أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 17th May,2001 العدد:10458الطبعةالاولـي الخميس 23 ,صفر 1422

محليــات

لما هو آت
لكِ وحدكِ )58(
د. خيرية إبراهيم السقاف
أيُّ صوتِ موغل في الذاكرة يأتيني اللَّحظة بهمهمة الغمام، وبحَّة القُمْريِّ، وهديل الحمام وهو يعوج بكِ من آماد انطلاقكِ...
أدري أنَّكِ اللَّحظة... تسبحين في ملكوت هذا الصَّدى... والذاكرةُ لماذا وُسمت بالتَّذكُّر فعلاً تمارسه عند حاجة الإنسان كي يفتح صناديقه؟...
ألا تدرين بأنَّني أكابر نفسي كثيراً، وأنا أصادر خوفي، وأحتمي بكِ...، وأنتِ فجيعةُ الغياب الأول؟ كيف وقد توغّل الغياب فيَّ؟!... حتى غبتُ عن ذاتي...، وحتى بحثتُ عن ذاتي... وعندما سمعتُ حشرجة الوحدة...، وغياب الصوتِ...، ندَبتُ الذاكرة...، فما خانتني أبداً...، وجئتِ إليّ تحملين لي نبرةً...، نبرةً...، تستقرُّ من جوف ذاكرتي إلى جوف تذكُّري...، فأيقنتُ أنَّكِ لستِ فجيعة الغياب...، وإنَّما فرحة الإياب...
ووجدتُ ذاتي... في ذاتكِ التي آبت إليَّ...، ولم أُفقد...
أتدرين أنَّ الصناديق حين ارتفعَت عنها أغطيتها...، أومأتُ إلى الأيام... وحدَّثتها بقصصٍ وحدكِ من يقرأها في أماسي القمر،... ومساءات الغمام...، وليالي الزمهرير...، بوجهيه... البارد والحار...
كنتِ تمسحين على رأسي كأنَّكِ أردتِ عن مسامِّ كفيك أن ترسلي إلى مسام ذاكرتي بما يستقرُّ، حتى إذا ما غُطِّيَ على الغمام، وأُقْصي صدى هديل الحمام...،وخُبِّيء بوحُ القُمْريِّ، كانت مسامُّ الذاكرة نوافد حين تشرَع... تفضي صناديقها بما فيها...
نوّارة قولي بربَّكِ أيُّ سرٍّ فيكِ؟!...
وهأنذا أعود من غياهب الغياب لأجدكِ...، لأجد الغمام، والحمام، والقمريَّ...
لأجدكِ...، لأجد ذاتي...
وكيف يكون مزج الذَّات؟ بالذَّات؟... هذا ما هو منكِ...، ما هو ليس منكِ...، ما هو بكِ...، ما هو ليس بكِ... غير أنَّكِ كلُّ الذي يكون، ممَّا كان وممَّا سوف يكون...
نوّارة أنتِ صانعة الفرح في دنيا الأحزان...
وأنتِ تُطَهِّرين إلى صناعة الفرح كلَّ الدروب إليه...
وأنتِ...
ماذا؟ وكيف...؟ ... قولي ولا تصمتي...، فكلُّ لحظةِ صمتٍ، في صمتِ صمتِكِ، هي حياة لكلِّّ ما أودعتِ في ذاكرة الصندوق...
أتدرين أنَّ حروف دفتر أيامنا لمَّا تزل تتوهَّجُ بضياء نوركِ...، وتتنفَّسُ بعبير شذاكِ؟
قُمْعُ الكادي حين جاءكِ من أقاصي الجنوب، هلَّلْتِ به فرحة العطر، حتى بلغتْ نشوتكِ به أقصى الشمال، وبُعْدَيْ الجانبين...، تذكرتُ ذلك لأنَّ طَّائر القُمْريِّ الذي يتهادى كلَّ يوم على حوافَّ نافذتي، يوقظني من صمتي ولا أكون في إغفاءة الموت...، جاءني بكِ... كأنَّه ذلك القُمع... وأنتِ توسِّدينه ركن نافذتكِ... وكلَّما هبّ الهواء...، ومرَّت بنا نسمةٌ تُقرئنا سلام الأنحاء...، جاء الكادي معها بفوح الجنوب...
لا أدري لماذا اللَّحظة عشتُ هناك عند زاوية ركن نافذتكِ؟!
كنتُ يحلو لي أن ألتقط بذور طعام العصافير...، وعندما أصبحَت لي نافذتي...، عملتُ ما كنتِ تفعلين... حتى إذا ما التقطتُ بذورها... تغنَّت... وأُطرِبتُ... كيف العصافير والطيور تعبِّر عن الامتنان والفرح؟ هذه كانت حكايا أمسياتنا حين كنَّا نجلس معاً ولم نعد...
لماذا لم نعد نجلس مع الحَمام، ونحدِّث النَّسمة، ونستوي في لحظة الزمن يمرقُ بنا، ألا تذهبين معي؟! وذلك لأنَّني أنتظركِ، ولأنّني لا أقف وحدي بوجودكِ؟!... وأغازل اليمامة كلَّما عرَّجت على ركن الانتظار للمساء، والانتظار للصباح...
هذه أنتِ، والستائر لا تسدل كما كنتِ ترغبين... فجميعها تلتفُّ على جميعها كي يدخل النور، كي يصل صوت اليمام، وصدى القُمْريِّ...، ووهج رائحة الطين، والعجين، والحطب...؟
لم أعد أصادر خوفاً، لأنَّني لم أسمح للخوف أن يتسلَّلَني، ولم تراودني هواجس البقاء، أو الرحيل، السهر أو النوم، البكاء أو الضحك...
غير أنَّ كلَّ الذي يُسمح منحنه لمن يحتاج إليه...
حتى حروف السؤال... سمعتهم يتجادلون حولها...، حتى أنتِ، سمعتهم يذكرونكِ... كيف لا يذكرون، وكيف لا يفعلون، وأنتِ الفاعلة في سيرورة كلِّ ما شعروا به حياةً يحيونها كي يحيوا...؟!
الآن...
أُصغي إليكِ...
الآن وحدي أتَمَلَّى قدم اليمامة والحمام...
الآن أجلس إلى زاوية النافذة ألتقط البذور التي تركوها، وغادروا، كي أعيدها إلى ثرى الأرض وأسَتقبل الغمام...
اليوم...
سأقول لكِ... كثيراً... وكثيراً...
لن أصمت...
إنَّني عائدة بكِ من غياهب الصمت، وذاكرة الكلام...
فما الذي يمكنني أن ألجمه في بوح الحمام؟
وما الذي يمكنني أن أتركه في صندوق الذاكرة؟ يا ذاكرة الأيام؟!...
نوّارة...
أنتِ التي تحيكين لي رُواء السير، وأنتِ التي تلضمين لي عقد الحياة، وأبجدية الصوت، و... بيت الأمان...
ألا فلا تحسبي أنَّني هناك في غياهب الغياب، لأنَّني في شارفة الحضور بكِ وعنفوان الضياء.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved