أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 3rd April,2001 العدد:10414الطبعةالاولـي الثلاثاء 9 ,محرم 1422

الثقافية

قصة
الأرض المسكونة
عندما أتحدث عن قريتي اجد الكلمات ليست سوى طريقة اخرى للتنفس.. احس رائحة المطر تنغرس في انفي عبر تجاعيد الصحراء.. تجعل انفاسنا جميعا اعمق وتحملنا بلا شعور الى القرية .. رائحة الطين المنبعثة من جدرانها.. اصبحت جزءاً منا.
ظلت السيارة تصارع المصائد.. في طريقها .. تهرب من صخرة مرة، ومن بركة طينية مرة اخرى.. والسحب ما تزال ترش الارض.. رشة الوداع وهي تنفض آخر ما تبقى في جعبتها قبل ان ترحل بعيداً.
الاطفال داخل السيارة يبحثون عن الدفء من خلال ما يصطنعون من ازدحام بينهم.. يعبثون.. بمحتويات السيارة كسراًَ للملل .. رغم التحذيرات المستمرة بعدم لمس اي شيء.. واصوات المتثائبين والافواه التي تتفتح فجأة تملأ الفراغ الهارب في زواياه السيارة.. ولولا الاشارات التي يتبادلها الاطفال عبر النوافذ اثناء الرحلة لما تسنى السيطرة عليهم.. تمر الساعات.. والسيارة تتهادى عبر الصحراء.. ساعات ثقيلة.. والقرية التي تقبع خلف الافق وراء كتل الطين الاحمر ما تزال بعيدة.
السحب تعبر السماء لتصل الى القرية قبل الجميع.. نحملها بشرى وصولنا الى اهل القرية.. لا شيء يدفع السيارات العتيقة بضعفها وتهالكها سوى الامل .. ذلك الامل.. بأن تكون القرية خلف تلك التلة البعيدة.. وتستمر رحلة القافلة.. لا فرق بين قافلتنا وقافلة الجمال سوى اننا نجلس داخل صندوق مغلق.. تختلط فيه انفاسنا فنحس بالدفء الذي تبعثه صدورنا وهي تكاد تضيق بطول الوقت.. ونتمنى لو نطير الى القرية.. لنتخطى هذه الساعات.. وهذا المكان الجامد.. ولتخصم هذه الساعات من اعمارنا، المهم ان نصل..
في هذه اللحظات بدأت الشمس تمزق ستائر السحب بدفئها وتغرس اشعتها في الوحل البارد.. وفجأة توقفت السيارة.. انها تعلق من جديد بمصيدة اخرى.. تحاول الخلاص.. دون جدوى .. التقت العيون في اجتماع صامت.. لا يوجد حل آخر .. يقفز الجميع الى الخارج، لا شيء في الخارج يمكن ان يعلو على صوت هدير المحركات وهي تكسر السكون من حولها.
يجتمع الذكور خلف السيارة..
هذا التوقف .. ظل دائماً مصدراً لاشاعة الفرح في عيون الاطفال.. وهم يحاولون دفع السيارة الى الامام .. لتخرج من هذا المأزق .. الرحلة الى القرية هي معركة مستمرة يتوتر فيها الكبار.. ويستمتع بها الصغار.. يبدو ان هذه المرة ستكون من اعنف ما واجهنا من تجارب طوال هذه الرحلة..
توقفت بقية السيارات.. وبدأ الجميع يدفع السيارة.. دون جدوى والاطفال يتشبثون بمؤخرة السيارة وضحكاتهم ترتفع كل مرة لا تنجح فيها المحاولة، والكبار يرددون الكلمات المشجعة للصغار.. هيلا.. شيلا.. يا الله.. دون جدوى ويضحك الصغار.. فتطغى اسنانهم اللبنية الصغيرة.. البيضاء .. على كل ما في المكان من جمود.. لم يتبق داخل السيارة سوى النساء والحقائب.
هذه المصائد الطبيعية.. وقفت سنوات طوالاً في وجه ما يحمله العالم البعيد.. للقرية من مفاجآت.
الكبار والصغار تعاونوا لاخراج السيارة.. من هذا الوحل.. وتعود ضحكات الصغار لتضفي جواً من المرح كلما انزلق احدهم في الوحل.. فتتلون الثياب بلون الطين.. وتغوص الايدي في اعماقه .. اما الاقدام فهي باستمرار تنغرس في الطين والوحل.. ودوران الاطار في الحفرة يقذف ما بداخلها الى الوجوه والملابس فتتحول الاجواء الى مناظر مضحكة.. المهم ألا تنزلق.. ما عدا ذلك يمكن تداركه، فالانزلاق له معان اخرى لدى الاطفال .. هو مصدر ضحكهم الدائم.. والمنزلق يبقى جالساً .. يحمل الطين بين يديه بيأس.. ويعبث به دون خوف.. فقد كسر حاجز النظافة.. وفقد المبرر الذي يمنع بقية الاطفال من العبث بالطين.. والجميع سيعذره لقد كان يساعد في دفع السيارة..
انفجر الجميع بضحكة مدوية.. اقدام الشباب سعد تنزلق لتصل الى ابعد نقطتين عن بعضهما .. صورة لا تنسى.
ضحكات الاطفال هزت الخلاء من حولهم.. فامتزجت بهدير المحركات.. حاول النهوض بلا فائدة .. الاصابة بالغة.. وملابسه الانيقة فاقت الوصف.. فالطين قلب كل الموازين.. والمشهد .. مؤلم مضحك.. والخجل الذي انتاب سعد اقوى من اي ألم او تعبير.عيون الفتيات الفضولية الضاحكة.. اطلت كعيون القطط في الظلام عبر نوافذ السيارات لروية هذا المنظر. كل ذلك اثقل كاهله.. فجعل النهوض امراً صعباً..
قفزت السيارة.. بعد ان امضت دقائق استراحت فيها من عناء الطريق.. رغم اصرار الاطفال.. على دفعها لمواصلة الرحلة.. وعلى صرخاتهم السعيدة بالانجاز.. راحت السيارة تتهادى مع القافلة لتتم رحلتها نحو الامل القابع وراء الماء والطين.. ورغم غياب القرية عن الانظار.. الا انها مستقرة في اعماق الجميع.. ملتصقة بأحاسيسهم..
لم يمض وقت طويل.. حتى توقفت السيارات.. انه وقت صلاة الظهر.. افرغت السيارات ما في بطونها من بشر.. وبدأ الجميع في انزال ادوات الطبخ.. وما يلزم لاعداد وجبة برية..
تتوارى النساء بعيداً عن العيون.. ويبدأ العمل في اعداد الغداء تحت الشمس التي وهبت الفضاء دفئاً هادئاً .. والسماء تزداد صفاء.. محتفلة برحيل السحب.. تظهر لهذا العالم فتنة زرقتها..
راح الاطفال ينتشرون في العراء بحثاً عما يشبع فضولهم.. بينما استغرق الكبار في الصلاة.
اخذت النسمات الربيعية تنقل اصوات النساء في كل اتجاه .. فيعلق في الآذان المتطفلة بعض من الاحاديث السابحة في الهواء.. فتزداد خفقات القلوب سرعة.
اوشك الجميع على اتمام الاستعداد لتناول الغداء.. لمواصلة الرحلة.. سعد هاهو من جديد يقبل من بين الصخور.. بثوبه الذي ابدع الطين تلوينه.. تتقطع انفاسه وهو يقفز الاحجار الحادة بلا حذاء.. لقد ترك حذاءه خلفه.. يصيح بصوت مرتفع (الارض مسكونة.. الارض مسكونة) .. لقد ذهب قبل قليل يراقب الفتيات بعيداً عن عيون الآباء.
لم يطل استمتاعه .. الرعب يدب في قلوب النساء ومنها الى قلوب الاطفال.. الرجال يموجون بين مصدق مستعيذ .. ولا مبال.
لم افهم كثيراً مما يدور.. خطة السفر لابد ان تتغير على ما يبدو.. اخرج احد الشباب مصحفاً صغيراً من جيبه.. اخذ يقرأ بعض الآيات..
لعب اصرار النساء على الرحيل مدعوماً ببكاء الاطفال دوراً هاماً في صدور قرار بالتحرك عن (الارض المسكونة) .. فلم يعد ممكناً تجاهل ما دب في ضلوع سعد من رعب..
تحميل الاغراض وترتيبها لم يستغرق وقتاً طويلاً .. اقلعنا من جديد بحثاً عن ارض اخرى ليست مسكونة.
التعليق مستمر والقصص التي تقصها النساء داخل السيارة عن احداث مشابهة.. زاد من رعب الاطفال.. الاستعاذات في كل فم.. والسيارات تلهث عبر الصحراء.. مرعوبة هي الاخرى.
يوم تعيس لابد ان يذكره سعد الى الابد فهو البطل الحقيقي لهذا اليوم فبعد الانزلاقة المؤلمة .. جاءت الانزلاقة المرعبة.
السيارات تنزل من جديد ارضاً اخرى.. الجوع يفترس الجميع.. لم يسكت الاطفال الا ما في الحقائب من كعك.. اتخم بطونهم.. اخذ الجميع يستعد للغداء.. اصبح لهذا الغداء قصة تروى.. وحدث يسجله تاريخ القرية..
استدار الجميع حول الاطباق الكبيرة.. اكل الجميع.. ونظفت الاطباق.. اعيدت الى مكانها في السيارات..
انطلقت القافلة.. تقطع الصحراء وهي تقترب اكثر من القرية.. النساء في شوق وترقب.. الجميع كان كذلك.. فهناك .. حيث ستستمع القرية الى قصة (الارض المسكونة).. وسيجيب الاطفال عن اسئلة اطفال القرية التي ستنطقها عيونهم اما المغامرة الكبرى فسيتحدث عنها سعد.
لم يطل بنا الوقت.. حتى اشرقت بيوت القرية كشمس الصباح النحاسية اللامعة.. وبدأنا نغوص بعيداً بين جدرانها..
مطاردة الاطفال في مدخل القرية للسيارات القادمة.. ومحاولة التشبث بها.. ذلك امر مألوف يمارس على كل سيارة تدخل القرية.. فهي مراسم استقبال شعبية..
هذا هو النخل كعادته يرقص في الهواء.. كما ترقص الفتيات بتمويج الشعر في الهواء.. على ايقاع الدفوف في الاعراس.. تفرقت سيارات القافلة .. ابتلعتها ازقة القرية الضيقة.. استمر الحديث عن (الارض المسكونة) .. وسعد ما يزال يردد في كل لقاء قصته .. هذه القصة التي لم يمل احد من سماعها.. وكأن اهل القرية يسمعون قصة جديدة كل مرة.. يعيدها في مجالس القرية.. يقسم انها رمته بالحجارة..
رؤية سعد اصبحت هدفاً يسعى اليه اهل القرى المجاورة.. تحول الى اسطورة وبطل القصة الاكثر شعبية.. وان كان بعض المثقفين من اهل القرى يرى ان سعداً ليس الا شخصية يسمونها بزهو (خرافية)..
(الكثير من الاحداث يجب ان تكون عبرة لنا).. هكذا تحدث شيخ القرية العم (ابو حمد)..
لم يخطر ببال سعد ان يتهمه الشيخ بالاساءة الى من قاموا برميه بالحجارة.. ولم يدافع عن نفسه.. ماذا سيقول؟
انه يراقب الفتيات.. تلك فضيحة.. بحث عن كذبة تقذف بهذه التهمة بعيداً..
الشيخ (ابو حمد) لم يلتفت الى سعد.. ولا ينتظر منه رداً.. فالقصة انتهت وتبقى العبرة في رأي الشيخ..
اصبحت هذه القصة بلا حدود.. فالظلام الذي يطبق على انفاس القرية بعد غروب الشمس اصبح رعباً لا يطاق.. يذهب الجميع للنوم .. اتأمل باب الغرفة.. الظلام دامس.. انتظر سماع صريره بين لحظة واخرى.. النوم يبتعد رغم التعب شيئاً فشيئاً.. وزائر غير مرغوب به .. يقضي الليلة معنا في الغرفة..
ادير رأسي الى قلب الحجرة.. ارى اشباحاً سوداء تجوب الغرفة المظلمة تقترب وتبتعد .. رأس كبير.. وجسم صغير.. وهناك حيث يستند الشبح الطويل الاسود على الحائط بجبروت مرعب.. وآخر يجلس القرفصاء في الركن البعيد تحت سقف الجريد.. لا .. لا.. الاخير.. انها الاغطية مكومة.. انا كومتها قرب الحقائب الفارغة.. لا احد هناك.. الرأس الكبير في الزاوية القريبة يتحرك.. احس انني اعمى في بحر واسع عميق.. نعم يتحرك.. يقترب أكثر.. ادخل رأسي تحت الغطاء.. محاولاً الهروب من ذلك الرعب.. اشعر بهم يقتربون اكثر.. يدورون فوق رأسي.. سيهجمون .. الآن .. سيلامسونني.. ارفع الغطاء بسرعة.. قبل ان تهجم الاشباح.. التقط انفاسي.. التفت الى الزاوية القريبة، ما يزال الشبح الاسود الصغير يتحرك.. اقترب بيدي منه.. اتلمس الارض.. ازحف على ركبتي.. الخوف يخيم على كل ارجاء المكان.. اقترب اكثر.. اتلمسه بخوف.. اسمع صوت اخي الصغير يهذي.. انها ركبته تبدو كالرأس الصغير تحت الغطاء.
يستمر الرعب.. وسط الظلام المطبق على اركان الغرفة..
اعود الى فراشي زاحفاً..
تعبر الاحداث امامي.. اتذكر.. انا .. نعم انا.. الذي رميت سعداً بالحجارة من خلف الصخرة..
اغمض عينيّ.. متنهداً.. وما يزال اخي يهذي ويحرك ركبته.. حالماً..
عبد الله الفهيد


أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved