أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 12th July,2001 العدد:10514الطبعةالاولـي الخميس 21 ,ربيع الثاني 1422

الاخيــرة

من يعيد للطائف أمجادها أو يعدها بمجد جديد؟
فوزية أبو خالد
كانت مدينة الطائف عروساً يجلوها المطر كلما جن المساء كانت بساتين الطائف حزاماً من هواء نقي وماء يلتف حول خصر الفاتنة بالزمرد واللازوردي والأسرار.
كانت الضحكات في جنباتها تسمع طوال الصيف من بحرة على طريق جدة ومن الشرائع على طريق مكة ومن الهدى على طريق الطائف ومن الباحة على طريق الحجاز ومن عشيرة على طريق الرياض. كان ريم وادي ثقيف مشرئباً متلفتاً يقف على مشارفها الأربع.
كانت مدينة الطائف تنتفض كسرب عصافير من غيوم زرقاء كلما أطل الصيف وبدأت تهل عليها جموع المصطافين من أنحاء البلاد وخاصة تلك الوفود التي تنتقل إليها بانتقال الحكومة من العاصمة إلى المصيف الرسمي بالطائف مع أول إطلالة الصيف.
كانت الحياة تشتعل في أحشاء المدينة من شبرا إلى الشرقية ومن الفيصلية إلى مسجد عباس كان البشر والسرور يرسم ابتسامات واسعة على وجوه أهل الطائف ويدب النشاط والحيوية في أيدي أبناء الوطن العاملة من بائع الفول والتميز الطائفي إلى بائع الترمس والحلبة وغزل البنات، ومن مزارعي البرشومي والحماط والرمان والورد إلى راعية الغنم وبائعات الزبدة البلدي والسمن البري، كانت الطائف تتحول بأطفالها ورجالها ونسائها إلى خلية حية تشارك كلها وتشارك في صنع قرص العسل الصيفي. كان الأنس يتخذ أشكالاً انثوية لا يكشف اسراره إلا مرتادو البساتين، وكانت البساتين تفتح ابوابها من بعد صلاة العصر تماما إلى ما بعد صلاة المغرب بقليل تستقبل النساء والأطفال بتسامح وتمنحهم الجنان لذة بريئة ومرحاً حراً في مجرد التقاء الأرواح بالأرواح على بساط من العفوية والبساطة. كان أنس البساتين ينعقد حول فناجين الشاي والقهوة المرة أو قهوة اللوز البيضاء مع بعض الطرب من المسجلات التي يحملها معهد النساء «أومن فرق موسيقية نسائية بسيطة كانت تنتشر وقتها بغرض المغنى في البساتين وإذا حل البساط إلى المساء كانت تعرض بعض أفلام السينما المصرية القديمة، كأبي فوق الشجرة والشموع السوداء وصغيرة على الحب، وقبل صلاة العشاء كانت الجموع النسائية تعود إلى بيوتها لتبدأ طقسها الليلي داخل أسرها بعد ان غسلت الأنفس بأسرار البساتين.
هذا كان من زمان أخاله ليس بعيداً ولكنه لا يطال مهما مددت يدي حين كنت طفلة وكنا نجيء لزيارة خوالي كطقس سنوي عزيز لا نفرط فيه كان المجيء إلى الطائف العيد الثالث في طفولتي.
وبهذا الإحساس المفعم برائحة المظبي والسليق والسلاة والندى المنبعث من كف خالي هاشم كلما جمعنا في المثنى والحوية والخرار والشفا والردف.. وبهذا الحنين الحارق إلى اللعب مع جهير والبنوري وخالد على سطح بيت عمتي موضي الصيفي بالشرقية حملت أبنائي على زيارة الطائف.. ولكن عبثا كنت أبحث عن اخيلة لم يعد لها وجود على ما يبدو إلا في مخيلتي وحدي، عبثا كنت احاول إقناعهم بأن هناك في يوم ما كان على هذه الأرصفة الصماء طائف غير الطائف وانه كانت هناك بساتين صاخبة غير حدائق البلدية المحتضرة، حتى الطبيعة التي حكيت لهم عن سخائها الفطري في مطر يومي هناك يبدأ بالبرد.. خذلتني.. لم يكن ثمة بساتين تنادي بخضرتها وأنسها على المصطافين.. لم يكن ثمة مصطافين أصلاً.. لم يكن هناك راعية فارعة بثوبها المزركشي ولثامها تدخل الأغنام من المطر إلى ساحة البيت الخلفية، لم يكن ثمة نساء جميلات لا يخفين من وجوههن إلا المبسم يغزلن الصوف على عتبات البيوت وكأن الزمن من تلك الأعتاب إلا بإذنهن. لم يكن ثمة بائع تميز بسن ذهبية ويد حرير تنفث النار في التنور وتحول الأرغفة إلى وجوه باسمة، وفي نفس الوقت لم يكن هناك أي سمات مدنية حديثة لحلم السياحة الذي يملأ الصحف. كانت هناك وحشة قاتلة تفصل الطائف حتى عن ماضيه القريب، وتحول بين الطائف وبين اللحاق بالحاضر ناهيك عن الالتحام بالمستقبل. لم تكن إلا شوارع الواجهات التي لم تستطع ان تخفي الحالة الرثة لقلب المدينة وشرايينها التي تعلقت برقبتي كعلامات استفهام لادغة، هل تحولت الطائف بأمجادها التاريخية وبحضورها الحضاري العريق من مدينة ضاجة بالشباب إلى قرية كهلة تنزوي باستحياء على الخارطة، أين كانت الطائف أيام الطفرة وما بعد الطفرة.. لا أدري ولم يكن في إطاره من يبدو أن لديه الاستعداد للتمعن في مرارة السؤال ولو بح صوتي.
كان هناك فندق الهدى وفندق الحوية من فنادق الخمسة نجوم وكأن كل منهما بكل ما أوتي من رفاه غريب لا ينسجم مع واقع الحال الذي آل إليه المكان يحاول ان يكون شاهداً بطريقة استثمارية لئيمة على الانكسار الذي يحوم حول كبرياء تلك المدينة التي لا تريد ان تنحني رغم ما حل بها من جحود ونكران.
غادرت الطائف ولكن انى لأطياف الطائف ان تتركنا دون ان نستعيد لها بعض جمالها ومجدها ولو بالسؤال إلى من يهمه السؤال.. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved