قال أبو عبدالرحمن: هي القصيدة التي حوّلها بشار بن برد من هجائه للخليفة أبي جعفر المنصور الى توعد لأبي مسلم الخراساني، وفيها الأبيات الجميلة الحكيمة في المشورة.. وقد نسبها أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ )150 255ه( إلى بشارة مرة )1(،
وقال في موضع آخر : «وقال بشار أبياتا تجوز في المذاكرة)2(: في باب المنا، وفي باب الحزم، وفي باب المشورة.. وناس يجعلونها للجعجاع الأزدي، وناس يجعلونها لغيره»)3(.. ثم ساق الأبيات.
قال أبو عبدالرحمن: لم أجد ذكرا للجعجاع، ولم أنعم النظر في البحث.. ولوكانت الأبيات له لاشتهر الجعجاع من أجلها أيما شهرة.. والتشكيك من اختلاق الجاحظ حسداً منه لبشار، وتعصباً عليه بعد أن انقلب بشار على واصل بن عطاإ وتألب عليه أنصار واصل.. والجاحظ معتزلي معجب بواصل.
والأبيات مشتهرة النسبة الى بشار في كتب المختارات، مثبتة في كتب الأدب القديمة،
مسلسلة بالإسناد عند قدماإ الأدباإ.. قال أبو الفرج الأصفهاني ) 356 ه(: حدثنا محمد بن علي بن يحيا )4( قال: حدثنا محمد بن زكريا قال: حدثنا محمد بن عبدالرحمن التيمي قال: دخل بشار إلا)5( إبراهيم بن عبدالله بن حسن؛ فأنشده قصيدة يهجو فيها المنصور ويشير عليه برأي يستعمله في أمره.. فلما قُتل إبراهيم خاف بشار؛ فقلب الكنية، وأظهر أنه قالها في أبي مسلم، وحذف منها أبياتا»)6(.
قال أبو عبدالرحمن: لا ريب ان في إسناد أبي الفرج خللاً في الأصل ، أو تطبيعاً من الناشرين بتصحيف وتحريف وإضافة.. وشريك أبي الفرج في شيخه أبو أحمد الحسن بن عبدالله العسكري )382ه(.. قال: «أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيا قال: حدثنا الغلابي قال: حدثنا محمد بن عبدالرحمن التميمي»)7(.. ورواه عن أبي أحمد العسكري تلميذه أبو هلال العسكري بالإسناد نفسه )8(.
ومحمد بن يحيا شيخ أبي الفرج سيأتي في أسانيد أبي الفرج إن شاأ الله راوياً عن أبي الرياشي. وهكذا ورد في إسناد الخطيب البغدادي )463 ه(،
ووصفه بالنديم)9(، فهذه صفة أبي بكر محمد بن يحيا الصولي )336ه( تلميذ الغلابي، وهو الذي نادم عددا من الخلفاإ فلقب بالنديم، وهو شيخ أبي الفرج.. روا عنه في الأغاني في أكثر من ثلاثمأة موضع.. إذن «محمد بن علي بن يحيا» خلل في هذا الموضع.
وأما شيخ الصولي فهو محمد بن زكريا الغِلابي البصري متهم بوضع الحديث )10(.
قال أبو عبدالرحمن: لم أعرف بعد مَن محمد بن عبدالرحمن، وهل هو تميمي أو تيمي؟.. والسند هالك بمحمد بن زكريا، وليس هو إلى كتاب مشهور بمأَلِّفه، فنستغني بشهرة الكتاب عن إسناد ابن زكريا.. وإنما نستأنس بهذا الخبر،
ونجعل الاختلاف فيه مرجوحاً من أجل رواية أُخرا أوثق.. قال أبو الفرج: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا الرياشي قال: حدثنا الأصمعي قال: كان بشار كتب الى إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بقصيدة يمدحه بها، ويحرضه، ويشير عليه..
فلم تصل إليه حتى قتل، وخاف بشار ان تشتهر، فقلبها، وجعل التحريض فيها على أبي مسلم والمشورة لأبي جعفر المنصور»)11(.
قال أبو عبد الرحمن: هاشم الخزاعي )312ه( ذكره الخطيب البغدادي ولم يذكر به جرحاً )12(، والرياشي أبو الفضل العباس بن الفرج )257ه( رحمه الله إمام في العربية ديِّن ثقة.
وروا أبو الفرج: عن شيخه محمد بن يحيا قوله: «وحدثني ابن الرياشي قال : حدثني أبي قال: قال الأصمعي : قلت لبشار : يا أبا معاذ: إن الناس يعجبون من أبياتك في المشورة فقال لي: يا أبا سعيد: إن المشاوربين صواب يفوز بثمرته، أو خطإٍ يشارك في مكروهه.. فقلت له: أنت والله في قولك هذا أشعر منك في شعرك»)13(.
قال أبو عبدالرحمن: هذا إسناد آخر للصولي يثبت أن الميمية لبشار، وقد ورد هذا الخبر براوية أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد )321ه( : عن شيخه الرياشي: عن الأصمعي )14(.
وقال أبو بكر الصولي )336ه( «حدثني الجمحي قال: سمعت المازني يقول: سمعت أبا عبيدة يقول: ميمية بشار هذه أحب الى من ميميتي جرير والفرزدق» )15( ؛ فهذا إسناد آخر يثبت نسبة القصيدة إلى بشار إضافة الى من أورد القصيدة أو أبياتا منها منسوبة الى بشار)16(.
وبشار بالبصرة؛ وقد بدأت ثورة إبراهيم بن عبدالله بها؛ فيحتمل أنه دخل عليه بالقصيدة، ولكن الأرجح أنه أرسلها إليه؛ لأن الإسناد بذلك أصح..
وذلك أقرب للمعقول؛ لأنه أقرب للسرية، ولو دخل وألقاها لاشتهرت، وقد حسم الأمر شهاب الدين النويري بقوله: «فمات إبراهيم قبل وصول القصيدة إليه» )17(.
وإبراهيم رحمه الله قتل عام 145ه، وأبو مسلم قتل عام 137ه، ولهذا فتحويل بشار القصيدة من هجاإ أبي جعفر إلى توعد أبي مسلم غير مقنع لضعفه،
وستكون القصيدة مما صبر عليه الولاة الى ان تتجدد بواعث أُخرا للفتك به.. ووجه الضعف من أمرين:
أولهما: أن أبا مسلم قتل قبل إبراهيم بثماني سنوات؛ فسيستبعد الخليفة أن تكون هذه القصيدة العظيمة قيلت في تلك المناسبة ثم لا تظهر إلا بعد ثماني سنوات.
وثانيهما: أن القصيدة بعد الحذف منها لا يُناسب سياقها أن تكون في أبي جعفر كما سيأتي إن شاأ الله في مناسبة عن تحليل القصيدة.
قال أبو عبدالرحمن: ولا غرابة في حسد الجاحظ لبشار على هذه القصيدة، فقد حسده إسحاق الموصلي على قصيدته البائية بوصل الهاإ، وكذب على أبي عبيدة بنسبتها الى المتلمس.. قال الخطيب البغدادي )463ه(: «أخبرنا الحسن بن علي الجوهري: حدثنا محمد بن العباس الخزاز: حدثنا محمد بن القاسم الأنباري: حدثني محمد بن المرزبان قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر: حدثنا أبو الحسن علي بن يحيا بن أبي منصور قال: كان إسحاق بن إبراهيم الموصلي إذا ذكر بشار بن برد يستصغره ويحتقره ويعيب شعره، فقلت له: أتعيب شعره وهو الذي يقول:
إذا كان خرّاجا أخوك من الهوا
موجهةً في كل أوب ركائبه
فخلّ له وجه الفراق ولا تكن
مطية رحّال بعيد مذاهبه
إذا كنت في كل الأمور معاتباً
خليلك لم تلقَ الذي لا تعاتبه
فعش واحدا أوصِلْ أخاك فإنه
مقارفُ ذنب مرة ومجانيه؟
فقال لي : حدثني أبو عبيدة قال: أنشدني شبيل الضبعي هذه الأبيات للمتلمس.. وكان به عالماً صادقاً، لأنه من قومه وأحد رهطه..
فقلت له: أفليس أبو عبيدة قال: ذكرت ما حدثني به شبيل الضبعي لبشار، فقال: كذب والله شبيل.. والله لقد مدحت بهذه القصيدة ابن هبيرة فأعطاني أربعين ألفاً؟..
وكيف تكون هذه للمتلمس وما رواها أحد في شعره، ولا وجدت قط في ديوانه.. وبشار يقول فيها:
رويداً تصاهلُ بالعراق جيادنا
كأنك بالضّحّاك قد قام نادبه
ويقول فيها:
فلما تولاّ الحر واعتصر الثرا
لظا الصيف من وهج توقد آيبه
وطارت عصافير الشقاشِق واكتسا
من الآل أمثال المجرة لاهبه
غدت عانة تشكو بأبصارها الصدا
إلى الجأب إلا أنها لا تخاطبه؟
فقال: هوشعر إذا تأملته مختلف مضطرب لا يشبه بعضه بعضاً.. قلت:
فلم لم تقل فيه هذا وهو للمتلمس، وكيف يكون هذا للمتلمس وما عرف بشار بسرقة شعرٍ قط جاهلي ولا إسلامي؟.. فسكت»)18(.
***
الحواشي:
)1( انظر البيان والتبين 4/49 تحقيق عبدالسلام محمد هارون، ونشر مكتبة الخانجي بالقاهرة.
)2( المذاكرة شرحها سياق القاضي أبي علي المحسّن بن علي التنوخي )384ه( بكتابه نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة 1/1، إذ قال عن مادة كتابه: «.. أن يحفظ إذا سمع، ليُذاكر به إذا جرا ما يشبهه ويقتضيه.. إلخ».
قال أبو عبدالرحمن: المفعالة تقتضي متابعة بأن يذاكر نفسه، أو يذاكر غيره، والنشوار فارسية معربة عن نُشخَوار بمعنى جرة البعير، وبقية علف الدابة كما في كتاب الألفاظ الفارسية المعربة لأدي شير ص 153.. والمعنى الأول هو المراد في تجُّوزِ التنوخي.
)3( الحيوان 3/67 68/ تحقيق عبدالسلام محمد هارون، ونشر دار إحياإ التراث العربي ببيروت.
)4( في الرسم المعتاد يكتبون يحيا الاسم بالياإ، والفعل بالألف.. ومنهجي الكتابة بالألف في الحالين حسب النطق، ويعرف الاسم بالسياق، فإن لم يدل السياق وضع الاسم بين قوسي التنصيص.
)5( تتميز الاستثنائية بتشديد اللام.
)6( الأغاني 3/149 تحقيق سمير جابر، ونشر دار الكتب العلمية بيروت.
)7( المصون في الأدب ص 162 تحقيق عبد السلام محمد هارون، وطبع م حكومة الكويت عام 1984م/ طبعة ثانية مصورة.
)8( ديوان المعاني 1/136 نشر عالم الكتب.
)9( تاريخ بغداد 7/114 ط دار الفكر، وانظر عنه معجم الأدباإ 4/1483 1485 تحقيق الدكتور إحسان عباس.
)10( انظر عنه لسان الميزان 5/190 191 طبع دار الفكر سنة 1407ه.
)11( الأغاني 3/210 211.
)12( تاريخ بغداد 14/68.
)13( الأغاني 3/151.
)14( انظر المصون ص 164 165، وهو أيضا في إسناد أبي الفرج الذي مر بروايته عن الخزاعي: عن الرياشي: عن الأصمعي.. انظر الأغاني 3/211 212.
)15( المصون ص 164، وفي الأغاني 3/151 قال أبو الفرج: «وقال محمد بن يحيا )هو الصولي(: فحدثني الفضل بن الحباب قال: سمعت أبا عثمان المازني يقول: سمعت أبا عبيدة .. إلخ».
)16( من هاأُلاإ غير من سبق : البلاذري في جمل من أنساب الأشراف 3/1276، وأبو هلال العسكري في الصناعتين ص 417، والحصري في زهر الآداب 2/824، وابن عبدالبر في بهجة المجالس 1/451، والراغب في محاضرات الأدباإ 1/28، والخالديان في المختار من شعر بشار ص 255، وشرح المختار للتجيبي ص 255،
وابن حمدون في التذكرة الحمدونية 3/300، والشريشي في شرح مقامات الحريري 4/229، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 18/383، والحماسة البصرية 2/58، والمنتخب والمختار لابن منظور ص 132، ونكت الهميان للصفدي ص 107،
والنويري في نهاية الأرب 6/71، وسرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون لابن نباته ص 306، والشهب اللامعة في السياسة النافعة لابن رضوان ص 154، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي 2/53، وأنوار الربيع لابن معصوم 2/95، و3/6 7.
وورد منها أبيات غير منسوبة لقائل في عيون الأخبار لابن قتيبة 1/87 88، ومجالس ثعلب 2/466 467.
)17( نهاية الأرب 6/71.
)18( تاريخ بغداد 7/114 115.