أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 22nd June,2001 العدد:10494الطبعةالاولـي الجمعة 1 ,ربيع الثاني 1422

الاخيــرة

دوافع النوازع
أكرم من حاتم
د. محمد بن عبدالرحمن البشر
تشرفت مع زملائي في السفارة بزيارة رجل كريم عاش جُلَّ عمره في إحدى البلدات في وسط المملكة وكانت الكلمات تنساب من لسانه كالماء الزلال الذي لم يتعكر صفوه. تخرج دون تهذيب المثقف، أو تنمق المتفلسف فتصل إلى القلب نقية صافية، كنَّا معاً نستمع إليه في إنصات الحريص على سماع ما سيقول، وكنت أبادله الأحاديث لأشجعه على المزيد، وكان الزملاء الأعزاء يصغون إلى الحديث في لهفة كبيرة لأن أغلبهم لم يُتَح لهم مجالسة من عاش أو سمع عن تلك الحقبة من الزمن إما لصغر سنه، أو لظروف عمله التي حالت دون ذلك.
تحدثنا عن الملك عبدالعزيز يرحمه الله، وصدق نيته وتقواه، وحكمته، وفوق ذلك توفيق الباري عز وجل. وقادنا الحديث إلى الأوضاع الاقتصادية التي كانت قائمة في الجزيرة العربية في تلك الحقبة من الزمن، وكان الحديث منصباً حول بعض القصص والطرائف التي واكبت تلك الحقبة.
تحدث ضيفنا قائلاً: إن الجزيرة العربية تتعرض بين الفينة والأخرى إلى سنين عجاف، وفي إحدى تلك السنين أخذ الجوع من الناس مأخذه حتى كادوا يأكلون أوراق الشجر، وفي ظل هذه الظروف كان أحد أبناء إحدى القبائل الكريمة جالساً في خيمته مع والدته وزوجته وأولاده وإذا بخمسة نفر قادمون إليه وقد أخذ منهم التعب والجوع والإعياء كل مأخذ حتى كأن أعينهم قد غارت بين جفونهم من شدة الجوع فهلل بهم الرجل ورحب، والتفت إلى بعض الدقيق الذي بخيمته وأمر زوجته أن تبدأ بإعداده للضيف، فإذا بأمه تحلف عليه بأن لا يمسه لأنه لا يوجد في المنزل سوى ما يكفي الأسرة لمدة يومين فقط، فنظر المضيف إلى عيون ضيوفه فاغرورقت عيناه ثم أسرع إلى مكان قريب قد وضع فيه قليلاً من الدقيق لم يخبر به أسرته، وقد احتفظ به للطوارئ، وأخذ قليلاً من الماء وبدأ في تجهيزه، ثم انثنى إلى الشاة الوحيدة التي لديهم وهي مصدر الحليب الذي يشربون منه جميعاً فنحرها وقطَّعها ثم بدأ في إعدادها وقدمها إلى ضيوفه، ثم مالحهم في الأكل، وبعد أن أكلوا وشربوا، التفت أحد الضيوف إليه وحلف له بالله العظيم أن طعامهم منذ خمسة أيام ليس سوى أوراق الشجر وأنهم تركوا أهلهم وذويهم، ولا يعلمون ماذا سيحل بهم، وهل سيجدونهم أحياء أو أمواتاً. وعندما سمع المضيف حديثهم هللت دمعته، وحمد الله أن أنار له الطريق لتقديم ما يمكن تقديمه لضيوفه، وأن يكون ذلك لضيوف في أمس الحاجة إلى تلك المائدة الكريمة.
لقد طبع العرب على الكرم فأصبح ديدنهم، كما ألفوا إكرام الضيف فأصبح خِلَّتهم، وهاموا بهذه السجية فانزرعت في كرموزوماتهم، فتوارثوها عبر الأجيال المتعاقبة، فبقيت معهم حتى يومنا هذا.
لقد قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ولا شك أن الكرم من مكارم الأخلاق ولذلك استمرت هذه الخِلَّة الحميدة وستستمر ما دام هناك عربي على وجه الأرض، لقد تغنَّى العرب بالكرم في شعرهم ونثرهم ورأوه صفة للثناء، كما رأوا في البخل صفة للذم ورأوه في الكريم شرطاً للسيادة فالبخيل لا يسود.
ومن عبر تلك القصة ما يمكن ملاحظته من تفاوت عجيب في الظروف المعيشية السائدة في حقبة من الزمن، وما نعيشه اليوم من رغد وأمن واطمئنان، ومثل هذا الأمر يستوجب منا الحمد والثناء للرب الكريم الذي منَّ علينا بفضله وكرمه. لقد أصبحت الموائد تمتلىء بشتى الأطعمة بينما كان الفرد في الأمس القريب يقضي جُلًّ عمره في اللهث وراء لقمة يومه.
كما أن ما ننعم به من أمن وأمان يضفي على تلك اللقمة نعمة عظيمة أخرى تزيد من سعادة المرء وبهجته.

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved