أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 2nd June,2001 العدد:10474الطبعةالاولـي السبت 10 ,ربيع الاول 1422

مقـالات

أدونيس فقيهاً !!:
عبد الرحمن بن عقيل الظاهرى
بعد أن أفرغ أدونيس همومه الطائفية حول استصلاح الأمة بالرقابة الإصلاحية قال«أود أنهي هذه الخواطر بثلاثة أسئلة:
السؤال الأول : موجه إلى رجال الدين )وأعني أولئك الذين حولوا الدين إلى جهازٍ رقابي(، وهو: لماذا لا يأخذون من النص القرآني نفسه معيارهم في الرقابة، فليس اللفظ في ذاته هو المعيار، بل الدلالة الأخيرة في السياق الأخير؟.. وكيف لا يجدون في ذالك البرهان المطلق على أن الله نفسه لايكره أحداً على الإيمان، أو كما قال: )لا إكراه في الدين(، مما يتضمن بالضرورة القول: لا إكراه في الكلام على كل ما يتعلق بالدين، وكيف يعطون لأنفسهم حقاً لم يرده الله جل جلاله لنفسه.. متجاوزين إرادته، فارضين فهمهم الخاص للدين بالقوة والإكراه؟.. وكيف يريدون للإنسان أن يأمن وهو مقيد ومسجون، وكيف يجيزون لأنفسهم أن يلبسوا باسم الدين لبوس الشرطي والسجان، وكيف يحق لهم أن يعطوا للدين صورة يظهر فيها كأنه عالم من القيود والسجون، ومن الأوامر والنواهي التي تفرض من خارج؟.. أفلا يدركون أنهم في عملهم هذا يبدون كأنهم لا يكتفون بخنق الإنسان وحده، وإنما يكمِّلون هذا الخنق بالقضاء على الدين نفسه؟.
السؤال الثاني: موجه إلى الكتَّاب أنفسهم، وهو: كيف يقبلون وهم الذين ينتقدون الرقابة أن يتقدموا بكتبهم إلى من يراقبها لأخذ الموافقة عليها قبل نشرها؟ ألا يخونون كلامهم في ممارستهم هذه وقبل ذلك أنفسهم؟، وكيف يمكن والحالة هذه أن ينظر إلى نقدهم الرقابة نظرة احترامٍ وتصديق خصوصاً من سلطة الرقابة ذاتها، ولماذا لا يقفون موقفاً موحداً من الرقابة في البلاد العربية كلها بوصف الثقافة العربية كلاً واحداً لغوياً وقومياً أياً كانت الكتب المراقبة وأياً كان أصحابها؟.. اذ تتعالى أصواتهم هناك فيما يتعلق ببلدٍ أو شخص آخر؟.. أفلا يعطي الكتاب للسلطة )بممارستهم هذه( الفرصة والحق للاستهانة بالكتابة والكتاب؟.. أفلا يعززون بهذه الممارسة بنية الرقابة في الثقافة العربية، وهي بنية قديمة ومتأصلة؟.. ولماذا لا يظهر نقد الرقابة إلا في مناسبات خاصة حيث يختلط هذا النقد بصراعات أخرى، وحيث يبدو الاحتجاج على الرقابة كأنه احتجاج على أشياء أخرى.. خصوصاً أن الجميع يعرفون أن الرقابة والمنع أساس في ثقافتنا قديماً وحديثاً، وأن بعض الكتاب والمفكرين في بعض العهود) وبخاصة الحديثة( راقبوا بأنفسهم غيرهم، ومنعوهم، أو ناصروا من راقبهم ومنعهم.
السؤال الثالث: موجه لأهل الرقابة، وهو: لماذا لا تقرأون تاريخكم الذي لا تكفٌُّون عن امتداحه والفخر به وتعظيمه؟.. اقرأوا وسوف ترون أن الذين صنعوا ويصنعون مجد العرب إبداعياً في جميع الميادين )إلى الفقه( هم تحديداً أولئك الذين مُورست عليهم الرقابة، فمنعوا، أو قتلوا، أو حرقت كتبهم.. ولماذا إذن تراقبون، وما وراء هذه المراقبة، وما جدواها؟.. قولوا: متى تقرأون تاريخكم؟«1».
قال أبو عبدالرحمن: هاهنا حشد من المغالطة والتمفقه والتفيهق:
أولها: أنه لا يقال: «دلالة المفردة «2» ليست هي المعيار».. بل هي معيار صحيح ولبنة في دلالة السياق العام.. ولكن لا يقال: هي كلية الدلالة.
وثانيها: أنه لا معنى للاستدراك المذكور آنفاً، لأن مفردة الرقابة بمفهومنا الاصطلاحي لم ترد في كلام الله سبحانه.
وثالثها: نزيد أدونيس دليلاً آخر إضافة إلى استدلاله بالآية من سورة الكافرون، وهي قوله تعالى: ) أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين( )سورة يونس/ 99(.. ولو كان الإسلام إكراهاً لما كانت أحكام الموادعة لأهل الذمة، ومن لم يدخل في دين الله. إلا المرتد الذي ترك الحق بعدما عرفه.. ولو تُرك كل مرتد وحريته لتسابق ضعاف القلوب، والفساق، والمصطلمون بالشهوات، والمنافقون: إلى فتح باب الخروج من الباب الذي دخلوا معه.. وليس في ذلك من الحكمة شيء لدين رباني معصوم مهيمن جاء لإسعاد البشرية.. إلى أن النهي عن الإكراه وذلك على التحقيق غير منسوخ بآيات الجهاد، بل هو باق مع بقاء الجهاد : يعني حرية دعوة الحق والخير والجمال )الإسلام(، لتلغي الوثنية والخرافة والكهانة وإذلال الناس بغير العبودية لله، وحفظ حقوق المواطنين أهل الذمة.. ولا يعني ذلك إلغاء الحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى.. ورقابة الإصلاح من أجل ذلك، فهل يريد هذا الطائفي المتمفقه أن يلغي كل ما مر من نصوص قطعية بآيات عدم الإكراه ولا تعارض بينهن ألبتة.. وعدم الإكراه لا يعني الإذن بإفساد غير المكرهين بصيغة اسم المفعول باسم حرية التعبير، بل يعني إبقاءهم على دينهم وحفظ حقوقهم.. وأحكام الإسلام صريحة واضحة فيمن شتم الدين ومنزَّله، أو استهزأ بهما، أو سوَّق محرماً إلا مسلم.
ورابعها: أن أدونيس بنى على مغالطاته تلك قوله عن دعاة الإصلاح: «كيف يعطون لأنفسهم حقاً لم يرده الله جل جلاله لنفسه متجاوزين إرادته، فارضين فهمهم الخاص للدين بالقوة والإكراه..»؟.
قال أبو عبدالرحمن: في أي دين وجد أدونيس أن الله إذْ لم يكره أهل الكتاب على الإيمان بعد أن تبين الرشد من الغي، وقام البرهان: أن الله يأذن بالفساد في الأرض، وينهى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، ويلغي الحدود والعقوبات، ويسمح بحرية الاستهزاء بالدين ومنزله.. وما بليت الأمة إلى بتمفقه الطائفي المضلل.. إن الكتابي غير مكره، ولكنه غير مأذون له بالإفساد، والمنافق لا سبيل إلى إكراهه على الإيمان، لأنه لا يعلم ما في االقلوب إلا الله، ولكنه محاسب بما هو علني من أمور الإسلام.
وخامسها: نقول بملء الفم: ليس في دين الله عالم من القيود والسجون والأوامر والنواهي تفرض من خارج.. كلا، بل لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. ولكن هذا لا يعني خلو الدين نفسه لا من الخارج من حدود وعقوبات وأمر ونهي، فهذا هو الدين كله.. والله يُحيل إلى الحواس والقلب والعقل، للانتفاع بالعقل الإنساني المشترك المنتج لقيم الوجود الثلاث.
وسادسها: أن أدونيس يعلن فوضوية التمرد والرفض للنظام، وأن ينشروا إنتاجهم متجاوزين للرقابة، فهل في الهدم أكثر من هذا؟!..
إن من حق أي مخلص أن ينتقد أي نظام رقابة تأصيلاً وتطبيقاً، ليكون سادناً للقيم، فإذا اكتسب النظام شرعيته وجبت الطاعة.. والظرف الزمني والمناسبة التي أثارت الشجون الطائفية لدى أدونيس إنما هو عن أعمال أدبية تسخر بالله ودينه، وتدعو إلى الإباحية وقلة الحياء، ومجافاة هداية الدين وقيم العقل الإنساني المشترك.. والذي ينتقد الرقابة بهذا المعنى خائن لدين الله وللحق والخير والجمال، فإن خضع للرقابة بهذا المعنى وخالف نقده: فخيانته لكلامه السابق الذي جعله أدونيس عيباً منتهى الأمانة ومراجعة النفس والإصغاء للحق.. وكل هذا اسمه في ديننا توبة وإنابة.
وسابعها: أن أدونيس عاد إلى خلط الأوراق بقوله:« وكيف يمكن والحالة هذه )يعني حالة مراجعة الضمير والعقل( أن ينظر إلى نقدهم الرقابة نظرة احترام؟».
قال أبو عبدالرحمن: إلغاء الرقابة شيء ونقدها شيء آخر.. وأدونيس يدعو للأولى وليس للثانية.
وثامنها: أن أدونيس دعا إلى ثورية الهدم بقوله: «لماذا لا يقف المثقفون موقفاً موحداً من الرقابة في البلاد العربية كلها، بوصف الثقافة العربية كلا واحداً لغوياً وقومياً.. إلخ؟».
قال أبو عبدالرحمن: ليس كل مثقفي البلاد العربية، ولا أكثرهم يؤمنون بهذا الهمِّ الطائفي، وليست كل البلاد العربية تاريخياً وحضوراً آنياً منحسرة جماهيرياً عن دينها، وليست القومية عندهم إلا بشرطها عند ما كان العرب قوماً بالمفهوم السياسي والحضاري.. أي عندما كانوا مادة الدين الخالد، وعندما كانت رقعتهم الواسعة الآن منحة إسلامية، إذن تأليب أدونيس تأليب أقليَّة طائفية على جمهور الأمة.. أما الوحدة اللغوية فحق صارخ، وأدونيس من أكبر المتلاعبين بهذه الوحدة، وكانت متابعتي له المنشورة بالصحافة منذ عام 1390ه.. أي منذ أكثر من ثلاثين عاماً.. وهكذا يظل الأسلوب الإنشائي المهلهل في بقية كلام أدونيس في السؤال الثاني تكرار مُمِلٌّ لما أسلفت مناقشته.
وتاسعها: أن السؤال الثالث أظهر نموذجٍ للعفن الطائفي الأدونيسي من جهة الإسقاط والتضخيم.. أما التضخيم فعن الممارسة الرقابية، والواقع أن الذين مورس عليهم النقد والمحاكمة لا المراقبة : كانت الممارسة في حقهم محصورة في مسائل الإيمان والكفر والإباحية، وقد بقيت كتبهم وكتب الرد عليهم كأسلافه ابن الراوندي والحلاج.. وأما علم المواهب والحواس طباً وفيزياء وكيميا فقد احتضنته خزانات أوربا في الوقت الذي تستمر فيه ممارسات أدونيس ورفاقه في الهامشي، وجعله كلياً، فعصور الانحطاط العلمي المادي منذ بديع وأسجاع ابن نباتة والحلي وابن حجة هي نفس الممارسة الأدونيسية الآن مع تغير المادة والبنية الأدبية والفنية.. إلا أن كل ذلك على هامش الصاروخ والذرة والقانون الذكي والإعلام المسموع والإصلاح القيمي والاستماتة في حماية كيان الأمة ديناً وتاريخاً ورقعة ووجداناً ومبدأ وتطلعاً.. وأما الإسقاط فذلك باستثنائه الفقه ويضم إليه أصوله وهو خير وأوعب ما أنتجته عبقرية المسلمين في عطائهم الفكري حينما يكون الحكم اجتهادياً لا نصياً.. ولو قارن أدونيس بين كتبٍ كبدائع الصنائع أو المحلى أو الأم أو المغني بكتاب قانوني كالوسيط من ناحية تعليل الحكم، والبرهنة عليه بعد فارق العبودية لله والعبودية للنقص البشري لرأى العجب العجاب من عبقرية المسلمين، وأن الذي استجد أمثلة ووقائع من العلم المادي الحديث كانت موضوعاً للحكم والله المستعان.
الحواشي
«1» جريدة الحياة عدد 13837 في 7/11/1421ه ص16.
«2» من الورع أن يعبَّر عن كلمات الله في كتبه المقدسة بالمفردات لا بالألفاظ، لأن التلفظ في حق الله لم يرد به نص، وإنما ورد التكلم، وصفات الله على التوقيف، لأن علمنا بالله إنما هو بالنص والوصف وضرورات العقل.. لا بالحس الذي يُعيَّن كيفاً وكماً.

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved