أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 13th April,2001 العدد:10424الطبعةالاولـي الجمعة 19 ,محرم 1422

شرفات

شخصيات قلقة
هونوريه دومييه " 1808 - 1879م "
مأساة التجاهل في الأيام الأخيرة...!
* كان الأب يبيع ألواح الزجاج في المحل الصغير طول النهار، وفي المساء يقرض الشعر الكلاسيكي الرصين ولديه إحساس خادع في موهبته الشعرية لذلك قرر أن يغلق المحل ويرحل إلى باريس مدينة كل الشعراء.
ورحل دومييه الصبي الصغير مع أبيه الشاعر المخدوع في موهبته ! وفي باريس تراكمت الديون وعرف الابن الصغير شظف العيش ورائحة الأحياء الكئيبة كل هذا من جراء قصائد أبيه الباهتة التي لم تجلب سوى الفقر والتعاسة والمنازعات مع الناشرين في المحاكم.. أمام هذا الفشل اقترح الأب على ابنه الصبي - وكان الأجدر أن يقترح على نفسه اقترح عليه أن يبدأ حياته العملية مبكراً وألحقه بمكتب المحامي ديمونتين هذا الرجل سليط اللسان، كثير الشجار، كان لايمل من كتابة الشكاوى والتظلمات دائماً، وكان يرتدي ملابس قاتمة ودائماً يتأبط ملفا ضخما ويمضي كأنه في عجلة من أمره.
في مكتب هذا المحامي "ديمونتين" اطلع دومييه من خلال الملفات على الحياة الأخرى للبشر وقرأ في وجوه النماذج الإنسانية خطوط الآلام والمآسي أحب هؤلاء الناس المطحونين لكنه كره القضاة القساة والمحامين المرائين وأبى أن يستمر في تلك المهنة غير الشريفة! ومن جديد بحث له الأب عن عمل آخر يوفر قوت الأسرة فألحقه للعمل كبائع بإحدى المكتبات، وماهي إلا أيام معدودة حتى صرخ فيه صاحب العمل وطرده إلى الشارع لأنه ضبطه يقرأ أحد الكتب: "هذه الكتب أيها الكسول ليست للقراءة بل للبيع"!!
بعد هذا الطرد جاء قرار دومييه النهائي.. أن يختار لنفسه مهنة يحبها.. والتحق كمصور ورسام بمرسم الكسندر لينوار حيث أصابه الإعياء من فرط مارسمه من نماذج المصيص.. أنوف.. آذان.. أقدام.. كلها من المصيص لا حياة فيها ولاتشبه حرارة الوجوه التي كانت تمر أمامه في مكتب المحامي ديمونتين، ولذا لم يكن راضيا عما يفعله لأن كل ماهو مجرد من حرارة الحياة لايستحق سوى الازدراء!
إنه يريد أن يتلقى دروسه من الحياة مباشرة من معين المأساة.. تماما مثلما فعل رمبرانت مثله الأعلى وقرر دومييه أن يخرج إلى شوارع باريس يجوب أزقتها كما كان يجوب شوارع مدينته مارسيليا وهو مفلس وجائع.. يبحث عن وجوه الصعاليك والمشاغبين والمهرجين، وغير ذلك من النماذج المتأججة بنار الحياة.
وجاءت البداية الحقيقية له كفنان، عندما علمه صديقه راميليه أساليب الحفر الحجري، فكانت تلك المهنة هي الأداة التي وفرت لقمة العيش أخيراً.
فبالحفر الحجري أمكنه التصوير للجرائد ولأعمال الدعاية وللروايات العاطفية.. ثم انضم إلى جريدة الكاريكاتير المعروفة بهجماتها على الحكم في فرنسا عام 1831م وسرعان ما أصبح دومييه ضمن جوقة المهاجمين خاصة عندما انقلب لويس فيليب على الدستور الذي أقسم على احترامه فراح دومييه يرسم له صوراً متعددة وساخرة تارة يرسم وجهه كثمرة كمثرى وتارة يرسمه جالساً والجنود والنواب من حوله يطعمونه قطع الذهب.
وفي الرابعة صباح يوم 15/4/1834 دخل جنود الحرس بيتا في شارع ترانسنونين وذبحوا سكانه وظل الباعث على هذه الجريمة غير معروف! فكان قتل الأبرياء المفجع فرصة حقيقية لدومييه كي يصوب طعنة نجلاء إلى الحكم الفاسد، خاصة أن النفوس مهيأة لتقبل أعنف نقد ضد هذه الجريمة.. وتوالت سلسلة من الرسوم الهادئة من السطح واللاذعة والمتفجرة في العمق.. رسوم رغم بساطتها تغلي غلي البراكين، ولعل أشهرها لوحة "شارع ترانسنونين في الخامس عشر من ابريل".
على الفور صدرت الأوامر إلى رئيس البوليس للقبض على المدعو دومييه رسام الكاريكاتير وتقديمه إلى المحاكمة التي حكمت عليه - مع استعمال الرأفة - بالسجن ستة أشهر ودفع ثلثمائة فرانك كغرامة، مع لفت نظرة بالكف عن الرسوم المتطاولة على الملك لويس فيليب.
بعد قضاء الحكم عاد دومييه في حماس ونشاط لينتج مزيداً من الرسوم الساخرة ويساهم بالعائد منها في دفع الغرامات المحكوم بها على مجلة الكاريكاتير، إلى أن فرضت الرقابة على الصحف عام 1836م وكان هذا الإجراء بمثابة غلق لباب النقد السياسي بالضبة والمفتاح لذلك اتجه دومييه مستفيداً من خبرته بآلام ومشاكل الناس البسطاء إلى باب آخر هو تصوير الحياة الاجتماعية على نحو بالغ الرثاء والتهكم.
عرفت مجلاب "باريس" و "الضجة" و "الكاريكاتير" رسوم دومييه التهكمية التي تنتقد الوصوليين وحاشية لويس فيليب كما كان هذا اللون من الرسوم بمثابة تنشيط للذاكرة عن فترة الصبا في المحاكم فقدم سلسلة من الأعمال تحت عنوان "رجال العدالة" ينحت فيها ملامح القضاة والمحامين ووكلاء النيابة. وكلها صور تميل إلى إبراز القسوة والدمامة وتبدو كأنها مرسومة على عجل، علاوة على اعتمادها على الأبيض والأسود بالأساس.
على هذا النحو استهلكت حياة الكفاح دومييه وهدت قواه.. ثلاثون عاما مع الرسوم التهكمية تعرف خلال هذه السنوات على العديد من نجوم عصره أمثال بلزاك - الذي عمل معه لفترة في مجلة الكاريكاتير- وكذلك اتصل بيودلير وجوتيه وفيكتور هو جو وصديقه الفنان كورو. وفي الثانية والخمسين من عمره استغنت مجلة الضجة عن خدماته بعد ربع قرن من التعامل معه بحجة أن الجمهور لم يعد بحاجة إلى رسومه الانتقادية ! لم تراع إدارة المجلة مابذله من جهد طيلة سنوات شبابه، يرسم على الحجر ويطبع رسوم المجلة قبيل الفجر، ويظل منكبا يلبي طلباتها إلى أن فني بصره ووهن بدنه عام 1860م.
انقطع مورد الرزق أوكاد وصارت الأيام بطيئة كأنها سلحفاة تثقل الخطو على قلب يشعر بنكران الجميل ولايقدر على مواجهة صاحب المنزل لأنه لايملك نقوداً ومن المفارقات الأليمة أن الجمهورية التي ظل يبشر بها طيلة سنوات العمر لم تبال به بعد أن استتب لها الأمر عام 1870م لأن العدالة ظلت عرجاء ولم يتغير من الحكم سوى القشرة الظاهرية.
ويبقى المواطن كما هو لايملك مايكفي ليسد رمقه.
كان تعيسا عليل البصر، لايكاد يرى الناس والأشياء. وعندما جاء تكريم الجمهورية له متأخراً - كعادة التكريم دائماً! رفض الوسام الممنوح له.. لأنه لاجدوى للتكريم والتبجيل بعد أن صار عجوزاً زايله البصر! وأمام ضغوط الحياة المادية وعدم قدرته على سداد الإيجار أهداه صديقه كورو بيتا يحميه في شيخوخته ونظمت جماعة من أصدقائه - على رأسهم فيكتور هوجو - معرضا لرسوماته المهمة مثل "الشغب"، "المهاجر"، "اللصوص والحمار" وغيرها من اللوحات التي تحفل بشخوص بسيطة تتسم بالحيوية والتنوع.
ومع ذلك لم يحظ المعرض باهتمام الجمهور الذي انصرف في مطلع الربيع إلى فرقة من العازفين والراقصات وكانت النتيجة أن المعرض لم يغط مصاريفه واضطرت الجماعة المنظمة أن تتحمل من جيبها الخاص أربعة آلاف فرانك ..!
تدهور صحي وتجاهل وعمى مطبق وشلل تام.. هكذا كانت تخبو شمعة حياته وحيدا مهجورا دون أن يفكر فيه أحد. وحين فارقت الروح إلى بارئها تلكأت الحكومة طويلا قبل أن تصرف لزوجته أحد عشر فرنكا لشراء قبر متواضع يوارى جثمانه! بل إن بعض صحف المعارضة انتقدت عمدة باريس واعتبرته "مسرفاً" لأنه أمر بصرف هذا المبلغ الزهيد!!
وفي الثالث عشر من فبراير حمل أربعة رجال نعشا صغيراً على كواهلهم وعبروا في هدوء أحد الشوارع، وكأن من يحملونه لم يكن شيئاً مذكوراً.

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved