لها صلصلة، وأملي أن أطلقها الواحد تلو الآخر ليسعد القارئ ويشقى مثلما سعدت وشقيت، فواجبنا بوصفنا قراءً للإبداع القولي أن نبلّغ عن شعرائنا ومبدعينا ولو بيتاً واحداً على متن القدح أو المدح، كل الذي نريده تحريك مساحتنا الخالية في المشاهد الأدبية، وأسامة شاء أم أبى شاعر يحرك فيّ شهوة الكلام والعناد والتحرش، وأنا متخصص في الأدب العربي الحديث عامة وفي الأدب العربي في المملكة على وجه الخصوص، ولهذا فإن شعر أسامة ماثل في طريقي أضرب به الأمثال، وأقول عنه ما أرى، وكم لقيت من بعض طلبة الليسانس امتعاضاً حين أمس شعره أو شعر غيره برفق، وفي المقابل أجد من يمتعض حين لا أمسه بعنف، لقد وجدت أن مثَلَه مثل حافظ إبراهيم له شعر جهوري منشد، وأذكر أن زكي مبارك قال فيه ما سأقول بعضه عن أسامة، وما نقص ذلك من شعر حافظ شيئاً، والقول بالإنشادية والقرائية له ما بعده، فالشعر الإنشادي يختلف كثيراً عن الشعر التأملي، وفي كل خير، ولكل نوع طلابه، وإذا أخفق الشعر التفعيلي على المنابر، فقد نجح بعض النجاح أو أكثره على الورق، وكثير من الشعر يفقد ألقه وسلطانه حين يخرج من حلبات الإنشاد الى صفحات الكتب، وكثير من الشعراء يحسون بهذا، ويتألمون من فداحة الخسارة، والنقاد الأوائل ألمحوا الى بعض ذلك، ووصفوا بعض الشعر بنقط العروس وبعر الضباء ، والنقاد المعاصرون نظروا الى شعر حافظ وعدوه شعراً منبرياً، يبهر السامع، ويخيب أمل القارئ، وقولي هذا لا يعني شعر أسامة بالذات، ولكنه يعني شعراء كثيرين ينشدون الشعر فيهزونك ويطربونك، حتى إذا وضع الإنشاد أوزاره قرأت شعراً آخر لا تربطه بالمنشد رابطة، حتى في الشعر العامي توجد تلك الظاهرة بكل وضوح، ولك أن تستمع إلى (خلف بن هذال) أو الى (عبدالرحمن رفيع)، ثم عليك أن تقرأ ما أنشدوا, وهذا المتنبي الذي شغل الناس وأحدث شعره مدارس نقدية بحالها، لم يتفق النقاد على شاعريته، وما عيب على المناوئين له، وما ضره قول خصومه المجحفين, وخصومه الذين امتلؤوا حقداً وحسداً، وفرقوا بينه وبين مثله الأعلى سيف الدولة، قدموا للمشهد الأدبي معروفاً بحمله على إبداع قصائد نافح فيها عن نفسه وعن شعره، فكانت تلك القصائد الأكثر سيرورة في شعره، وأين أنت من (وا حرَّ قلباه) تلك الميمية المكتظة بالفعل والانفعال.
وأنا حين أقرأ شعر أسامة بالطريقة التي أراها، وأقول فيه رأيي فإنني لا أقطع بصواب ما أقول، ولكنني صادق مع نفسي، ولا أجد فيما أوتيت من ذوق ودربة على قدِّ الحال ما يحملني على قول ما يرضيه، ولن أقول له: إن رضيت وإلا فاشرب من ماء البحر، ولكنني أقول له: (هذا فزدي)، فلا أعرف غير الصراحة وبخاصة حين آمن العقاب ، وما عليَّ إذا لم يقبل الآخرون, ومع أنني قد اختلف معه في بعض وجوه القول، إلا أنني لا أتردد في وصفه بالشاعر الكبير، وليس في ذلك تناقض، فالشاعرية شيء واجتماع النقاد على التألق شيء آخر، والمنصفون المعتدلون قالوا: إذا غلب جيِّدُ الشعر رديئَه فاق الشاعر أقرانه، وإذا غلب رديئُه جيده تخلف عنهم، وما من شاعر اجتمعت عليه كلمة النقاد، وإذا امتدت يدك إلى لون من الطعوم وانصرفت عن ألوان أخرى، فإن أياديَ كثيرة ستمتد إلى ما انصرفت نفسك عنه, فحين أحب الشعر الهامس الغامض المكثف الانزياحي التأملي العميق المتماسك في وحدة عضوية مما ليس شيء منه في شعر أسامة، أجد الآخرين يودون من شعره ما يحفل به من صلصة ووحدة بيتية ومباشرة وتكرار يكاد ينفرد فيه.
لقد وقعت عيني على هذا الديوان (عندما يبحث الوطن عن منفى)، وكنت من قبل قد أغريت بعض الدارسين بالتفرغ لدراسة ظاهرة التكرار عند أسامة، وحرصت على ان يستكمل الدارس هذه الظاهرة، فالشاعر مثير في لغته, وجميل جداً أن يغري الشاعر قراءه فينتقلون من قراءة المتعة الى قراءة التأمل والاستنتاج، ولقد علمت أن هذا الدارس يختلف معي كثيراً، ويلومني على رأيي في شعره, وأنا سعيد بهذه المخالفة، لأن شاعراً كأسامة عبدالرحمن بحاجة الى نقاد تتوازعهم الذوائق والمذاهب والرغبات، ليكتنفوا شعره من كل وجوهه، وهذا ما نوده لكل مبدعينا ولا يعنيني في شيء أن يتفق الناس معي أو يختلفوا، كل الذي يهمني أن تتعدد الآراء والآليات والمذاهب والرغبات لإثراء الحركة النقدية، وأن تجذب الأقلام الناقدة أسامة الى دائرة الضوء فلا يجوز أن يكون مثله في الظل.
لقد ظفرت بهذا الديوان، وكنت قد فرغت من مناقشة رسالة ماجستير عن أديب من بلدياته هو الشاعر عبدالسلام هاشم حافظ رحمه الله وكانت تلك الرسالة هي الثانية عنه، وقد لا تكون الأخيرة، وعجبت من أمر هذا الرجل، كيف يتهافت عليه الدارسون ويدعون من هم أفضل منه؟ وما أحسبه رحمه الله بكل ما أتاه الله من جسارة في التأليف والإبداع يبلغ مدَّ أسامة عبدالرحمن ولا نصيفه، وما حظي أسامة بالأقل القليل مما حظي به عبدالسلام وأضرابه، ولا أستبعد أن يكون عائق المجاملة والخوف من سلقات الألسن هو الذي حجب أسامة وبذل عبدالسلام، كان عبدالسلام وديعاً ودوداً يقعد به مرض القلب ووهن العظم والتواضع الجم, وهذه كل جوانبه, وكان أسامة حاد الطبع حاد النظرات يخلط بين ذاته وشعره وبين اقتداره وإبداعه، ويرى أن المساس بشعره مساس بذاته وقدح بإمكانياته، وكنت بهذه المغامرة عنترياً متصعلكاً، منكبّاً عن ذكر العواقب جانباً، وإلا من يجرؤ على الدخول في مأسدة أسامة.
لقد سمعت شعر أسامة، وقرأته، وسمعت شعر عبدالسلام، وقرأته، وأيقنت أن الحظوظ بيد الله، وقد عجب مَن قبلي ومَن معي ومَن بعدي من قراء ونقاد ودارسين مِن سيرورة بعض الشعر دون سبب للسيرورة وانكماش بعض الشعر مع انطوائه على مقومات السيرورة، كان المتنبي من أكثر الشعراء سيرورة، وهو جدير بها، وكان جرير من قبله يوصف شعره بالسيرورة، وكان الفرزدق دون جرير والمتنبي سيرورة، وهو الجدير بها، وكان يضيق ذرعا من سيرورة شعر جرير، حتى أن النقاد وجدوا فيه أغزل بيت وأهجى بيت وأفخر بيت، أو أنهم اصطنعوا ذلك ليروجوا لأنفسهم ولكتبهم، وكم من كاتب خامل الذكر تسلق المحراب على أكتاف المشاهير, وتلك أرزاق يهبها الله لمن شاء من خلقه، ولك أن تقول مثل ذلك عن الفن السردي محلياً وعربياً وعالمياً، فهذا الطيب صالح في رواية موسم الهجرة إلى الشمال بلغت من الشهرة حداً لا يتصور، وظلت أعمال أخرى أفضل منها خارج دوائر الضوء، وهذا القاص محمد الشقحاء اعتورته أقلام النقاد والمؤلفين، مع أن هناك من هو أقدر منه ممن لم يحض بمقالة واحدة، وليس فيما قيل عنه تجنياً ولا جناية, وأسامة الذي أخرج إلى الناس عشرين ديواناً أو تزيد ما زال الغائب الحاضر، وغيره أخرج قصائد معدودة، فكان ملء السمع والبصر، والتقصير في حق أسامة تقصير في حق الشعر عامة وفي حق الشعراء الذين أفاضوا على المشهد الثقافي بعيون الشعر، وأثروا الساحة بألوان من الإبداع، ولا أحسب الناس حين غفلوا عن القول فيه إلا لصلف هذا الشعر وحدة نبرته وعنف تناوله وإلحاحه على تكريس المراد، وهم يخشون أن يواجَهوا بمثل هذا القول العنيف, وأسامة ليس شاعراً وحسب، بحيث لا يأبهون لغضبَته، إنه رجل أكاديمي له حضوره الإيجابي في سوح كثيرة ومجالات متعددة، والشعر جزء من قدراته وقدره، وهو لا يحتاج إلى مأجورين يدافعون عنه، إنه الأقدر على تصفية خصومه بقلمه الديناميتي، والأقلام الديناميتية تنجو بأصحابها وبشعرهم، ولا شك أن الطريق إليه مليء بالألغام، ولكنني سأبطل مفعولها أو أفجرها قبل أن أصل إليها.

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved