أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 17th July,2001 العدد:10518الطبعةالاولـي الثلاثاء 26 ,ربيع الثاني 1422

الثقافية

لافتة
«ثقافة المدن المفقودة»
عبدالحفيظ الشمري
الاهتمام المحلي والعالمي أصبح الآن مصوباً نحو المجتمع المدني وما تفرزه آلة الاستهلاك اليوم حتى أصبحت السمة البارزة لبناء المجتمع هي البحث عن المنتج الاستهلاكي، وطريقة ترويجه، وتقديمه بهذه الصورة الجنونية بحثاً عن المكاسب المادية أولاً وأخيراً..
المدينة الحديثة أجهزت على جملة من البراءات، وحطمت العديد من القيم، وصادرت جانباً مهماً من ثقافة الأمة، وأدب مجتمعها، وابداع شاعرها أو قاصها..
فلم تعد «المدينة» هي المكان المناسب لقول كلمة هادئة ودودة، أو هي الخلفية المناسبة لتنامي فضاء سردي صادق.
ربما إن أردت أن تقول شعراً أو قصة فيجب عليك الذهاب بعيداً عن عوالمها.. في صحراء نائية بعيدة، أو قرية معزولة مهمشة لتداهمك الوساوس، وتفر من ذاتك الهواجس اليومية ويحل مكانها ألم ذلك الجرح الغائر في أعماقك.. ذلك الذي خلفته زوبعة الطفرة الغادرة.
المدينة في الابداع الأدبي الحديث بدأت تفقد وجودها، وان حضرت فهي على شكل حضور مشوَّة.. ليتجسد في هذا السياق مأزقها إذا ما سلمنا بأهمية حضورها المكاني الذي يلازم صور البناء الأخرى في العمل الأدبي.
سيجد للمتتبع للطرح الابداعي أن فضاء المكان المنبئ عن المدينة قد أخذ طابع التغريب فلم تعد المدينة ذلك الهاجس الحميمي الجم، وإنما أصبحت شبحاً يطارد الشخوص والأبطال ليظل الزمن هو المحرك الأوحد لفعاليات النص الابداعي..
فالراوي في رواية أو قصة ما غير مكترث بالمكان العام.. إنما يحاول ما وسعه الأمر أن يجعل المكان ضيقاً، قريباً، صغيراً غامضاً، متهالكاً لأن منطلقاته أصبحت سطحية، وضحلة ولم تعد المدينة هي الفضاء المكاني المناسب لتفاعل الأحداث، أو سرد الوقائع..
أذكر أن القاص العماني محمد اليحيائي صوَّر المدينة الحديثة في مجموعته «خرزة المشي» تصويراً دقيقاً أثبت فيها أن المدينة لم تعد هي الفضاء المكاني المناسب لكتابة نص قصصي أو مشهد روائي.. فالمدينة في فضاء السرد تخلت عن أمومتها المألوفة، وأصبحت وكراً اسمنتياً متسامقاً للأفاقين، والنفعيين، والمأجورين، والغرباء، والمرتزقة الذين قدموا من كل مكان.. فلم يعد القاص قادراً على الخوض في تفاصيل تلك الوجوه التي أخذت باغتيال «المدينة» في قلوبنا.. بل إنها تطل في كل عمل وكأنها كابوس موحش صاخب كما في رواية «الفردوس اليباب» لليلي الجهني أو مسخ من أماكن مهجورة في الليل ومتقدة في النهار يملأ اللصوص الأنيقون شوارعها وبناياتها كما في قصص «هناك أشياء تغيب» لزينب حفني..
المدينة الآن لا تمتلك أي هوية وما يقال فيها وعنها هو من قبيل استعادة الماضي، واسترجاع تلك الصور القوية والمؤثرة في بناء الفضاء المكاني لها.. المدينة نامت في أحضان البناء النفعي فلم يعد لها أثر ثقافي يرتبط بتلك الرموز الثقافية والحضارية الغابرة.. في تونس والمغرب وبقايا حضارة الأندلس، وصور أخرى لمدن المشرق الشام والعراق وشرق بعيد.. في آسيا الوسطى وحضارات وممالك هي المكان المؤثر والفاعل في الأدب الانساني.
يبقى أن نشير إلى ضرورة عقد مصالحة مع هذا المارد العصري المسمى «المدن الجديدة» لعله يجد لنا في كنفه ناديا أدبيا، أو مرسما، أو مسرحا.. لعلنا ننجو من هذا الطوفان الاستهلاكي الجامح.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved