أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 22nd June,2001 العدد:10494الطبعةالاولـي الجمعة 1 ,ربيع الثاني 1422

شرفات

شخصيات قلقة
خطيب الثورة العرابية ولعنة النفي
عبدالله النديم )1845-1896(
خطباء الثورات أول من يصطلون بنارها! هكذا قدر لعبدالله النديم - خطيب الثورة العرابية - ان يدفع ثمن الكلمة في زمن الخوف، وان يعيش منفياً داخل الوطن عشر سنوات كاملة.. كما قدر له أن يبدأ نضاله مع الحياة مبكراً، حين تخلى عنه الأب لأنه فشل في أن يصبح شيخا معمما. واضطر النديم الى تعلم فن الاشارات التلغرافية وانتقل للعمل بمكتب تلغراف بنها ثم بقصر والدة الخديوي اسماعيل بجاردن سيتي.
الى ان ارتكب غلطة صغيرة اغضبت منه كبير خدم القصر خليل أغا، وكان معنى ان يغضب عليه كبير الاغوات انه لن يجد بابا للرزق سواء في القاهرة او الاسكندية . فارتجل النديم الى وسط الدلتا متنقلا بين طنطا والمنصورة لا يعرف ماذا يخبئ له الغد. فهو تارة يبيع المناديل والجوارب، وتارة يساجل الادبائية - الذين يستجدون الناس بادبهم العامي وارتجال الشعر - وكانت هذه المساجلات تتم في حفل عام بمباركة شاهين بك مفتش الوجه البحري، الذي كان يحرص على مكافأة كبار الادبية ان غلبوا النديم، اما اذا اغلبهم فليس لهم عنده سوى الضرب المبرح!
وفي الخامسة والثلاثين من عمره عاد الى الاسكندرية محملاً بخبرة الحياة وانخرط من جمعية سرية تنتقد ما وصلت اليه الامة، وتدعو الى انشاء المدارس ، وبالفعل اصبح النديم مديراً لأول مدرسة تنشأ، ولكن هذا المشروع الجدي لم يستمر طويلا، اذ ظهر فساد بالجمعية ونسب الى النديم ففصل من الجمعية والمدرسة ، ليعيد حساباته مع نفسه ويدرك ان المقالات التي كان يرسلها الى الصحف كانت تحقق دوياً كبيراً وتنشر دون ان يتقاضى عنها اجراً، بل دون ان تذيل باسمه في أحيان كثيرة.. فلماذا لا يصدر جريدة يعبر فيه عن آرائه ويديرها دون ان يزعجه الآخرون؟ وفي 6/6/1881م اصدر النديم صحيفته الشهيرة التنكيت والتبكيت» يؤنب فيها المصريين على ما وصلوا اليه من سوء حال ، باسلوب لاذع ومضحك.. يتهكم على سذاجة الفلاحين ويسخر من تعالي المتفرنجين ويخلط ما بين الفصحى والعامية، وما بين السياسي والاجتماعي.
آنذاك خيمت اجواء من التوتر بين اطراف الحكم: القصر والحكومة والجيش والانجليز.. وصعد نجم العرابيين بزعامة احمد عرابي، فاحتضنوا النديم ليصبح خطيب الثورة وكاتبها، فكان ينتقل بين المحافل والتجمعات يدعو الناس الى المطالبة بحكومة نيابية وشورى ودستور وخلافه، بل كان يخطب في الافراح ايضا، حتى قال اشهر مطربي عصره المغني محمد عثمان متهكما انه سيحيي فرحاً ومعه عبدالله النديم!
وحين توقفت «التنكيت والتبكيت» اصدر النديم جريدة الطائف ونقلها الى القاهرة، ومن خلالها راح يهاجم الخديوي اسماعيل بعنف ومن بعده توفيق لارتمائهما في احضان الغرب. وسعى الى شرح بؤس الفلاحين والدعاية للثورة العرابية.
وكما فشلت جمعيته السرية من قبل فشلت الثورة العرابية ايضا، وارسل عرابي ورفاقه عريضة الى الخديوي مع عبدالله النديم تطالب بالعفو منهم. لكن النديم علم في الطريق ان الخديوي رفض العريضة وارسل رجاله للقبض عليهم، وعلى رأسهم حامل العريضة نفسه!
ادرك النديم ان السنين العجاف قادمة، فأعد خطة للهرب والاستخفاء، في البداية ذهب الى صديق له بحي بولاق ثم خرج من عنده بعد عدة ايام وهو يرتدي زعبوطا احمر وعمامة حمراء ويربط منديلا على عينيه، يقوده عكازه وخادمه الامين، كأنه احد الدراويش.
وصل النديم الى بنها وشعر ان خادمه خائف ويفكر في العودة الى اهله، فأخذ النديم يقرأ في الجريدة يوما ثم تصنع الفزع وقال: «لا حول ولا قوة الا بالله» فسأله الخادم عما أفزعه، فأجابه قائلاً: الحكومة جعلت لم يرشد عني الف جنيه، ولمن يأتيها برأسك خمسة آلاف.. ولان نصف الكلام صحيح صدق الخادم النصف الآخر وقنع بالمصير واخذ يبالغ في التنكر اكثر من سيدة.
يقول النديم: خرجت من مصر مستخفيا فدرت في البلاد متنكراً، ادخل كل بلد بلباس مخصوص، وأتكلم في كل قرية بلسان يوافق دعواي التي ادعيها، من قولي: اني مغربي او يمني او فيومي او شرقاوي او نجدي، ومن المفارقات ان بعض هذه الحيل كانت تكسبه شهرة كبيرة، لدرجة ان رياض باشا الذي اصدر الاوامر الى رجله للقبض عليه ، سمع عنه كعالم يمني له باع طويل في الادب واللغة وارسل اليه سعد زغلول ليسأله عن معنى مثل قرأه في احدى الصحف.
تمر الايام كاعوام والشهور كدهور.. فما اصعب النفي داخل الوطن، وما اشد الحنين الى الادب والام والاخ والى كتبه واوراقه التي تركها في بيته بالاسكندرية.
كانت العيون قد غفلت عنه قليلا بعد ان اشاع احد اصدقائه - وهو فرنسي - ان النديم هرب إلى اوربا ونشرت الاهرام الاشاعة على انها خبر حقيقي، ثم ارسل صديقه الفرنسي ليطمئن على احوال اسرته ويأتيه باوراقه، فعلم ان اسرته تشتت، والناس تنكروا لهم من كثرة ما يأتيهم من مخبرين. اما كتبه وتأليفه التي انفق فيها تسعة عشر عاما فقد وضعها ابوه - بعد ضرب الانجليز للاسكندرية - في ثلاثة صناديق وشحنها في احد القطارات لكن ازدحام المهاجرين الهائل جعل رجال المحطة يلقون الصناديق الثلاثة في النيل، وهم لا يدرون ان هذه الاحبار التي طفت على وجه الماء خلاصة فكر وعمر رجل يعيش طريداً في البلاد.
تأتي عليه ازمات ثم تنفرج. فالشيخ محمد الهمشري عمدة «العتوة» بمديرية الغربية اخفاه ثلاث سنوات وزوجه وزوج خادمه ايضا. وذات مرة صادفة مأمور احد المراكز وعرفه، فاختلى به واعطاه نقوداً، ثم رسم له خطة السير حتى لا يتعقبه احد. وفي عيد الاضحى وهو لا يجد قوت يومه وامرأته تشكو وتتذمر، فوجئ برجل من اهل البر والتقوى يملأ غرفته قمحا وعسلا وسمنا وثيابا للمرأة المتذمرة. وفي أيام أخر تشتد الازمة ويعم الكرب لدرجة ان زوجته في نوبة غضب لطمته على فمه حتى كادت تسقط ثناياه. لحظتها فكر ان اظهار نفسه للحكومة اهون. ثم كظم غيظه وترضاها.. وما أكثر المشاجرات بين زوجة السيد وزوجة الخادم، خاصة ان شدة البؤس لا تفرق بين سيد وخادم!
لشدما اتعب نفسه في استخفائه. فكان يقبع في سرداب طويل تسعة اشهر وهو يقرأ ويكتب على مصباح صغير يضاء بالجاز ويملأ المكان دخاناً.. وعن تلك الفترة كتب لاحد اصدقائه «لا اشغل فكري بما يأتي به الليل اذا كنت بالنهار ولا اتعب ذهني بتوالي الخطوب والاكدار، ولا أتألم من طول المدة ووقع الشدة، لاعتقادي ان لكل شدة مدة». وبالفعل بعد عشر سنوات من التخفي القي القبض عليه بقرية الجميزه نتيجة وشاية حفيرة، وارسل الى التحقيق معه في طنطا، وكان وكيل النيابة قاسم بك امين الذي امده بالمال من عنده وامر باكرامه وتنظيف مكانه في السجن.
كانت النية تتجه لعقاب من آواه ولما انكر النديم ان يكون احداً ممن آواه يعرف حقيقته، امر الخديوي توفيق بالعفو عنه وابعاده عن مصر الى اي جهة يشاء، فاختار يافا. وعندما مات توفيق تولى عباس وعفا عنه فعاد الى مصر واصدر جريدة «الاستاذ» لأنه لا يستطيع ان يعيش دون جريدة ودون ان ينقد مساوئ الاستعمار والقصر، ومن قصائده التي نشرها في تلك الفترة:


اذا ما الدهر صافانا مرضنا
فإن عدْن الى خطب شفينا
لنا جلد على جلد يقينا
فاذا زاد البلا زدنا يقينا

وكان النتيجة ان حليفه الخديوي عباس - رغم ميوله الوطنية تخلى عنه وبضغط من اللورد كرومر اغلق جريدته واضطره الى الرحيل الى يافا نظير مرتب شهري كبير «25» جنيها شهرياً، وما لبث الوشاة ان وشوا بأنه يلمز ويطعن الباب العالي في الاستانة، فصدرت الاوامر بابعاده عن يافا ايضا.
اخذ يذرع الارض لا يعرف اين يستقر، فلا مصر تقله، ولا أي ارض من اراضي الدولة العثمانية تحله فنزل الاسكندرية أياما ينتظر المصير. الى ان قرر الباب العالي استدعاءه للعمل بالاستانة وبالتالي يصبح تحت العين ويدخل القفص. ومن المفارقات ان يقبل النديم وظيفة مفتش المطبوعات، وان يرتضي لنفسه في نهاية حياته ان يكون رقيبا على الصحف وهو الذي كان يأبى ان يتحكم فيه احد. لكنها كانت وظيفة لتبرير المكافأة المجزية التي ينالها، هكذا خرج مختاراً او شبه مختار الى الغربة. ولم تظل حياته طويلا بالاستانة اذ اصيب بالسل ومات في العاشر من اكتوبر عام 1896م ومشى في جنازته صديقه واستاذه جمال الدين الافغاني الذي كان زميلا له في المنفى الترفيهي ! وحين وصلت امه واخوه - بعد ان علما بمرضه - وجد ان الجسد قد ووري التراب وما اخذه من متاع واثاث من قبل الباب العالي تم نهبه، فعادا وليس في يدهما الا الحزن والاسى.
الناشرون التقليديون:
- د. عبدالجليل ناظم )المغرب(: وظيفة الكتاب تتغير لكنه لا يموت أبداً
- صلاح الملا )مصر(: حتى لو انتهى الكتاب في أوروبا فسيستمر لدينا وقتاً أطول
- محمد عبدالعزيز الزغبي )سوريا(: الكمبيوتر ساعد على تخطي الحواجز الرقابية

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved