أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 16th July,2001 العدد:10518الطبعةالاولـي الأثنين 25 ,ربيع الثاني 1422

محليــات

يارا
ثلاثون عاماً يا كتاب الهوى
عبدالله بن بخيت
أفطرت؟ قال: أيه نعم. قال: أفطرت فولا وطحينية؟ قال لا. قال أجل ما أفطرت.
لا يمانع أن يفطر جبنا أو بيضا وأخرى يذهب إلى العمل بدون فطور ومؤخرا صار ممكنا أن يفطر كورن فلكس. ولكن تعريف الفطور في رأسه هو فول وطحينية معززان بثلاث أو أربع بيالات شاهي. ثلاثون عاماً متواصلة لم يفوت فيه الفول إلا عددا محدودا أي ما يعادل مرة في السنة. وهذه تأتي بحكم الظروف القاهرة. فمشكلته الأساسية أنه طيب ويجامل. يضطر في الأحيان النادرة أن يفطر عن أحد أقاربه أو أحد أصدقائه.فيقبل فطورهم دون شروط. ولكن من حسن حظه أن الناس لا تعزم بعضها بعضاً على الفطور. وطالما أن الأمر حالة نادرة فمن باب المجاملة والتمدن لا بأس أن يتنازل ويفطر عند الآخرين فطوراً خارج تعريف الفطور الحقيقي.
تكرست حالة الفول عنده منذ أكثر من ثلاثين سنة عندما التحق بوظيفة تفرض طبيعتها أن يذهب مع الحكومة إلى الطائف في أزمنة الانتدابات بالكوم. وكما هو معروف منذ القدم )من ذاق فول الطائف فلا بد أن يعود إليه( مثل ما يقول إخواننا المصريون من ذاق ماء النيل لا بد أن يعود إليه )طبعاً إذا عقم أكثر من عشرين مرة(.
مشكلته التاريخية ليست في الفول وإنما في الطحينية يستطيع تاريخياً أن يتتبع علاقته بالفول منذ أول لقمة حدثت في الطائف فيما يعرف بالحلقة )السوق المركزية(. وحتى يومنا هذا. بل يستطيع أن يعطيك خريطة المدن السعودية المتعلقة بالفول يحدد فيها كل مواقع بيع الفول وأصنافه وجودته على أساس أن الحلة كانت مركز انطلاقة الفول في تاريخه الشخصي وتاريخ مدينةالرياض. أما انطلاقته العاطفية مع الفول فتبدأ من الطائف. وأظن أن ارتباط الفول مع الطحينية في حياته لها سابقة طعم تقليدية. وهي علاقة التمر بالقهوة. فالتضاد في الطعم وما يحيق باللسان من لذة وهو يلوك الضدين هو سبب ربطه الفول بالطحينية. ولكن هذا كلام نظري وأكاديمي لا يودي ولا يجيب وبالتالي لا يعتمد عليه.
مع أنه في البداية عندما تعرف على الفول، الفول الحقيقي وليس فول اليمانية في الرياض، أي فول الطائف تحديدا لم يكن في حاجة إلى اقحام أي مادة مساندة للفول في فمه. فالفول كان وحده كفيلا باعطائه اللذة التي لم تستطع والدته رحمها الله أن تعطيه أياه من ثديها. ولكن عندما تعرف على الطحينية وخلطها مع الفول في أول فطور من نوعه عبر عن ذهوله بالصمت ولم يبح بالحقيقة المتفجرة في داخله. فبداية علاقة الفول بالطحينية في حياته لا يمكن أن نقصها لأنها تفتقر إلى الأحداث الدرامية.
كان يجلس القرفصاء. ومد يده وقطب له خبزة صغيرة. ثم أخذ قطعة طحينية وغرسها في الخبزة. ومن باب الفضول مرر الخبزة المحشوة بالطحينية على حافة صحن الفول، دون مراعاة أو انتباه، حتى أنه كان حينها ينصت لأحد زملائه في سالفة شدت انتباهه. فأرسل الخليط إلى فمه بنصف انتباه، بل بربع انتباه وعندما أطبقت حنوكه على الخليط أغلق شفتيه فجأة، ثم ومضت عيناه بسرعة لم يكن لأحد من الجالسين أن يلاحظها. كبس مرة ثانية على الخليط وخلطه باللعاب المتدفق بغزارة وقام اللسان بتمريره بسرعة وبارتباك على أنحاء الفم باحتفالية لم يعد لها بشكل جيد. فأجمعت حواسه الفمية ونقاط تذوق اللذة فيه على أن هذا شيء يحتاج إلى تعديل في الجلسة كما يحتاج إلى كل الحواس وتفاصيل الانتباه التي خلقها الله في الجسد الإنساني. فتوجهت الأوامر العاجلة إلى الدماغ الذي حولها دون إبطاء إلى العضلات، فنهض ومسس ثوبه ثم عدل الوضع وطلب من زميله أن يزحف له. ثم جلس متربعاً وتناول عدداً محدوداً من اللقم وهو في حالة من غيبوبة، اللحظات الأخيرة من اجتماع المحبين. فجأة نهض دون أن يكلم أحداً ودون أن يقول كما جرت العادة )أكرمك الله( . سار تاركاً المكان وسط دهشة كافة زملائه. وفي اليوم التالي دخل عليهم في المستودع حيث تعودوا أن يتناولوا الفطور فيه، وعلى كتفه تنكة بيضاء لا يقل وزنها عن خمسة عشر كيلو غراما. عرف الجميع أن زميلهم احضر تنكة طحينية كاملة تكفي بقالة. ما كان الأمر يحتاج إلى مقدمات وإلى تعوُّد أو إلى تدريب فقد تأكد له بالغريزة أن الفول ُولد ليؤكل مع الطحينية وأن الطحينية هي ربيبة الفول. وحتى هذه اللحظة ومنذ ثلاثين عاماً ما زال طعم أول لقمة فول مخلوطة بالطحينية تمارس نفس القوة والسلطة على فمه التي مارستها في أزمنة الانتدابات الأولى.
وفي كل صباح ليس أمامه إلا أن يردد مع نزار قباني:
ثلاثون عاماً يا صحن الهوى وما زلت في اللقمة الأولى

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved