أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 10th May,2001 العدد:10451الطبعةالاولـي الخميس 16 ,صفر 1422

الثقافية

في أن الحرية رغيبةٌ والتزام «3»
يحدث في لبنان
ماجد عبد الله الحجيلان
تحت عنوان «المذعورون العرب» كتب سعد الدين إبراهيم في صحيفة «الوطن» السعودية مقالةً عن الحرية والمجتمع المدني الذي سماه «فضاء الحرية».. وأفاض في الشكوى من عدم الفهم لهذه الكلمة، مبيناً أن ما أثاره هو مشاهدة الخلاف على مصطلح المجتمع المدني ومعناه في أحد البرامج الحوارية في قناة الجزيرة حيث تسنى له رؤية مقاطع من الحوار في عيادة طبية..، وشرع في توصيف الضيفين بما نصّه «الذي كُتب تحت اسمه انه رئيس تحرير..
.. والذي كُتب تحت اسمه أنه مفكر..» ثم نعتهما بالاضطراب والارتباك والفوضوية والشجار.. وتصدّى لفك الاشتباك وحسم القضية.
ويقول إبراهيم «اتهم المحاور المناهض للمجتمع المدني دعاته لافقط بأنهم طابور خامس للغرب، ولكن أيضا انهم من دعاة السلام مع اسرائيل «المجرمة» والتطبيع، وأنهم خونة لقضايا العرب المصيرية..» ويواصل «وهنا اضطر المحاور الآخر أن ينفي هذه التهم بشدة، وأنه شخصيا من أعدى أعداء اسرائيل..»..
وهكذا يواصل ابراهيم وصف الحوار وتجلية المفهوم المتلبس حول «المجتمع المدني» الذي هو بوصف من أوصافه أو غاية من غاياته تطبيع «او ما اصطلح على تسميته تطبيعا مع ان هذه الكلمة مضللة وغير دالة، لكن سيجري استخدامها هنا بوصفها مصطلحاً، فتحرير المصطلحات الاعلامية والسياسية شأن آخر» واذن فقد سعى ابراهيم إلى وصف المجتمع المدني «الذي هو فضاء الحرية»، وجعل من علاماته الانفتاح على الآخر - الذي هو بالضرورة اسرائيل - وعدم الذعر منه ووصف مناهضي التطبيع بانهم مذعورون أي بلغة اخرى جبناء وحسب تعبيره «يرون العالم كله كما لو كان مليئا بالاعداء والشياطين».
«فضاء الحرية»
المسكوت عنه في كلام سعد الدين ابراهيم يعرفه المتابعون لنشاطه ولما نذر له مركز ابن خلدون في القاهرة، والتعليق على مفهوم المجتمع المدني وحوار قناة الجزيرة أمر ليست هذه الورقة بصدده الآن، لكن ما يهمها هنا هو تأويله لفضاء الحرية، والفهم التعسفي الموغل في الذرائعية لمصطلح المجتمع المدني، والطرح المتشنج لفكرة التطبيع بغرض تسويقها في وقت يمكن وصفه بانه اسوأ الاوقات لمثل هذه الدعوات المضللة، مما يثبت بشكل حاسم احد امرين: اما سذاجة موغلة في الغفلة والتجديف، او ما يمكن وصفه بالالتزام الايديولوجي السياسي الذي يرتدي ثوب الفكر وعلم الاجتماع.
إن الجرأة على تبرئة اسرائيل في الجريمة في هذا الوقت عمل لا يمكن وصفه عربياً واسلامياً وعالمياً الا بالغباء أو الاستهبال، ففي وقت تعترف فيه الصحف الاسرائيلية بارتكاب فظائع في الضفة والقطاع، يحرّر كاتب عربي مقالة يطالب فيها بالحوار والانفتاح ويكتب ساخراً عن المحاور في قناة الجزيرة أنه تعرض للاتهام فقط «لكونه من دعاة السلام مع اسرائيل )المجرمة(..» والمجرمة هكذا بين فارزتين، وفي العرف الصحافي والاعلامي أن ذلك يعني قابلية هذه الكلمة بين قوسين للمفاصلة والمراجعة بل ان السياق يفيد السخرية من وصف اسرائيل «المجرمة».. ولا يكتفي ابراهيم بذلك بل يسخر من المحاور الذي اضطر لنفي هذه الصفة - التطبيع - عن نفسه حين قال: وهنا اضطر المحاور ان ينفي هذه التهم عن نفسه، وانه شخصيا من اعدى اعداء اسرائيل..»
إذ يصادر بهذه السخرية على المحاور حقه في وصف رئيس التحرير أو المفكر، ويصادر عليه وصف اسرائيل بالاجرام وبشكل خاص في هذا الوقت، ويصادر عليه فهمه لمصطلح المجتمع المدني، ويصادر عليه ان يعادي اسرائيل.. ثم يخلص من هذا ليدعو للانفتاح على الآخر وقبوله - وغني عن القول مَنْ المقصود بهذا الآخر - ويقدم نفسه أخيراً على أنه داعية حقوق الإنسان وعشيق الحرية.
مقالة «المذعورون العرب» أشبه ببيان جديد لدعاة التطبيع بلغة جديدة لم تجد سوقاً في مصر فخرجت لتتنفس هواءً عربياً آخر، وهو أمر ليس بمستغرب على ابراهيم المتورط في قضايا ذات صلة، لكنه غير مفهوم من الصحيفة التي تبنت ثقافتها حملة المراجعين التاريخيين للهولوكوست ضد بيان المثقفين في اللوموند الفرنسية، والسؤال كيف تجمع الصحيفة بين هذين الرأيين؟ وما الذي تريد ان تقوله بالفعل؟ وهل تدرك الصحيفة ما الذي يمثله سعد الدين ابراهيم؟ يتمنى الكثير من الاعلاميين ان يكون لدى الصحيفة جواب واضح يشير الى منهج معلن للقراء بشكل لا يقبل التأويل.
«البراءة»
موضوع الحرية في مقالة ابراهيم فيه محاولة فهم لها لكنه فهم بائس إذ كان الغرض توظيفه سياسيا حيث جرى قولبته واعادة تشكيله وتسييسه تحت مسمى المجتمع المدني ومن ثم اختزله ابراهيم بالتطبيع والانفتاح على اسرائيل، بينما في مقالة او مقالات لرفيق حبيب في الصحيفة ذاتها عن الثقافة والحرية لا يكاد يوجد فهم أو معنى لا لحرية ولا ثقافة، ما يشير إلى ما تؤكده الورقة من انه لا يوجد فهم مستقر ومطمئن لمعنى الحرية وهو ما ادى بالتالي الى اساءة تطبيقها والتعامل معها، أوالى إلغائها ومحاولة تشويه فضائلها.
تحتاج «الحرية» إلى كمّ كبير من الشفافية والوضوح «وهو ما سيجري الكلام عليه في الحالة المحلية» وإلى قدر أكبر من البراءة بحيث لا تنطوي على أغراض، ولا تستبطن ظلما او استبدادا او قمعا، وهو بالتحديد ما عبر عنه عبدالعزيز المقالح في حديثه عن الكتابة ومدينتها: «الحرية والبراءة هما ورقة الاعتماد التي يتقدم بها المبدع إلى مدينة الكتابة للسماح بدخول عالمها المدهش، والعزلة والنقاء هما جواز الاقامة».
الذين استمروا في مراجعة المفاهيم المغلوطة للحرية كانوا يتبنون شيئاً، ولم يكونوا مستقلين، ولم تكن نزعتهم الى توصيف الحرية خالية مما يشوبها من أدلجة ومناسبات واحداث، ولذا تظل جميع هذه المراجعات زمنية قاصرة عن الالمام بكل فضائل الحرية، متناسية عبودية الحرية التي تحدث عنها طاغور، ومتجاهلة هيكل الحرية ذاتها، لينصب الكلام على المناسبة وشكل التحرر داخلها لا خارجها، وهذه المراجعات الزمنية متعلقة غالباً باحداث سياسية، أو اجتماعية، ومؤخراً تعلقت بمناسبات لا بأس بوصفها ثقافية.
جابر عصفور كتب في هوامشه في صحيفة الحياة تحت عنوان «الحرية.. الحرية» يصف الحرية التي كان ينشدها المثقفون في مصر في أعقاب «الأزمات الروائية» الأخيرة.. «حرية التفكير والإبداع مسؤولية دينية لكل من يؤمن بالأديان السماوية... والحرية مسؤولية إبداعية ما ظل المبدع حالما بأن يكون الذي لم يكنه، أو يكتب الذي لم يكتبه، فحريته شرط استقلاله، الذي لا يجعل منه صورة مكرورة او نسخة كربونية، أو محاكاة لابداعات سابقة، صنعها هو او صنعها غيره.. ولا سبيل الى ازدهار الفكر الا بتحرير العقل من كل القيود التي تحجر عليه الانطلاق في مدى مساءلاته الخلاقة.. جراءة السؤال وشجاعة الشك وجسارة التجريب.. كانت الحرية حلم مبدعي الأمة ومطلب مفكريها من قبل أن يكتب عبدالرحمن الكواكبي عن طبائع الاستعداد.. لا لشيء إلا لكي يزيح بعض الجنادل التي كانت ولا تزال تعرقل تيار الحركة الحرة للفكر العربي..».
وهذه الحرية التي أفاض عصفور في وصفها قريبة من الحرية التي ينشدها غالي شكري في تعبيره الحادّ وخياراته المصيرية التي طرحها امام المثقف حيث قال: «امام المثقف خياران: اما الدولة، وإما الاستشهاد، ولما كان الاستشهاد خيارا صعبا، يتم الانحياز والتحرك نحو الخيار الأول..» لكن هاتين الحريتين يصعب الجمع بينهما، اذ تتحركان في طريق وعرة وخطرة، ومقالة غالي شكري بالغة السخونة لا يتفق معه فيها الجميع إذ يرون للمثقف خيارات اخرى يمكن أن يسلكها.
«لبنان.. يا لبنان»
استغرقت هذه الحلقة في الكلام على أفهام متعددة لتطبيقات الحرية عمداً، وذلك بغرض التمهيد لحالة جديدة من الحالات التي جرى وصفها في الحلقات السابقة، غير ان هذه الحالة العربية الاستثنائية تعد نموذجاً، ولذا فإنه من المهم الاطالة في قراءتها وفهم اسبابها وخلفياتها، اذ ان ما يجري في لبنان ثقافيا وفكريا هو همّ عربي مشترك، بل ان اسبابه ونتائجه عربية دائماً.
حينما عزمت مجلة «الوسط» على نقل مكاتبها من لندن إلى بيروت تطلب هذا انتقال محرريها وموظفيها باجهزتهم وحواسيبهم ومكاتبهم وأوراقهم، وقد تم لها ذلك حيث وصل كل شيء إلى مطار بيروت ومرت كل الاجهزة والاوراق عبر الجمارك وكان كل شيء على ما يرام حتى مرت مكتبة القسم الثقافي، وهنا تعطل الانتقال..
يروي بيار ابي صعب المسؤول الثقافي في المجلة أنه فوجىء بهاتف في بيروت يفيده أن «العَطَلَة» بسبب قسمه، فهرع إلى مسؤولي الجمارك وهو يتساءل عن سبب الاستيقاف، فهاله ان يعلم بوجود مواد غير مجازة من قبل الرقيب الاعلامي، واخذ يتساءل عن هذه المواد «المحظورة» فراعه اكثر ان يعلم أنها كتب!.. لم يصدق أنه في بيروت وفي لبنان..
حقاً هذه الكتب غير مجازة.. كانت الكتب من موجودات مكتبة القسم الثقافي في المجلة وفيها كتب تراث وروايات، ربما يكون معظمها قد طبع في لبنان.. لكن الرقيب وجد فيها ما لا يناسب ولا يتماشى مع رؤيته الثقافية العميقة فرفض إجازتها..
ولا يهم ما حدث بعد ذلك لكن المهم هو حصول هذه الحادثة في مطار بيروت الدولي حيث كان الموظف في الجمارك يبتسم لمن يسأله عن المواد المسموح الدخول او الخروج بها من والى لبنان فيقول بلهجة لبنانية محببة: «انتي بلبنان شو ما بدك هات وشو ما بدك خود..» .. يحدث هذا في لبنان بلاد الحضارات والابجدية الفينيقية الاولى، لبنان الفجر والنور والثقافة، في بيروت وهج الحرية واهزوجتها الجميلة، بيروت التي كانت عاصمة الشرق على ضفاف المتوسط، بيروت الكتاب والثقافة والمثقفين، بيروت الشعر والأدب، بيروت الاثار ونهر الكلب، «بيروت التي ماتت الف مرة، وعادت الى الحياة الف مرة كما تقول ناديا تويني..» بيروت التي صدر فيها اول كتاب في الشرق تمنع كتاباً هي طبعته وهي راهنت بعمرها عليه..
قد يرى البعض ان هذا النموذج الذي وصلت إليه الحالة الثقافية العربية في لبنان ليس كافيا، وقد يصفه بالاستثناء .
لكن القراءة المدركة تعرف ان ما يحدث او ما حدث في لبنان هو تعبير صارخ عما يحدث بشكل اكثر صراحة على الاراضي العربية الاخرى، ان لبنان هو الوجه العربي الاكثر وضوحاً، بل هو مقياس الحرارة الفكرية والثقافية للعرب، انه يحدد طبيعة مرضهم ونوعه واسبابه، بل انه بقراءة اخرى يشير الى استفحال الازمة وضرورة البدء في العلاج.. مصادرة الكتب في لبنان أمر لا يمكن ان يمر دون تعليق على ما وصلت اليه الاحوال في الاجهزة الثقافية والاعلامية الرسمية في الدول العربية، حيث تدعي النهوض بالثقافة والفكر، ولكنها تصادرهما.. وفي الحالة اللبنانية لافضل لوزارة الثقافة والتعليم العالي على الثقافة والابداع، ان الفضل هو للبنانيين انفسهم الذين رفضوا الموت الثقافي وقاوموا كل انواع الاستبداد، القهر من المحتل والمصادرة من الاخ والخذلان من ابن العم.
حالة الثقافة والكتابة وهامش الحرية في لبنان هي بالضبط انعكاس لما تعانيه هذه الامور ذاتها في بقية البلاد العربية، ليس للبنان نفسه الا الاسماء والاشكال، انها الحريات الثقافية العربية تصدر الى لبنان مهجرها الاخير، ويتم تصفيتها بشكل قد لا يكون متعمداً، لكن المهم انه يحدث، الآن في لبنان، فالقضية ليست مصادرة كتاب، او منع رواية، وليست خلافا طائفيا او فكريا، انها شيء آخر اكبر بكثير، وهو ما نجح بيان أبي صعب في التعبير عنه حين قال: «اذا تعلق الامر بمصادرة كتاب قامت الدنيا في العالم العربي، لكن هناك اساءة اكبر الى حرية التعبير تتم في الظل، ويخطط لها في الكواليس.. إنها مصادرة الكاتب!».
إنها مفارقة غريبة حيث تلفظ بيروت الثقافة التي انتجتها، وكأنما هي خبث يجب ان تنفيه، بيروت تتنكر للكتاب الذي تطبعه، وللصحف التي أنشأتها، وللنظام الذي أسسته وأعطاها ملامحها الحلوة، بيروت تريد أن تخرج من ذاتها لتصبح هي الاخرى مدينة عربية حقيقية بكل ما تعنيه المدن العربية من تأزم ثقافي.
مشكلة الكتاب اللبنانيين مع قضاياهم انهم فاشلون في التعبير عنها او التبرؤ منها او التعامل معها، انهم دائماً متهمون او بعيدون ولا وسط، ومشكلة ا لعرب مع القضايا اللبنانية انهم لايعرفون لها اهميتها، ولا يعطونها من وقتهم الكثير، ولذا فمن النادر ان يكتب عربي عن القضايا اللبنانية باحتراف، ويمكن ان يشار الى استثناءات قليلة لعل من بينها ما يكتبه بجسارة داود الشريان في صحيفة الحياة عن الشأن اللبناني، فلو ادرك الكتاب العرب ما تعنيه الثقافة والفكر في لبنان لربما راجعوامواقفهم، ولو تبرأ الكاتب اللبناني من مرجعياته لربما قدّم توصيفا اكثر دقة لما يحدث في لبنان.
ذلك هو نموذج آخر لما تتعرض له «الحرية» من هزات عربية، ولما يتعرض له الكاتب العربي من ضغوط من كل الاتجاهات تجعله لا يعرف اين يفر بقلمه، وكيف يضمن لفكرته المناخ الافضل، ما يؤدي الى شكوى مزمنة لا يلوح لها في الافق اي حل، وهو ما تعبر عنه مقالة محمد الماغوط: «ما من موهبة تمرّ دون عقاب!».
******
في الحلقة القادمة الكلام على الحالة المحلية من خلال مثالين مهمّين.
hujailan@hotmail.com

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved